2006-09-03

في اربعين محمد الماغوط

في أمسية غياب كهذه، وفي المكان هذا، كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب علي اسم الراحل ممدوح عدوان. لم يحضر محمد الماغوط كاملا، لعجز عكازه عن اسناد جبل. لكنه حضر صورة شاحبة وصوتا متهدجا ليذكٌرنا بأن للوداع بقية.ذهبنا اليه في صباح اليوم التالي. كانت العاصفة مسترخية علي أريكة، تشرب وتضحك وتدخن وتعانق زوارها. كانت العاصفة مرحة فرحة بما تبقي فيها من هواء وضيوف، ولا تأسف علي ما فعلت باللغة وبالنظام الشعري. فهي لا تعرٌّف الا من آثارها عندما تهدأ. هدأ الماغوط ونظر الي آثاره برضا الفاتح المرهق. قلنا له وقال لنا ما يقول العارفون بأن اللقاء وداع. وضحكنا كثيرا لنخفي خوفا أثاره فينا انكبابه علي ترتيب الموعد القاسي مع سلامه الداخلي، فمثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.لكنه لم يكن حزينا ولا خائفا مما يتربص به. وضّع الماضي كله علي المائدة، ووزع علي كل واحد منا حصته من الذكريات والمودة، قرأ لنا ما يدون من خواطر يومية عاجلة، فهو في سباق مع معلوم يشاغله بالطرق علي فولاذ المجهول. وحياني بقصيدة، فخجلت، وقلت في نفسي: لماذا لم يصدٌِقني من قبل؟وهو، الذي لا يحب الإعلام، ابتهج بوصول فريق اذاعي، ربما ليعلن وصيته الأخيرة علي الملأ: أوصيكم بالحب... فهذا الغاضب من كل شيء لم يغضب إلا لأن الحب في هذا العالم قد نضب. ولم يغضب الا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف. ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين. ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية، بمعناها الشخصي والعام، ما زالت مستعصية علي العرب والعاربة والمستعربة... والإعراب!فوجئنا بصحافي يسألنا بلا رحمة: هل جئتم الي الماغوط لحضور جنازة مبكرة؟ تحسس كل واحد منا قلبه وتلعثم، الا هو، هو النسر الوحيد في ذروته، ملتفا بكبرياء الأعالي وبمصاهرة البعيد. لم يكن سؤال الموت سؤاله ما دام يكتب... ففي كل كتابة ابداعية نصر صغير علي الموت، وهزيمة صغري أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! وكنا نعلم اننا جئنا للقائه لنتدرب علي وداعه.رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرٌاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن الا علي شعريته وحريته، وعلي قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدي صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجما دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماض لا يمضي وغد لا يصل. كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!رأي الماغوط الهاوية فخاف. خاف بشجاعة المقاوم. فنظر الي الأفق بعيون الشاعر الطائر، فخاف ثانية، وقاوم الخوف برؤيا الشاعر الحالم، فماذا علي الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرة لانتمائه الي الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟لكن هذا الخائف علي عفوية الحياة، وعلي العلاقة السرية بين الأشياء والكلمات، رأي الخوف كما تجري المواد الأولية لبناء الكابوس، فقاومه بحرية الكلمات في تحرير صاحبها وقارئها، وقاومه بالتخلي عن حنين اللغة الي ماضي أطلالها وقصورها معا، وبفروسية من لا يملك شيئا ليخسره، وأكاد أقول: بمغامرة يأسه اشتق الأمل لغيره، فأخاف ما يخيفه، كما تجخيف الملحمة الشعرية الموت المتربص بأبطالها وقرائها الخالدين. لقد أخافت لغة الماغوط الساخنة الساخرة الجميع من فرط قوة الهشاشة في أعشابها، ومن فرط دفاعها عن حق الوردة في حماية خصائصها.وهو فضيحة شعرنا. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه الي وحدات ايقاعية تقليدية المرجعية، وتبحث عن موقع جديد لقيلولة القافية: في آخر السطر أم في أوله... في منتصف المقطع أم في مقعد علي الرصيف، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر علي الشعر في مكان آخر. كان يتشظي ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد الي لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي الي حواسه وهي تملي علي لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله الي معرفة الشعر... هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتي.انقضٌّ علي المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ولا شعرا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا علي اعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر علي حال، لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الي الشك بيقينها الجامد.لم يختلف اثنان علي شاعرية الماغوط، لا التقليدي ولا الحداثي، ولا من يود القفز الي ما بعد الحداثة. حجتهم هي ان الماغوط استثناء، استثناء لا يجدرج في سياق الخلاف حول الخيارات الشعرية. لكنها حجة قد تكون مخاتلة، فما هي قيمة الشاعر إذا لم يكن استثناء دائما وخروجا عن السائد والمألوف؟ لذلك، فنحن لا نستطيع ان نحب قصيدة الماغوط ونرفض قصيدة النثر التي كان أحد مؤسسيها الأكثر موهبة. وإذا كانت تعاني من شيوع الفوضي والركاكة وتشابه الرمال، علي ايدي الكثيرين من كتابها، فإن قصيدة الوزن تعاني ايضا من هذه الأعراض، الأزمة إذا ليست أزمة الخيار الشعري، بل هي أزمة الموهبة، أزمة الذات الكاتبة. فنحن القراء لا نبحث في القصيدة إلا عن الشعر، عن تحقق الشعرية في القصيدة.سر الماغوط هو سر الموهبة الفطرية. لقد عثر علي كنوز الشعر في طين الحياة. جعل من تجربته في السجن تجربة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية، وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئا علي الأحياء. وهو الآن في غيابه، أقل موتا منا، وأكثر منا حياة !ألقيت هذه الكلمة في حفل تأبين الشاعر الماغوط في دمشق

No comments: