2006-02-10

لو أعدت كتابة دواويني لاكتفيت بخمسة

إنه حديث عن الشعر، وليس أكثر بداهة من الكلام عن الشعر مع شاعر وخاصة إذا كان بوزن محمود درويش وحضوره وأثره العام، لكن الكثيرين يجدون دائما مع درويش سؤالا أحدث من الشعر وأكثر إلحاحا، ربما لأن الحدث الشعري الأهم موجود في دواوينه، ولأن الوجه الفلسطيني له أكثر استدرارا للكلام، والأرجح أن درويش الذي قال في شعره كل شيء عن الشعر وبملء حريته، بالطبع، شعر أن الكلام الطويل عن الشعر يقيده، فالتأمل في الشعر يظل عوداً على بدء وخيطاً في الظلام. لم يكتب درويش عن الشعر إلا قليلاً ولم يول للتنظير الشعري إلا قليلاً. لقد صنع شعره من دون أن يحير قراءه بمثال نظري وبدون أن يلتبس فيه الشاعر بالمفكر في الشعر. كفاه الالتباس الذي لا ينفك بين الشاعر والفلسطيني... الشاعر أولا بالتأكيد عند درويش، وما فعله هو أن يبقى الشعر أولا وتصدر عنه كل البطاقات الأخرى. لقد جعل فلسطينيته عنواناً آخر للشعر وحولها إلى ملحمته وميتافيزياه وإشكاله الأنطولوجي. لا يخسر الشعر بذلك، لكننا مع درويش نتكلم أيضاً سياسة رفيعة ونبيلة ومفعمة بقلب ووضع إنسانيين. قبل محمود درويش أن نتكلم عن الشعر وحده طوال ساعتين. تجربة خاضها باسترسال وطلاوة ولكن أيضا بتأن وتمعن، ولا أعرف إذا نجحنا في أن نترسم بياناً شعرياً لدرويش من هذا الحوار أم أن بيانه الفعلي موجود في قرابة 20 ديواناً. الزميلة الشاعرة عناية جابر حضرت المقابلة وتدخلت فيها

آخر مرة التقينا فيها قلت لي أن الشاعر ينبغي أن لا يقرأ كثيراً من الشعر، وبهذا المعنى فإن الشعر ليس المصدر الأول لشعرك. هل تقرأ شعراً قبل الكتابة مثلاً؟

أقرأ دائماً. ولكن حين أكون منكباً على كتابة نصوص شعرية، وأنا من عادتي أن اكتب في الصباح، فإنني لا أقرأ قبل أن اكتب. أقرأ فقط ساعتين في الليل أو بعد الظهر، إذ مهما كانت الذاكرة محصنة من الاقتباس فأي قراءة قد تتغلغل في اللاوعي. أخاف أن تسقط مما قرأته أصداء في نصي الشعري... ومع أن كل النصوص هي كتابة على كتابة، فإن دخول ما ليس منك إليك يكون مباشراً إذا أنت قرأته قبل الكتابة مباشرة. لذلك لا أقرأ شعرا، بل موضوعات بعيدة كليا عن الشعر لكي لا يتداخل نصي مع النص القادم من مصدر آخر في لاوعيي. لكن مهما حمينا أنفسنا فإن كل نص لأي شاعر فيه نصوص لشعراء آخرين. الكتابة الشعرية كما قلت هي كتابة على كتابة. المهم أن تجد صوتك الخاص وتنفسك الخاص بعيدا عن هذه المؤثرات التي هي حتمية. لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشراً

› ما دمنا في القراءة، أتشعر بأن حساسيتك للشعر الذي تقرأه وانفعالك بهذا الشعر يقلان مع الزمن؟

هذا يتوقف على أي شعر أقرأ. إذا تكلمت بشكل عام عن الشعر العربي فالجواب نعم، حساسيتي تقل، وكذلك دهشتي، ذلك لأن تطلباتي تزيد، ولأن إنجاز الشعر العربي لا يقدم مفاجآت كبرى. هناك شيء من النمطية يكاد يسود كتابتنا الشعرية. الأمر يختلف عندما أقرأ شعراً أجنبياً وخاصة في شعر بدايات القرن العشرين. أجد دائما عند ذاك جهوزية للاندهاش والفرح بالعمل الشعري. أحس بأننا نحن العرب ذاهبون إلى مكان تركه الآخرون منذ قرن

› هل هناك بين الشعراء الأجانب الكبار من فقدت مع الزمن الانفعال بهم، وكانوا مدهشين لك ومؤثرين فيك خلال صباك؟

كنت أظن ذلك، حسبت أن علاقتي ببابلو نيرودا خفت، وكذلك علاقتي بناظم حكمت، لكني قرأت حكمت ونيرودا من جديد، فوجدت العكس وخاصة حكمت فهو مظلوم إذ صُور عند القارئ العربي على أنه شاعر سياسي مباشر وأن شعره لا يحمل إلا البعد النضالي
وأنت حين تدقق فستكتشف أن جماليات شعره تجعله قابلاً للقراءة في أي زمان. نيرودا لم يتعرض لهذا الاتهام، فقد بقيت له مكانته الشعرية وخاصة في شعر الحب، هو الذي اشتهر عند العرب كشاعر نضالي كانت عبقريته الشعرية أساساً هي في شعر الحب والنشيد الشعري
لوركا أيضا أثر بي كثيراً في فترة معينة ثم تراجعت علاقتي به، لكن أعود لقراءته فأجد أن غنائيته لا تزال تحركني، غرائبية صوره وسورياليتها ومفارقاتها وتبدل وظائف الحواس فيها. الشاعر الكبير يظل كبيراً. من ليس كبيراً يختفي. ماياكوفسكي لا أشعر بالرغبة في إعادة قراءته ولكني قرأت مؤخراً كتاباً عن سيرة حياته وأدركت إلى أي حد كان مسكوناً بالهاجس الشعري وبإجراء تفجيرات حقيقية في اللغة الروسية وبالإيقاع الشعري الروسي. هو بهذا المعنى بقي شاعراً كبيراً

مشكلتنا نحن العرب أننا وضعنا الشعراء تحت لافتات، كان على اليساريين أن يحبوا نيرودا وماياكوفسكي وعلى غير اليساريين أن يحبوا ت. اس. إليوت مثلاً، مع أن إليوت شاعر لا يستطيع أن ينجو من سحره وتأثيره أي يساري. الآن انتفى المقياس الأيديولوجي تماماً في علاقتنا بالنصوص الشعرية فأصبحنا أكثر حرية في قراءة النص، وكذلك أصبح النص أكثر حرية في اختراقنا. أي أصبح عندنا إلى حد ما قراءة بريئة أكثر منها وظيفية، فقد كنا نقرأ قراءة إلى حد ما قراءة غرضية لكي نخدم انحيازنا إلى مفهوم محدد للشعر. الشعر العظيم لا يتوقف عند هذه الحدود والحواجز الأيديولوجية
حساسيتي تتغير فعلاً من وقت إلى آخر، وليس لها علاقة بهذا الشاعر أو ذاك. كذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الشعر القديم. لم أكن أحب دائماً أن أقرأ المعري. أقرأه اليوم وأكتشف فيه شيئا غير الحكمة... علاقتي بأبي نواس هي كذلك. أبو نواس لا تتوقف أهميته على انه جدد في الموضوعات، هذا تعليم مدرسي، بل أهميته في كم هو شاعر، في كم غيّر في اللغة الشعرية وكسّر جهامتها وكلاسيكيتها بالمفهوم الزمني ذاك. أمتلك الآن حرية قراءة أكثر من السابق

علاقتي بالشعر الحديث تغيرت، فلي الآن نظرة مختلفة تجاه شعر ما يسمى بشعر الرواد الذي طالما احتفينا به، كثير منه لا أستطيع أن أقرأه اليوم. لا تطلب مني أن أسمي. معظمه حتى لا أستطيع أن أقرأه، وإذا قرأته أحاسب نفسي وأسألها ما الذي أعجبها من قبل فيه. عمري الشعري ومستوى تطور الشعر العربي الحديث سمحا يومذاك بأن تكون هذه النماذج هي الأفضل، لكن الآن وبعد مرور حوالي 50 سنة من الشعر العربي الحديث صار من حقنا أن نعيد النظر في كثير من شعر الرواد

البياتي مثلاً؟ أخبرتني مرة أن أحد الشعراء الأوائل الذين قرأتهم في فلسطين كان البياتي

في أحاديثي لا أسمي. لا أحب أن أدخل في مناوشات لأن رأي الشاعر بالشاعر ليس مقبولاً عندنا حتى الآن، السبب البسيط هو أن الشعراء شهّر بعضهم ببعض إلى حد أنهم فقدوا مصداقية إبداء الرأي في شعر بعضهم ببعض، فلكثرة ما هشّم بعضهم بعضاً وما كسّر بعضهم بعضاً، لا نصدق أن أحكامهم على بعضهم تصدر عن منطلقات فنية

›استطراداً أسألك، قلت إن الرواد بمعظمهم بعيدون حالياً عن ذائقتك، هل ترى أن جيل ما بعد الرواد كان أفضل بمعنى ما؟

أفضل أو ليس أفضل، هذا حكم قيمي. الأساس في الموضوع هو أن طموحهم الشعري أعلى ووعيهم الشعري أرقى ومعرفتهم الشعرية أغنى أيضاً. تمردهم على الرواد أعطى شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن يقينيات الرواد. في شعر الرواد كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها قد تكونان تقليديتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما الشعراء الذين بعدهم فإن نظرتهم للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية بالنسبة إلي هي كيف تعيد الحياة إلى اللغة على إيقاع زمنك الحديث، هذه بالنسبة إلي حداثتنا العليا الشعرية

أي حداثة هذه، هل يمكن الكلام عن حداثة عربية؟

لست أتكلم عن حداثة عربية، الحداثة مفهوم شامل للمجتمع. عندنا تحققت الحداثة فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، لكن الحداثة هي إعادة النظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد، هذه لم تتحقق، لكن هل على الشعر أن ينتظر تحديث نفسه إلى أن تتم الحداثة بمعناها الشامل؟ نحن من دون حداثة غربية لا نعرف أن نناقش في الحداثة. ولا يمكن الحديث عن حداثة عربية بمعزل عن تأثرها بالحداثة الغربية. السؤال هو كيفية التأثر، هل هي نسخ، أم هضم واستيعاب

قتل المعنى

هل ترى بناءً على ما سبق أن شعر الرواد كان شعر بيانات واقتراحات بينما الأجيال التالية كان مطلوباً منها أن تحقق إنجازات موضعية أكثر منها بيانات شاملة واقتراحات مبدئية....؟

بالتأكيد أوافق. وأضيف أيضاً أن شعر الرواد كان شعر تبشير بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها. كان هذا دورا تاريخيا مهما لأن الجيل الجديد لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد ومع القديم الخ... هكذا ورث حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني ومع المقدس. إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع تجربته ويغامر أكثر. جرأة المغامرة عند الجيل اللاحق كانت أعلى من الجيل الذي قبله لأن المناخ بات صالحا للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى
أما حكم القيمة على هذا الإنجاز، فلست أنا من يستطيع تقديمه

أنت شخص كرّست نفسك للشعر تقريباً وقلما كتبت شيئا غير الشعر، وأنت من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر، هل تجد نفسك مع كل هذا النتاج الشعري الوفير أنك قد عبّرت عن نفسك أم لديك إحساس وقد يكون مفهوماً بأن كل ديوان جديد هو صمت إضافي؟

أحب أن أقول إني لم أدخل في كتابة التنظير والنقد الأدبي من منطلق أن من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً، الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته، ومع احترامي لشعراء كثيرين في العالم كانوا نقاداً كباراً وشعراء كباراً أيضا، بول فاليري وأوكتافيو باث، وكذلك ت. اس. إليوت ومونتالي الإيطالي... هناك نماذج كثيرة تكسر رأيي وتنقضه، لكني لم أدقق إلى أي حد كانوا بعيدين عن الانحياز إلى خيارهم الشعري، وإلا فلماذا تبنوه. الذي يتبنى مذهبا في الشعر عليه أن يقدم مرافعة نظرية للدفاع عنه وتأييد التيارات التي تدور حوله. في رأيي أيضاً أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه. أي إن الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته النقدية لشعره

سألتني عن النظر إلى الوراء. عندما أنظر إلى الوراء لا أنظر برضى أبداً وإلا لما تعبت إلى هذا الحد، أقدر على نقد ذاتي وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر، أقدر أيضاً على إعادة النظر في كل نص، ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي وهي حوالي عشرين كتاباً فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط. لكن لا أحد يتحكم في عمره، كل عمر له تعبيره وقدراته. قلقي أكثر من طمأنينتي، لست مطمئناً إلى ما فعلته وأحاول دائما الوصول إلى منطقة تشبه ما يسمى وهذه طبعاً تسمية مستحيلة الشعر الصافي. ليس هناك شعر صاف، ولكن علينا أن نصدق أنه موجود لكي نواصل البحث والكتابة عنه، أي إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. هذا المستقبل موجود أم غير موجود، لا أعرف، لكن يجب أن نصدق أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع، مع أن الشاعر، في الجهة الأخرى أو في التناقض الآخر، هو ابن عصره ولا يستطيع أن يؤجل كما قلت أمس لا الهنا ولا الآن إلى زمن آخر. هذه مهمة لا ندري كيف تتحقق. ربما يحصل ذلك بفضل قلق الشاعر وهجسه بخلق جماليات تصلح للقراءة في زمن آخر إذا أمكن، هناك اليوم شروط أوفى ليكون الشعر أصفى وأجمل (لا أريد أن أقول أنظف) وأقل توفيقية أي أقل هوميرية، إذ لم يعد هناك أي ضرورة للهوميرية. كتبت في ديواني الأخير أنه لو كان التلفزيون موجوداً في حرب طروادة لما كتب هوميروس الإلياذة، بل لكان كتب الأوذيسة. هناك مهمات يقوم بها علم الاجتماع وعلم التاريخ والصحافة والإعلام، كان الشاعر يُحمّل أعباءها، ونحن العرب حتى زمن قريب كنا نعتقد أن دور الشعر القديم ما زال موجوداً فينا فعلينا أن نكون مؤرخين ومناضلين وأنثروبولوجيين وعلماء أساطير لكي نكون شهوداً على زمن ما. علينا أن نعرف أن هذه مهمات لا يستطيع الشعر أن يقوم بها وحده، بل يجب أن تكون هناك حركة ثقافية كاملة تقوم بهذه المهمة

هكذا نجد أنفسنا أمام مسألة مهمة وهي نظرة العرب للشعر التي ربما تحكمت جزئياً بالقصيدة الحديثة، أن تكون القصيدة شاملة، أن تكون ثقافة كاملة، أن تكون القصيدة رؤية وتاريخاً وفلسفة وشعراً وبرنامجاً نظرياً ورأياً في الشعر...

نعم صحيح.

›لم يؤرق هذا الشعراء الشبان الذين لم يكونوا يوماً أمام قصيدة بهاجس التأريخ لمرحلة أو وصف مرحلة أو الكتابة عن قضية... إطلاقاً

أتكلم عن مرحلة سبقت وضع الشعر الحالي. من حسنات الأصوات الجديدة في الشعر العربي أنها تشعر بأن عليها أن تكتب ذواتها الصغيرة، مشاكلها الصغيرة، هامشيتها.. الخ. بحثها عن المعنى مختلف في المفهوم القديم للمعنى. كان المعنى يسبق النص، الآن يتجلى المعنى من خلال البحث عنه في داخل النص. الفارق الحقيقي النوعي بين الشعر التقليدي والشعر الحديث هو الموقف من المعنى، لكن يجب ألا نسرف في قتل المعنى، بحيث يصبح الشعر الحديث كأنه لا معنى له إلا إنجاز اللامعنى، لأن التمرد على المعنى إلى هذا الحد هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته

في الهامشية معنى أيضاً

بالضبط، ولكن ينبغي ألا نتطرف. هناك حركة وقول وأحاديث وانعكاسات لرياح قادمة من مكان آخر تقول بأن الشعر الحديث يجب أن نبشر فيه بموت المعنى، وأن موت المعنى هو المعنى الحقيقي للوجود

› إذا توقفنا قليلاً عند المعنى، كما قلت في كلمتك أمس (في كوكتيل دار الريس) كنت معك ومع شار، الذي يقول إن فقدان المعنى لا يجوز أخلاقياً وليس شعرياً فقط. لا يجوز أن يتكلم الواحد بلا معنى ويتقصّد اللامعنى، ومع ذلك هل المسألة هي مسألة وجود معنى أم إمكانية استقبال معنى؟

إذا دققنا فلسفياً في الموضوع، فحياتنا المعاصرة تموت المعاني الكبرى فيها وتتساقط. لذلك يحاول الشعر أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي. أنا أميل أكثر إلى حقنا في العبثية واللعب، فهذا قد يكون الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى، أن نكون عبثيين أو لاعبين أو ساخرين، لا أن نرد على اللامعنى بلامعنى. أن نقدم لحياتنا معنى عبثياً فهذا معنى واختيار فكري. أن تكون عبثياً أو عدمياً، هو اختيار، قد يُحترم وقد لا يُحترم. هذا على كل حال بحث آخر. سؤالك عميق جداً، هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس عن الحركة حتى. إذا فهمنا أنه لا إمكانية لإنجاز معنى فمعناه أننا دخلنا في ما يشبه الموت المعنوي كلياً، وفي موت الإرادة وفي الموت الحسي أيضاً وربما في الموت الميتافيزيقي

› لننتقل إلى تعريف كالذي كان يقول إن الشعر كلام بالصور، لأي درجة يبقى هذا التعريف صحيحاً إذا قارنا الشعر بعلم الفلك، فأي عالم من الصور يبقى
منذ النصوص الشعرية الأولى التي كتبها الإنسان أو قالها شفهياً ودوّنها في ما بعد، وحتى الآن، لم نستطع أن نعثر على تعريف كامل وصالح لكل زمان للشعر، كان هناك اجتهاد بأن الشعر يُعرّف بنقيضه، لكن السؤال: ما هو نقيض الشعر؟ ما هو اللاشعر. كان يقال مجازاً إن نقيض الشعر هو النثر، وان الفرق بينهما هو أن الشعر يعتمد على الاستعارة، حسناً... لكن الاستعارة موجودة أيضاً في النثر. ثم كان يُقال إن الشعر يعتمد على التخييل، لكن التخييل أيضاً يمكن أن يكون موجوداً في النثر. ثم قيل إن الشعر يحدده الإيقاع، وشرطه الإيقاع، لكنْ للنثر أيضاً إيقاع. إذاً نحن بهذه التعريفات لا نبحث عن القصيدة بل عن تعريف للشعرية، أي إن الشعرية تعتمد على الاستعارة والتخييل والإيقاع... لذلك يجب أن نبحث كيف تتحقق الشعرية في القصيدة. أقول ذلك لنسهل الوصول إلى تعريف ما، كيف يمكن للشعرية أن تتحقق في القصيدة؟ أنا أعتقد أن ذلك يتحقق من خلال نظام بنائي إيقاعي، ولا أقول إن الشعرية في القصيدة أكثر شعرية منها في النثر، فقد تتحقق الشعرية في النثر أكثر مما تتحقق في القصيدة، لكن لنستطيع أن نقول إن هذا شعر، مجازاً، يجب أن نقول إن هذه الشعرية تحققت في القصيدة لأن بناءها ونظامها الإيقاعي هما هكذا. الصور طبعاً مكوّن أساسي، لكنها ليست كافية وحدها، فهي أيضاً مكوّن أساسي للنثر. الشعر نعرفه من خلال نظامه البنائي الإيقاعي، وكل شاعر يختار نظامه، فليس هناك نظام محدد مسبقاً، لدى أي ديوان لشاعر عليّ وأنا في هذا العمر الشعري أن أدرس وأفهم ما هو النظام الداخلي لشعره المتحقق في قصيدته. في الحالة العربية هناك إسراف في الصور، وهذا جاء في المرحلة الوسطى بين الشعراء الرواد والشعراء الحاليين الذين تكلمنا عن حسناتهم ولم نتكلم عن بعض عيوبهم وأهمها الإسراف في تكديس الصور المجانية بدون أن يكون لهذه الصورة الشعرية وظيفة جمالية ولا منطق بنائي أيضاً. الصور المجانية تثقل القصيدة وترهقها ونخرج بلا معنى معها. الصورة يجب أن تكون لها وظيفة يحددها الشاعر أو تخضع لمتطلبات بناء القصيدة وشكلها، وإلا فالصورة السينمائية أرقى. الصورة جزء من مكوّنات عدة في بناء القصيدة وليست مكوّناً أساسياً

الإيقاع والفكر

هناك أمر أُهمل في القصيدة الحديثة، وأتصور أنه ينبغي أن نفكر بإعادة النظر فيه وهو الموضوع. هناك تصور يقول بأن القصيدة الحديثة بلا موضوع، وبفقدان الموضوع يصبح للقصيدة الحديثة موضوع واحد هو ذاتها، فالقصيدة تقول نفسها، وفي محل آخر تقول اللغة وتعيد قول نفسها

رأيي أن كلامنا السابق عن المعنى مرتبط بالموضوع، فغياب المعنى هو إحدى نتائج غياب الموضوع. أنا لا يهمني موضوع القصيدة، بل تهمني الكيفية التخييلية التي كُتب بها هذا الموضوع، لكن الموضوع هو جسد القصيدة. القصيدة بلا موضوع لا تكون هشة فقط بل مشغولة بالتحديق بنفسها

› هل كمّ التخييل إذن هو الذي يمكن أن يخلق الموضوع؟

لا، بل الكيفية

هناك أيضاً شعر جميل مع أن القصيدة ليس لها موضوع لكن فيها جماليات وإيقاعات تنسيك أنها بلا موضوع، وحينها تكون شبيهة أكثر بالموسيقى التجريدية

إذا تجاوزنا مسألة الموضوع، هل يمكن للكلام أن يكون متماسكاً إن لم يكن منطلقاً على الأقل من بؤرة واحدة، هناك شعر منتشر، هناك كلام فلكي، ترى أنه لا يملك نقاط ارتكاز أو بؤراً ينطلق منها، ألا يجعلنا ذلك في المكان ذاته؟

نعم يبقينا في الموقع ذاته، وكما قلت فإنه يجعل القصيدة مشغولة بالتحديق بذاتها، بنرجسيتها، والقارئ يطلع منها لا أقول محايداً ولكن كأنه لم يكن فيها ولم يقرأها، لا هي اخترقته ولا اشترك هو في إعادة كتابتها. في الوقت نفسه أنا من التسامح بحيث لا مانع عندي أن يجرب البعض قصيدة لا موضوع لها إلا ذاتها. السؤال هو ما نتيجة هذا الجهد؟ لوحة تجريدية، قطعة موسيقية، هل يملك الشعر مقوّمات تجريدية حتى هذه الدرجة؟ أنا أشك، لأن الشعر يحتاج إلى ماء وتراب وعناصر هي التي تعطيه الحياة، ولا يستطيع أن يكون تجريدياً إلى هذا الحد لأن التجريد قد يوصل إلى حذف اللغة، وقد نصل حينها إلى ما يسمى <<شعر بياض>>. أنا أنحاز إلى موضوع، ومعنى، وبناء، وعناصر، تشكل قوام جسد شعري واضح، لكني لا أستطيع أن أرفض تجارب تسعى في منحى آخر. القصيدة منذ لحظة كتابتها الغامضة ذاهبة إلى مكان ما، وهناك فكر ما يقودها، قد تستقل عن هذا الفكر وتتمرد عليه وتأخذ فكراً آخر، لكن لا بد من أن تكون خاضعة لتصور مسبق عنها، بحيث لا تُترك حرة لتداعيات وثرثرات ومجانيات بلا نهاية لأن القصيدة فيها فكر ما، فكر شعر، يقودها، قد لا تنصاع له إلى حيث يريد، وهي قد تغير اتجاهه، لكن في البداية هناك بؤرة (كما سمّيتَها) يطلع منها إشعاع ما يحدد الاتجاه والتعديلات تحصل أثناء العملية. لا بد من خطة مسبقة، ليست عقلانية، عندي شيء أريد قوله وعندي إحساس أريد التعبير عنه، لست أكتب كتابة آلية، لست سريالياً، مع انه حتى السريالية والكتابة الآلية كانتا تقودان إلى شيء ما وليس إلى عبثية كاملة، والسريالية أثّرت في شعر غيرها أكثر مما أثرت في ذاتها. أما أن أمنح استقلالاً كاملاً للقلم والورقة ليشتغلا بدون تدخل مني، فأشك بأني سأصل بذلك إلى أي مكان

› في كتابتك لقصيدتك، هل تملك قبل الكتابة نقطة ما تنطلق منها؟

يكون لدي تصور ما، حالة ما، فكرة ما، أو موضوع ما، لكن شكل ما سأكتبه لا يكون واضحاً لي. كما قلت لك. لديّ رقابة على حركة القصيدة، وفي كثير من المرات تستقل القصيدة بحركتها، وهذا أفضل. إذ تقودني القصيدة أحيانا إلى معنى لم يكن خاطراً في بالي مسبقاً.

› لكن أليس للذاكرة دور هنا؟

طبعاً للذاكرة واللاوعي دور، فلا شيء يأتي من بياض، والذي يكتب هو جسد وعقل، لكن كيف تأتي الصورة من زمن بعيد جداً، لا نستطيع التحكم بمعرفة هذه الكيفية. حين أكتب يكون عندي تصور إما غامض أو واضح بأني أريد أن أقول شيئاً، قد يفلت من يدي، عندما يكون المعنى واضحاً تماماً وتكون القصيدة مرتبة في ذهني تكون النتيجة أسوأ. اللغة واللاوعي وتداخل الأزمنة تنتج قصيدة أفضل من قصيدة مخطط لها سلفاً. إنما أنا عندي تخطيط، وخاصة في المطوّلات. خطة تخضع طبعاً كما قلنا لتعديلات أثناء العملية لكن لا أشرع مرة في الكتابة وأنا لا أعرف ما سأكتب. أكتب أحياناً استمراراً لحلم ما، عندي دائماً إلى جانب سريري ورقة وقلم، أحياناً أحلم أني أكتب شيئاً أعتبره رائعاً، أحلامي ساذجة جداً، لكني أبدأ بالكتابة عندما يتحول كل هذا الذي أهجس به إلى إيقاع، ولا أكتب قبل أن يصبح إيقاعاً. ليست الفكرة ولا الصورة هما ما يجعلانني أكتب. حين تأخذ الفكرة والصورة إيقاعهما أعرف أنني بت قادراً على أن اكتب

تخريب اللغة

› أوكتافيو باث يقول إن الإيقاع ليس هو النغم فقط، بل هو إذا جاز التعبير الشكل الذي ينتظم القصيدة، ينتظمها لحناً وينتظمها فكرةً وينتظمها لغة

هذا شيء صحيح، كما قلت لك فالفكرة ليست كافية. الفكرة يجب أن تتحول إلى صورة، والصورة إلى إيقاع. صحيح ما يقوله باث، فالإيقاع جزء من التفكير. أعطيك دليلاً على ذلك من نفسي، فأنا لا أعرف أن أكتب قصيدة نثرية لأني لا أعرف أن أجد إيقاعاً نثرياً، لست متدرباً عليه، قد يكون في نثري الذي أعتبره نثراً لا قصيدة نثر شعرية أكثر وإيقاع أعلى، لكني لا أعرف أن أكتب قصيدة خارج الإيقاع والوزن، سأكتب حينها فكرة مجردة أو أضع صورة لذاتها. انه تدريبي النفسي وطريقة تنفسي إيقاعياً.... الإيقاع هنا ليس فقط ضبط الفكرة، إنه طريقة تنفس الشاعر، لذلك أقول دائماً إن الإيقاع ليس وزناً، فأنا أميز بين الوزن والإيقاع. الوزن هو أداة قياس، وإلا لكان الوزن الواحد ذا إيقاع واحد، الوزن الواحد الذي له إيقاع مختلف عند كل شاعر، لأن طريقة تنفس كل شاعر مختلفة عن الآخر. الإيقاع أعمق من أن يكون فقط ضبط وزن، بل إن طريقة تنفس كل شاعر في كل مرة تتغير. الإيقاع مكون ومايسترو للفكرة وطريقة تنفس أيضاً. وأنا لا أعرف أن أتكلم شعرياً إلا إيقاعاً ولا أعرف أن أبدع في الكتابة الشعرية إلا إذا دندنت بها، وأحياناً الإيقاع وحده يجعلني أكتب قصيدة. في كتابي الأخير تجربة لعبة إذ كتبت قصيدة كاملة ليس فيها أي فعل، كلها أسماء، واسمها <<هي جملة اسمية>>، لكني وجدت أن لها موضوعاً أيضاً. تمكني من الإيقاع جعلني أقدر على كتابة قصيدة كلها اسمية. قد أكتب قصيدة كلها أفعال، ربما أجرب كتابة قصيدة كلها حروف جر، وقد تصح. هذه الأمور بحاجة إلى تدريب وحب للغة وإيقاعيتها، ينبغي أن يكون عندك التباس بين اللعب والجد، أن تلعب إلى درجة بالغة الجدية، أو أن تكون جاداً إلى حد العبثية

أود أن أسأل عما إن كانت اللغة بذاتها فقط استدعتك مرة إلى كتابة قصيدة ما تسميه أنت لعبة وقد يسمى توقيعاً أو تجويداً

لا جمالية شعرية من خارج اللغة. اللغة العربية غنية جداً والكلمة الواحدة تحمل معاني عدة وتكرارها وتغيير حركة واحدة فيها واحدة قد يخلقان معاني مضادة، كأن نقول مثلاً: عزف على البيانو أو عزف عن الشيء، هذه الامكانية تحرض أحيانا على رقص مجاني في القصيدة. جميل أن نرقص قليلاً، لا مشكلة في ذلك. اللغة بذاتها، إيقاعاتها وجماليتها واشتقاقاتها، ثم إننا نحن العرب، أي شاعر عربي أو أستاذ لغة عربية في الجامعة، إذا أجري له امتحان مفاجئ في معنى مفردة من صفحة تفتح عشوائيا من لسان العرب، فسيرسب. كل يوم نكتشف كم لغتنا متعددة وواسعة ولا نعرفها جيداً. فعندما يلم الشاعر بمعرفة لغوية جديدة يستهويه أن يلعب بها، مع أني لا أسرف في اللعب اللغوي

› هل برأيك أن الشعر هو اللغة الأقوى والأفصح؟

هناك رأي لا أعرف لمن هو، ربما لهايدغر، يقول بأن الشعر هو أساس اللغة وهو الذي يحمي اللغة لأنه بدأ شفهياً قبل نشوء اللغة. الشعراء وأصدقاء الشعراء من الفلاسفة يحبون أن يقولوا إن الشعر هو أرقى أشكال التعبير الإنساني. لا أعرف. ربما تكون الموسيقى أرقى

› أقصد في اللغة، هل الشعر أمتن صياغة لغوية؟

المفترض أن يكون كذلك، لكن إذا أردنا أن نحاكم حالتنا الشعرية نجد أن في شعر الشباب وخاصة لأن قصيدة النثر هونت عليهم الإحساس بالمسؤولية نقصاً في المعرفة اللغوية، هناك الكثير من القصائد أضعف من مقال متين. المفروض أن يكون النص الشعري أرقى الأشكال اللغوية. المفروض أن يكون هو ما يحمي اللغة ويجددها. من وظائف الشعر أن يعطي دائماً حياة جديدة للغة، هو الذي يجدد اللغة. لا تتجدد اللغة إلا على أيدي الشعراء، لكن ليس شعراءنا، ليس نحن. ذلك كان في الماضي، أما الآن فلا أعرف، ربما كان الشعراء يخربون اللغة. أنا أفهم التخريب الداخلي الواعي، تخريب النظام اللغوي أو هذا النسق اللغوي، لكن شرط أن يفعل ذلك شاعر كبير ولغوي كبير، أما التخريب الناجم عن جهل بحالة المبتدأ والخبر فهو غير مقبول

يجذبني دائماً اسم المهلهل الذي هلهل الشعر، والذي أخذ قيمته الشعرية من جعله الشعر ضعيفاً لغوياً. الهلهلة هي شيء من الفوضى والركاكة، ولذلك توحي لي هذه الكلمة أحياناً بأن اللغة القوية هي النثر أحياناً وهي الأدب، الأدب الذي يبتعد عن المصادر الأولى للكلام، الشاعر مضطر لأن يبقى دائماً بمحاذاة هذه المصادر الأولى للكلام، أشعر تالياً بأن الشعر ربما ليس اللغة الأقوى، بل هو يجدد هلهلة اللغة أو ضعفها

لا، إذا كانت الهلهلة توصل إلى إحياء اللغة وتقريبها من الحياة واستيعاب عصرها الجديد فهذه تقوية للغة. نحن نتكلم عن مسألتين، عن اللغة والفصاحة. كان كل كلامك ضد الفصاحة، أبو نواس فعل ذلك، لكنه يتقن اللغة إتقاناً كاملاً ولديه معرفة رائعة بها. أنا أقبل الهلهلة من هؤلاء. إذا كانت الهلهلة تؤدي إلى إعادة الحياة أو إعادة الماء إلى عروق اللغة الجافة، فهذا برأيي تقوية للغة وليس إضعافاً لها. بأي معنى تقوي هذه الهلهلة اللغة؟ تحييها. أنا لا أستطيع أن أتكلم بلغة الجاهليين في القرن العشرين. الشعر الحديث، لذلك، أجرى هذه الهلهلة بمعنى أنه قرّب اللغة الفصيحة من اللغة المحكية أو لغة الحياة اليومية ومن وسائل الحياة المتداولة. مثلاً من ت. اس. إليوت أدخل اللهجات اللندنية الخاصة في نص كبير من روائع شعره. الهلهلة بهذا المعنى إعادة الحياة إلى لغة تصلبت شرايينها. ولذلك نحن لا نقبل الشعر العمودي

في كتبك الأخيرة لا نجد إلا نادراً نهاية لكل بيت شعر، هناك نص متوالٍ متصل بحيث يمكن اعتبار كل النص بيتاً واحداً، هل انتهى تقسيم البيت. ما دمنا نتكلم عن عناصر الشعر؟

أظن أن البيت الشعري انتهى عندي منذ عشرين سنة، إلا إذا اقتضى قفل القصيدة أن يكون هناك بيت شعري. أنا أحب أن أمزج بين السردية والغنائية، امزج العناصر المشتركة بين الشعر والنثر. أحب أن يبدو نصي بصرياً كأنه نص نثري، ربما لا يصدق أحد إلى أي مدى أنا أحب النثر أكثر من الشعر، ولا أعرف لماذا يخاف الناس من كلمة النثر. النثر أرفع مستوى وأنبل. ثانياً، القصة التي أحكيها، تجربتي الحياتية التي أحكيها، ليست منظمة بحيث تعتمد على أبيات لها بدايات ونهايات. في كتابي الأخير وربما الذي قبله، القصيدة قد تُقرأ من أول كلمة إلى آخر كلمة على أساس أنها سطر واحد. أنا أرى أن هذا يعطي حيوية حركة وتصويراً لارتباك وفوضى ما منظمة في داخل بناء يبدو أنه فوضوي. أنا أرد على الفوضى الخارجية بفوضى بصرية لكن منظمة إيقاعياً. ثم أن نفسي الشعري طويل، أحب السطر الطويل، أحب الكرم في السطر الشعري. أتضايق كثيراً من شعر بلند الحيدري مثلاً لأن السطر عنده لا يتجاوز ثلاث كلمات مع أحرف الجر. لا أحب هذا البخل. قد يوحي مزجي بين السردية والغنائية، إلى حد ما، بنفس ملحمي، والنفس الملحمي يقتضي هذا السطر الطويل لأن القصيدة سطر واحد عملياً. هناك سطر وبيت شعري، لكن حجمه أو محتوياته قصيدة كاملة. هناك بعض قصائد تأخذ شكل الأغنية فيها سطور، لكني لا أحب تسكين آخر السطر الشعري، أحب أن يكون آخر السطر الشعري متحركاً، فإذا كتبت سطراً شعرياً وسكنت ثم كتبت بعده سطراً شعرياً فسيبدو هذا شعرا عموديا. أريد أن أوحي بتداخل الأشكال والمناخات وأحب أن أسترسل، ومع أن القصائد مقتضبة إلا أن السطر نفسه مسترسل وفيه جيشان داخلي

الأنا والآخر

› أثناء قراءتي الديوان الأخير لك فوجئت بأن القارئ، بقليل من الجهد، يستطيع أن يجد كأن هناك موضوعاً أساسياً أو لازمة كتابية متكررة، رأيت أن مرجعها وإن قيل انه أبو تمام، إلا انه قد يكون بورخيس، انه تعدد الأنا والتباس الأنا بالآخر، إلى أي حد يمكن القول أن احد مقومات <<لا أعتذر عما فعلت>> هو هنا، وكأنه يطرح إلى حد كبير سؤالاً دعنا نسمّه فلسفياً مؤقتاً؟

لمَ لا. ليس من عادتي أن أتكلم عن شعري، فلأفعل ذلك الآن على سبيل التجربة، الكتاب هو دفتر زيارة للذات وللمكان، لذلك وحتى لا يعرف القارئ إلى أين هو ذاهب وضعت هذا المفتاح، بيتاً لأبي تمام، توارد خواطر مع لوركا، <<لا أنا ولا البيت بيتي>> على لسان لوركا، بينما أبو تمام خاطب نفسه: <<لا أنت أنتِ ولا الديار ديارُ>>. هذه فعلاً رحلة بحث عن الأنا المنقسمة والموزعة. البحث عن المكان أسهل لأن المكان تغيّر بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى تغير في شكل المكان، هناك صورة بصرية (على الأقل) لا تحتاج إلى استقراء استشرافي ولا إلى بصيرة فالمكان تغيّر عياناً. الصعب هو علاقة تغير المكان بتغير الأنا، أو تغير الأنا وعلاقتها بتغير المكان. من الذي غيّر الآخر؟ هذا إشكال لم أجد له حلاً

سؤالك الثاني إشكالي أكثر من الأول. هناك آخران: الآخر الذي هو أنا، حين أقرأ نفسي من خارجها والآخر الذي هو الغريب، المختلف، الخصم، وهو موجود في مكاني بدلاً مني، التنقيب (اركيولوجيا) عن الذات، يصطدم بواقع، بحاضر، بتاريخ، بحروب، بتراكم ثقافات، بتعددية. إذن لا بد من الدخول في سجال فكري مع الآخر الذي احتل المكان لأنه يحمل نفس الدعوى التي أحملها أنا ويدّعي أن هذا مكانه وأنني أنا الغريب فيه، هو أيضاً في حيرة لأنه لا يجد نفسه. هناك اصطدام بحثين، اصطدام ذاتين تبحث كل منهما عن ذاتها في الآخر، لكن أنا أجرأ من الآخر في البحث عن نفسي فيه، هو لا يملك الجرأة الوجودية على أن يبحث عن نفسه فيّ لأنه ينكر وجودي، وإذا اعترف بأن فيه شيئاً مني يضع وجوده نفسه موضع تساؤل

ما قلته كان تفسيراً لم يخطر على بالي، لكن بعد كلامك أكتشف شيئاً غريباً هو إلى أي حد قد يصبح الموضوع الفلسطيني قاعدة لما يتعداه، لما هو ميتافيزيقي وأنطولوجي، أثناء قراءتي الكتاب لم أفكر مرة بالفلسطيني بل كنت أفكر في متاهة الكون، في السؤال الأنطولوجي: من أنا ومن الآخر؟ وهل هناك أنا أصلاً؟

قدمت لي الآن أحسن إطراء سمعته في حياتي، بمعنى أنني إذا استطعت أن أنقل هذه الحالة الشخصية التي تبدو صغيرة إلى الفهم الأرقى والإنسان الأشمل فذلك يعني أني نجحت إلى حد ما في الوصول إلى ما تكلمنا عنه أثناء الحديث، أي إعطاء الشعر جماليات تمنحه إمكانية العيش لا في زمن آخر فحسب بل في وعي آخر أيضا. أنا سعيد جداً بقراءتك

› من امتيازك الشعري أن الغربة الفلسطينية تحولت إلى أوذيسة كونية، قدرتك على ملحمة فلسطينية وعلى خلق أسطورة حديثة... هنا السؤال الفلسطيني يتحول إلى سؤال ميتافيزيقي وجودي، وهذا يمنح الشعر ميزة ويجعل قراءته غير مشروطة بمعرفة الظرف الفلسطيني

حتى فلسطين ليست مذكورة في الديوان إلا مرة واحدة وعلى لسان ريتشاردز لا على لساني

لكن عندي سؤال لا يتعلق بشعرك مباشرة بل بالشعر عامةً، واحد مثل ميشونيك يشكو من سطوة الفلسفة على الشعر الحالي، ويرى أن الفلسفة تؤذي الشعر. هذا رأي وهناك رأي آخر يرى أن إحدى مشاكل الشعر الحالي أن الشعر في الأساس تغنٍّ بالعالم وعندما يتحول إلى نقد للعالم يصبح عقيماً

الشعر الكبير لا بد من أن يخترقه فهم ما أو رؤية ما للكون والوجود، وهو ليس تعبيراً عن هموم شخصية وخاصة. السؤال هو كيف تتجلى المعرفة بكل أبعادها، المعرفة التاريخية والمعرفة الفلسفية... كيف تتجلى في النص الشعري. الخلاف ليس على أن يكون للقصيدة محمول ثقافي. رأيي أن النص الذي لا يحمل تاريخاً وثقافة هو نص هش، السؤال هو كيف تتجلى كل هذه المسائل، هل تتجلى تجلياً واضحاً، تجلّي مقولات، تجلّي اقتباسات، أم هي متغلغلة في النص وتتجلى عبر الحواس؟ في رأيي أن أي معرفة أو فكر لا يتجلى عبر الحواس يعاني مشكلة حقيقية. على الشاعر الذكي أن يكون جسدياً بمعنى حسي، المعرفة يجب أن تتجلى شعريا من خلال الحواس، لا من خلال الذهن والمقولات. الذهن موجود والمقولات موجودة والمعرفة موجودة، كلها موجودة كخلفيات، لكن كيف تدخل في النص وتتغلغل فيه، يجب ألا تكون مرئية وأن تحسن إخفاء مرجعياتها بحيث يطلع النص عند أول اصطدام بالسؤال ولا يبدو بحث البحث. يجب أن نميز بين النص الشعري والنص الفلسفي. قد يستعمل الشاعر جملة فلسفية، لا مشكلة، لكن على النص أن يمتصها. أنا منحاز إلى تجلي الفكر حسياً لا ذهنياً

إذن ما رأيك بما يسمى <> أو القصيدة الضد لما يسمى القصيدة الموضوعية التي تفترض أن يكون الشعر خارج الغناء وخارج الذات؟

هناك أيضاً دعوة من ناقد ألماني إلى عدم البحث في الشعر عن الجماليات
والبحث عنها في أشكال فنية أخرى، إلى قصر الشعر على الموقف والسياسة. هذه كلها اجتهادات لبحث الشاعر عن حضوره ودوره، والأسئلة التي كان يبدو أنها انتهت منذ زمن تعود من جديد، ما الوظيفة الاجتماعية للشعر والشاعر. مسألة ضدية الشعر هي أيضا جزء من البحث، إلغاء الغنائية وإلغاء الإيقاع الخ... هذه تجارب مفتوحة وجميل أن تكون مفتوحة لكن في آخر الأمر نعود ونقرأ الشعر في الليل فلا نفتح هذه الكتب. ما زلنا نحن، وكل العالم، لا نحب أي شعر لا نسمعه. العين لا تكتفي بالقراءة. صديقك أوكتافيو باث يقول إنه لا شعر مكتوباً، الشعر كله شفهي أي مسموع، والمكتوب كله وهم. حتى العين عندما تقرأ الشعر تستبدل وظيفتها، تصبح مستمعة، فحين تقرأ نصاً شعرياً فإنك تدندن به وتستمع إلى إيقاعه. كل هذه التجارب الجميلة ضرورية بالنتيجة، لكن حين نعود ونقرأ الشعر فإننا نطلب أن نشعر بشيء من الطرب، (هذا الرأي يهزك) نطلب طرباً، نطلب موسيقى. لكن مفهوم الطرب يختلف هنا، حتى حين نتكلم عن الصمت ونستنطقه فإننا نستنطقه صوتياً. لذلك يبقى عندنا حنين دائم لأول الشعر الذي هو الغنائية، الإنشاد، الرقص، وحشة الكون أو هدوؤه، نريد دائماً شيئاً مسموعاً. لذلك لا أفهم حتى الآن الغضب العربي الحديث من الغنائية، لا أفهم تعريف الغنائية في الشعر العربي. في باقي الشعريات العالمية الغنائية هي ما ليس درامياً وما ليس ملحمياً، عندنا ربط ميكانيكي بين الغنائية والرومنطيقية، بين الغنائية والغناء والتطريب، مع ذلك فإنك لدى أكثر الشعراء حداثة في العالم حين تحب مقطعاً شعرياً لأحدهم تقرأه بصوت عال. عيناك لا تكتفيان بملامسة النص. في آخر الأمر أجد أن الموسيقى ثابت في الشعر، كما أصبح أيضاً شبه محرم عندنا هو العواطف، نحن العرب نربط بين الحداثة وإلغاء الإحساس. يقال إن العواطف شيء مائع. طبعاً هناك عواطف كثيرة مائعة، وت. اس. إليوت أحدث معادلاً موضوعياً، أما إلغاء العاطفة كلياً... فلا. قد تدعي القصيدة أنها من دون عواطف وهذا أرقى أشكال العواطف. الحسية والعواطف والإيقاع، هذه عناصر يجري البحث عن تجديد مفهومها لكن ليس إلغاءها. هناك إيقاعية جديدة، غنائية جديدة، وهناك أيضاً حسية جديدة، لكن لا تُلغى هذه العناصر الثلاثة إلغاءً كاملاً. طريقة التعبير عنها تتغير لحمايتها من الإرهاق، فأي شيء يتكرر يصبح مرهقاً، واللغة أيضاً تتعب. فما هو الآن حديث جداً وعظيم جداً يصبح بعد فترة تقليدياً. لذلك يحتاج الشعر دائماً إلى تجديد طريق توسّطه بهذه العناصر، طريقة تعبيره عنها، طريقة توظيفها في القصيدة. أما الاستغناء عنها... فلا أتصور موسيقى بلا نغم

› الموسيقى الحديثة بلا ميلودي... ولم ينصحوني بسماعها حتى في ألمانيا
أنا سمعتها، هناك موسيقي سويسري ألّف سيمفونية كاملة عن حالة حصار بهذه الطريقة، ودعاني إلى سماعها، وأثناء ذلك طلبت من الذي إلى جانبي أن يوقظني إذا نمت، وهو أيضاً طلب مني ذلك. كان هناك جمهور كبير، وأعيدت على المسرح ثلاث مرات. أحترم ذلك. يجب أن نكون ديمقراطيين فنقبل بكل هذه التجارب. لماذا لا نزال نقرأ شكسبير، ونقرأ المتنبي. كلما كان لدينا حنين إلى شيء قرأنا المتنبي أو أنشدنا أبياتاً منه. التمرد الصحي جداً يتم في جيل معين، وحين نبلغ سناً معينة نعود فنسخر من تمردنا، نتسامح مع ماضٍ تمردنا عليه

التصوف

ألاحظ في شعرك أن احد المراجع المفترضة للقصيدة الحديثة وهو التصوف، لا يحضر في قصيدتك، مباشرة على الأقل، سواء في ذلك النص الصوفي أو النظام الصوفي أو المصطلح والقاموس الصوفيين

أنا شديد الإعجاب بالنثر الصوفي لا بالشعر الصوفي، وليس كل النثر، هناك نثر صوفي تتحقق فيه شعرية لم تتحقق في الشعر العربي، وأنا أعتقد أن بذور الحداثة الحقيقية في الشعر العربي موجودة في نصوص النثر الصوفي، لكن الصوفية منطقة مخاطرة بالنسبة إلي، مخاطرة لأنها تقترن بشيء من الدين، سواء في معانقته أو التمرد عليه، وأنا لا أحب دخول هذه المنطقة. ثانياً، من فرط ما تحولت ملامسة النص الصوفي في الشعر العربي الحديث إلى موضة أصبحت تقليدية، وأصبح التمرد عليها من شروط الحداثة الحقيقية. كتبت نصاً واحداً هو الهدهد على هامش منطق الطير، وطربت وأنا أبحث وأكتب... لكني لاحظت أن ذلك يأخذني إلى منطقة مغلقة، فهناك حلقة مفرغة يدور فيها النص ويصل إلى منطقة لا أحب دخولها، هي المنطقة الميتافيزيقية، أدخلها كاستعارات، كاستطرادات، كتأويلات لكن لا أدخلها كمنطقة عمل، لأني أخاف منها، وهي لا تعنيني كسلوك ولا كخيار فكري

› هل هذا يعني أن شعرك دائماً على الأرض؟

في شعري أرض، هناك شيئان يحملان النص الشعري: أرض وتاريخ. نصي الشعري محمول دائماً على أرض وتاريخ، حتى في الهدهد عدلت في نهاية منطق الطير، بحيث صار الهدهد يحن إلى الأرض التي انطلق منها. حاولت أن أدخل في المراتب المعرفية التي عند الصوفيين، ولكن عندما وصلت إلى أبعدها عدت بالطائر (الهدهد) إلى الأرض ورأى الأرض من فوق. تنتهي تلك القصيدة الطويلة بغناء راقص لجمالية الأرض، لأن اللغة تبدأ من الأرض

ربما ترفض لشعرك أن يكون ثقافياً بالكامل، إن وجد مجازاً شعر ثقافي؟

بالمعنى الاصطلاحي لا أحب أن يكون الشعر ثقافياً

› في القصيدة الحديثة هناك رأي يستبعد وجود قاموس شعري خاص يرى أن الكلمات ليست شيئاً إلا داخل الجمل والعبارات، وأنه لا وجود لكلمات مستقلة وألفاظ مستقلة، لكننا نرى أحياناً أن هناك كلمات لها سحر خاص وأن هناك قاموساً خاصاً بكل شخص. هل تشعر بأن لك قاموساً خاصاً بك، كلمات تجتذبك أكثر، وكلمات تستدعيها أكثر؟

صحيح، لكني منذ سنوات بت أنتبه وألاحظ أن هناك كلمات ترد كثيراً عندي وحين ترد في النص أستبعدها. أكتبها ثم أحذفها، لأني لا أريد لقاموسي الشعري أن يكون له مفاتيح وكلمات محددة. صرت أتقصد استبعاد مفردات معينة ربما كانت ضرورية، لكني أستبعدها وأبحث عن غيرها حتى لو كانت بديلتها هجينة

الخسارة

› كشاعر فلسطيني، شعرك اقترن على نحو ما بالقضية الفلسطينية أو المسألة الفلسطينية، وكنا نتحدث قبل قليل عن ميزة هذا الشعر بنقله هذه المسألة لتكون أكثر كونية، لكن ما يهمني في الموضوع أنك كشاعر تبدو لي دائماً كشاعر مراثٍ، كشاعر رثاء، وبمعنى من المعاني إذا أردت شاعر تعزية، لا أطلب منك أن توافق على هذا القول، وإذا أردنا أن نستطرد في هذا الكلام، إلى أي حد أنت شاعر الهزيمة الفلسطينية أكثر منك شاعر الانتصار الفلسطيني؟

أتمنى أن يكون هناك شاعر آخر للانتصار الفلسطيني، أتمنى أن نصل إلى انتصار، وكما قلت لك في حديث منذ سنوات، أتمنى أن أكون شاعراً طروادياً. ليس الشاعر هو من يحدد الهزيمة أو النصر. من سوء حظي أنني لست شاعر الانتصار لسبب بسيط هو أننا لم ننتصر، وإذا انتصرنا فلست متأكداً من أنني سأكتب عن النصر، فلفرط ما أدمنت لغتي الشعرية الخسائر، أصبحت غير قادرة على أن تكتب نشيداً وطنياً منتصراً. ثانياً ليس هناك شاعر انتصار، والشعر دائماً حليف الخسائر الصغيرة والخيبات، وهو المتفرج المحايد على الجيوش الإمبراطورية. أعتقد أن صورة طفل يتفرج على جيش الاسكندر فيها شعر أكثر من جيش الاسكندر كله، أو أن العشب الذي ينبت على خوذ الجنود هو الشعر وليست الخوذ هي الشعر
لا أريد أن أفلسف المسألة، لكن لا أظن أني شاعر مراثٍ. أنا شاعر محاصر بالموت. قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء. الموت عندي ليس استعارة، ولست أنا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة. عندما كتبت الجدارية التي هي عن موت شخصي كان في نيتي أن أكتب عن الموت، حين قرأت القصيدة بعد كتابتها رأيتها قصيدة مديح للحياة. قد يجد بعض القراء عزاءً في شعري عن خسائر ما، لكن من الظلم أن تسميني شاعر عزاء

› لا تتخيل إطلاقاً أنها كلمة سلبية، المعزي أقرب الأشخاص إليّ

أحاول أن أحمي هذه الصورة بتمجيد أشياء صغيرة، أعشاب وصخور وزهرة لوز الخ... اكتشفت متأخراً أن الشعر لا يستطيع أن يحارب الحرب لا بأسلحتها ولا بلغتها، بل بنقيضها، نقيضها الهش، يحارب الحرب بالهشاشة الإنسانية، بنظرة الضحية في عيون الجلاد، من دون أن يفهم الجلاد ما تقول الضحية، بعشب متروك على الطريق، بأولاد يلعبون بالثلج... بالعناصر الإنسانية الصغيرة تستطيع أن تقدم صورة حياتية نقيضة للحرب لكنك لا تستطيع أن تقاتل الحرب بأسلحتها ولا بلغتها، والشعر أصلاً لا يستطيع أن يفعل ذلك الشعر الحديث لم يعد قادراً على فعل ذلك. هو يحارب بنقيض ذلك، أي بجماليات الحياة البسيطة، الصغيرة، الهادئة، غير المفكرة، البديهية... بالفطرة. ولا يستطيع أن يحارب بخطاب كبير. أظن أن هذا أكثر تأثيراً لأن اللغة الكبيرة انتحار. لغة الملاحم الكبرى والانتصارات الكبرى انتهت
لا أعرف إلى أي حد أنا مهزوم أو منتصر. ربما أنا منتصر باللغة الشعرية، ربما انتصاري هو الشعر، وهذا إن كان صحيحاً فهو تفوق حضاري وثقافي مهم. الإسرائيلي منتصر بالسلاح النووي والطائرات... أنا أعتبر نفسي منتصراً بالقصيدة. الطائرة تسقط أما القصيدة فلا تسقط إن كانت جميلة. الخطر هو أن يكتب شعر جميل لكن الشعراء الذين يكتبون شعرا جميلا ليسوا مع الحرب

الأزمة

› ألا ترى أن القصيدة العربية الآن في مشكلة. بداية لنتكلم عن قصيدة التفعيلة التي لا أرى أي شاعر شاب مهماً فيها، هل ترى مستقبلاً لقصيدة التفعيلة، وهذا الكلام ليس انتصارا لقصيدة النثر بل فقط لتقسيم السؤال

لست متأكداً من ذلك، لكن ما هو السبب هل هو التفعيلة أم الشاعر؟ إذا باشرنا قراءة إحصائية للشعر العربي الذي يُنشر نجد أن عدد القصائد الأجمل فيه هي بالصدفة مكتوبة بالنثر، وهي أكثر من القصائد المكتوبة بالعمودي أو التفعيلة. هذا إحصائياً، لكن كيف نستطيع أن نحول ذلك إلى حكم قيمي، لا أعرف. كيف نستنتج منه استنتاجاً نقدياً، لا أعرف. أعرف شعراء نثر كثيرين جيدين يعترفون بأنهم لا يعرفون الوزن، لكن أيضاً هناك من يكتبون التفعيلة... مثلاً عندنا في الشعر الفلسطيني غسان زقطان، رهاني الشعري كبير عليه، وهو يكتب تفعيلة

› أتكلم عن شبان جدد، عن شعراء في الثلاثينات من العمر

لا أعرف إلى أين سنصل بهذه الملاحظة، قصيدة التفعيلة عمرها ليس أكثر من ستين سنة، ومن الغريب أن تدخل في هذه الفترة الزمنية القصيرة في هذا المأزق.... لكن خصوم قصيدة النثر يقولون أيضا إن عمرها الزمني اقل وهي أيضاً تراجع نفسها... إذا أردنا أن نقيس أطوار الشعر العربي وننتقل من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر، فما هو الطور المقبل، هل تعود الدائرة أم ندخل في اللاكتابة؟ كيف نتكهن بمستقبل الكتابة الشعرية؟
لمَ لا تقول إن عندنا أزمة إنجاز إبداعي. هل الأزمة في خيار الشكل هذا أم عند الشاعر نفسه. لا أعرف كيف أشخص

› عندي إحساس بأننا في كل شيء وليس فقط في الشعر، نتجه كلنا نحو نموذج واحد، في الثقافة في الشعر وفي غير الشعر... تجد فجأة أن هناك اتجاهاً نحو التنميط أو نحو نمذجة سريعة جداً لكل شيء، لذلك أرى أن المشكلة مشكلة ثقافة وليست مشكلة إبداع، حتى الشعراء الذين يقعون في التنميط ليست عندهم مشكلة قيمة إبداعية إذا ما وجدوا أنفسهم أمام خيارات شعرية ثقافية أوسع

تتكلم عن نمذجة، لكننا الآن نعيش في الحقبة التاريخية نفسها كل تاريخ الشعر العربي. لا تزال هناك الآن قصيدة عمودية يكتبها مئات الشعراء، وهناك قصيدة تفعيلة يكتبها آلاف الشعراء، وهناك قصيدة نثر يكتبها عشرات آلاف الشعراء... هذه النماذج كلها تعيش في حقبة تاريخية واحدة. حتى ثقافياً كل واحد ينتمي إلى تاريخ مختلف. ليس عندنا مرجعية واحدة

› لا أتكلم عن مرجعية، نجد أنفسنا في كل نوع أمام قصيدتين أو ثلاث ويجري اللعب والشغل عليها بعد ذلك، والأمر نفسه قد يصح في قصيدة النثر. كثرة الشعراء لا تعني كثرة القصائد

كلما كثر الشعراء قلّ الشعر. في رأيي لكن من المبكر الجزم بأننا في مأزق. إذا قرأت في السنة عشر قصائد جميلة في شتى الخيارات، فإن الشعر بخير. خذ تاريخ الشعر العربي كله من الجاهليين حتى العموديين اليوم، كم شاعراً كبيراً تجد، عشرين شاعراً؟ لكن عشرات الآلاف كتبوا. حكمنا ينبغي ألا يكون كمياً. لكي يطلع شاعر كبير يجب أن يتوافر شعراء كثر
تجربتنا لم تصبح تراثا، ولم تدخل في حالة كلاسيكية بالمعنى النسبي حتى نحكم عليها. نحن لا نزال في خضم معركة التجديد. لا أريد أن أتسرع في إصدار أحكام

لا نجد أحدا من الشبان يملك بوضوح قصيدة أخرى

أتفق معك في ذلك، لأنهم دخلوا في نموذج محدد اسمه قصيدة النثر باعتباره آخر إنجاز شعري. أيضا هناك مشكلة ثقافية. المثال ليس أصليا، فأنا اسمع وأقرأ كثيرا في الصحافة العربية الأدبية تنظيرات من شعراء صغار، لا تعرف أصادرة هي من باريس أم من غزة أم من أسيوط، وكلها تتكلم عن الأوزان والإيقاعات في الشعر الفرنسي والشعر الإنكليزي بناءً على مقالات ونماذج مترجمة. حين يقرأون الشعر مترجماً والشعر يُترجم إلى العربية نثرا يظنون أن الأصل هو هكذا. هذه مشكلة تربوية

لماذا لم تستمر قصيدة التفعيلة؟ لماذا لا نجد لها شعراء مستقبليين مثلا؟

لأنكم أرهبتموهم. لأنهم نشأوا على هذا النموذج السائد. هناك من الشعراء الجدد من لم يكن خيارهم ثقافياً، بل كان خياراً استسلامياً. لم يريدوا الدخول في متاهات العروض والأوزان الخ... هذه هي الموجة السائدة وهي المثال الذي يُحتذى، فقد تكون السهولة هي التي جعلت العدد الأكبر من الشباب يختارون هذا الشكل، لكن لو سألت ابن ال24 سنة لماذا تكتب يقول لك إن الوزن يضيق بي

يبقى السؤال الذي ليس لي جواب عنه، هو هل المأزق عميق وحقيقي، هل الخيار المقبل سيكون بمعالجة الأزمة من خلال تطوير الشكل نفسه، أم اختيار شكل آخر (وليس عندنا غير القديم). لا أرى خيارا رابعا لأنه ماذا بعد النثر؟ ماذا بعد العمودي والتفعيلي والنثري؟

› المفروض أن النثري والتفعيلي يستطيعان أن يعيشا مئات السنين لا العشرات فقط

إذا كان الأمر كذلك فالأزمة إذاً ليست أزمة الشكل بل أزمة الشعراء

طبعاً هي أزمة شعراء

الشكل ليس اداة انتهى استخدامها
أسألك سؤالاً أخيراً. تقول في الجدارية: هزمتْك يا موتُ الفنونُ جميعها. إلى أي درجة هذا الكلام تبشيري؟ إلى أي درجة هو حقيقي بالنسبة إليك؟

هو ليس حقيقياً، بل خلق مبرر لاستمرار تناسي الموت، لاستمرار الإنسان في أن يعيش متجاوراً مع الموت لكن ناسياً إياه. لأنك إذا ذكرت الموت تتعطل الحياة وتتعطل حركتك وتطورك. هناك بحث عن مبرر للوجود هو الفن. فبالفن يسجل الإنسان حضوره ووهم خلوده. الخلود وهم طبعا، لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون وهم، ولا يستطيع أن يتصور أنه يمر هذا المرور السريع وتنتهي حياته. أمامه حلان: إما حل فني، أن يترك أثرا يعتقد أنه هزم به الموت، وهو فعلا هزم به موته الشخصي، وإما خيار ديني، مفاده أنه سيجد الحياة في العالم الآخر. لا خيار ثالثاً. إما أن تنتصر بترك أثر في الحياة تعتقد أنه هزم موتك الشخصي أو موتك البشري، أو أن تقبل وتنتظر الحياة الأبدية في الآخرة. أسأل نفسي: أيهما أقسى، الموت أم الأبدية؟



جريدة (السفير) 2003/11/21
حاوره عباس بيضون

2006-02-07

سوناتا



إذا كنت آخر ما قاله الله لي، فليكن
نزولك نون ال "أنا" في المثنى. وطوبى لنا
لقد نور اللوز بعد خطى العابرين، هنا
على ضفتيك، ورف عليك القطا و اليمام

بقرن الغزال طعنت السماء، فسال الكلام
ندى في عروق الطبيعة. ما اسم القصيدة
أمام ثنائية الخلق و الحق، بين السماء البعيدة
وأرز سريرك، حين يحن دم لدم، ويئن الرخام؟

ستحتج أسطورة للتشمس حولك. هذا الرخام
الهات مصر وسومر تحت النخيل يغيرن أثوابهن
و أسماء أيامهن، ويكملن رحلاتهن إلى آخر القافية

وتحتاج أنشودتي للتنفس : لا الشعر شعر
ولا النثر نثر . حلمت بأنك آخر ما قاله
لي الله حين رأيتكما في المنام، فكان الكلام

2006-02-04

حوار معه- نقلاً عن موقع جهة الشعر


أجرت صحيفة "ليبيراسون" الفرنسية حواراً مع الشاعر الفلسطيني محمود درويش، تطرق فيه لمواضيع مختلفة. وقد ظلّ الشاعر الفلسطيني، كمَا عوَّدَنا في كل الحوارات التي أُجرِيَت معه، قادرا على الإجابة كما لو أنه يقرأ إحدى قصائده
تُشَكِّلُ فلسطين، ومنذ أكثر من نصف قرن، بالنسبة للشعب العربي مَرْجِعاً، وكذلك رمزَ الفردوسِ الضّائع. ولكنها تُجَسّد أيضاً، الصراعَ من أجل العدالة، التي تَظَلّ، بالنسبة للعديد من العرب، جَوهرَ وُجودِهِم المُعاصِر: العدالة في فلسطين
. تُمَثِّلُ، بشكل من الأشكال، نوعاً من شرطَ مُمارَسَة حريتهم الخاصة
:حين يُسألُ الشاعر عن ما تعنيه هذه العدالة يُجيبُ
إنَّ تاريخَ فلسطين كان دائما تاريخاً مُتَعَدِّداً. والصراع الذي نعيشه ضدّ الإسرائيليين، على المستوى التَصَوُّرِي، يدور حول هذه النقطة. هُمْ (أي الإسرائيليون) يريدون أن يبدأ تاريخ فلسطين مع تاريخهم، أي منذ القرون التي سكنوا وسادوا في هذه الأرض. كما لو أن التاريخَ تَبَلْوَرَ بحيث لم يوجد شيء من قبل ولن يوجد شيء من بعد. ودولة إسرائيل حسب هذا التصور تمثل امتدادا طبيعياً لهذه المرحلة. أما نحن فنعتقد أن تاريخ فلسطين يبتدئُ منذ أن تواجد (في فلسطين) بَشَرٌ، على الأقلّ منذ أنْ تَوَاجَدَ الكنعانيون. وإذا تَوَاصَلَ هذا التاريخُ مع المرحلة اليهودية، وهذا مَا لاَ نُفكّر في نفيه، فإن تاريخ فلسطين هو تاريخٌ متعدِّدٌ. إنه تاريخ يجمع ما بين سكان أرض الرافِدَين والسوريين (نعتقد أن المقصود هم الأشوريون. المترجم) والمصريين والرومانيين والعرب، ولاحقا العثمانيين. ربما تاريخ فلسطين تَشَكَّلَ من خلال العنف، ولكنّ هذا لا يمنع أنه ثمرةُ التقاء كل هذه الشعوب. إنّ هذه التعدديةَ ثراءٌ. وأنا أَعتَبِرُ نفسي وريثاً لكلّ هذه الثقافات، ولا أتضايق، البَتَّةَ، في التصريح بِوُجود جزءٍ يهوديّ فِيَّ. لا أستطيع أن أتَصَوَّر امتلاكا حصرياً لهذه الأرض. أنا أَرُدُّ على الإسرائيليين الذين يَدّعون أنهم يمثلون امتداداً لِمَملكة إسرائيل بالقول بأني امتدادٌ للكنعانيين. لا أريد أن أقول إنني كنت هنا قَبلَهُم، أنااقول فقط: أنا منتوجُ كلّ هذا وأَقْبَلُهُ وأضطلع به
وعن سؤال ما يعنيه تعريف محمود درويش لنفسه بـ"الشاعر الطروادي"، يرد
"أنا لم أَخْتَر أن أكون ضحيةً، لا على المستوى الوجودي ولا على المستوى السياسيّ. الشروط التاريخية هي التي جعلت الفلسطينيين-وأنا من بينهم- ضحايا. وهكذا فأنا أُجهِدُ نفسي على التعبير عن وعي الخَاسِر وعن الضحية. هذا هو ما يعنيه أن تكون شاعراً طرواديّا: إنه القول بأنه لا يوجد فقط مَحْكِيُّ المُنْتَصِر. إننا لم نسمع أبدا صوت الطرواديين، و"هوميروس" هو النشيدُ المَجِيدُ للإغريق. إنّ الطرواديين يمكن أن يكونوا قد عبَّروا بطريقة أو بأخرى، ولكن صوتَهُم تبدَّدَ إلى الأبد. وأنا كَشَاعِر أبحثُ عن هذا الصوت. الضعفاءُ يتوجَّب عليهم أن يُقَدِّموا رواية التاريخ، ولا يجب، أبداً، الاكتفاءُ برواية الأقوياء. وعلى كل حال، فإنّ الأدبَ الجَيِّدَ هو أدبُ الضعفاء والمهزومين ومن يُعانون، ومن فضائل الأدب أن تُتِيحَ لنا التحسيسَ بِالأَلَم والجِرَاح، وبالتالي إيصالَنَا إلى إنسانِيَتِنَا
وتسأل الصحيفة: إذاً فمن الأفضل، حسب رأيك، أن تكون سجيناً من أن تكون سجّاناًيجيب درويش
" إننا ننسى أن السَجَّان هو، بصيغة ما، سجينٌ: إنه سجينٌ بلا أُفُق، ولا يحمل أيّ رسالة، وإنّ ما يبحث عنه ليس هو تحقيق حريته وإنما منع الآخَر من أن يكون حُرّاً، إنه ضحيةُ نفسِهِ. السَجَّان لا يستطيعُ الغناءَ لأنه يَجهلُ كلَّ شيء عن الكآبة، إنّه لا يملك، لا الندَم إلى السماء ولا الحنين إلى البحر. أما السجين، فبالمقابل، يُغَنّي، لأنّ الغناءَ وسيلتُهُ الوحيدةُ للإحساس بِوُجودِه الخاصّ والبرهنة عليه. وهو في أعماق نفسه يُحِسُّ بأنه أكثرُ حريةً من سجّانِهِ الذي لا يَملِكُ وعياً بحريته الخاصة وبعزلته الخاصة. إنّ دور الشِّعَر هو أن يمنَحَنَا هذه القوة، بالرغم من أنها تَخَيُّلِيّة
وعن سؤال عن استخدام درويش لِـ"النّاصري" المسيح. يقول
"لديَّ كُلُّ الأسباب التي تدفعني لاعتبار المسيح صديقاً شخصياً. إنّه ابنُ البلد، فهو من "الناصرة" في الجليل. ثمّ إن رِسَالَتَه بسيطةٌ جدا، رسالةُ السلام والعدالة. فهو في أَمثالِهِ (القصص القصيرة ذات المدلول الأخلاقي، والتي تَرِدُ بشكل أكبر في الأناجيل الأربعة. ملاحظة من المترجم) يتحدث كما لو كان شاعراً. فهو في حدّ ذاته حالةً شعرية: يريد تَدجين السجّان من خلال مُهَامَسَتِهِ، بل وحتى معانقته، فهو يُواجِهُ العنفَ بالرِقَّة. إنه صديقُ الضعفاء، والمحرومين، والمنعزلين. وهو في هذا رمزٌ للتسامُح ولِوَحْدة البشرية. وأخيراً، هو صورةُ المعاناة. وبما أنه كذلك، فهو يُلهِمُنَا ويمنحُنَا الشجاعة. لأنّ الشعب الفلسطينيَّ، اليومَ، هو الموضوعُ على الصليب بسبب سياسة الاحتلال الإسرائيلي. لقد أصبحَ موتُ الفلسطينيّ مسألة غير مهمة مثلها مثل النشرة الجوية (الطقس)، وغزوُ أمريكا، التي وضعت نفسها فوق القانون، للعراق لم يعمل إلاّ على إضفاء القداسة على وضعية الاحتلال."
وعن السبب الذي يجعل الشاعر محمود درويش يذكر المسيح أكثر مما يذكر النبيّ محمد"، يقول
"لأني أُحِسُّ بأني أستطيع أن أتَحدَّثَ عن أحدهما بِحُرّيّة، بينما أَشْعُر كما لو أنَّه توجد رِقَابَةٌ مَا حين أتحدث عن الآخَر. وبما أنّه تمّ قبول الفصلُ بين الدينيّ والسياسيّ في المسيحية، فإنه يبدو سَهْلاً مُحَاوَرَةُ المسيح. لقد استطاع الفنّانون أن يُصوّروا المسيحَ أشقَرَ، أَسْمَر أو أسودَ، ولكني لا أستطيعُ أنْ أتَخَيَّل "محمدا" إلاّ عربيّا
في قلب الكارثة، هل يستطيع الشاعِرُ أن يُغَنّي؟ كيف يمكن مُصَالَحَةُ التزام الشاعر السياسيّ في العالمَ والتعبير الغنائيّ عن جوانيّتِهِ؟ كيف يمكن إيجاد حلّ لهذا التوتر بين الداخل والخارج؟
- أي مكانٍ للشِّعر في عصر البربرية؟ إنّ صرخة "أدورنو": "هل من الممكن كتابةُ قصيدة بعد "أوشفيتز"؟ تَرِنُّ دائما بكثير من الصحّة والدقّة. لا أعرفُ متى وعَيْتُ هذه الثنائية بين الداخل والخارج، هذه الجَدَلِيّة بين التزام الشاعر وحريته. بالرغم من أنه أن تكون شاعراً، في حالة فلسطين، معناه أن هذه الثنائيةَ تصبح محسوسةً بشكل لا مَفَرَّ منه. لأنّه طُلِبَ من الشاعر في وقت مُبَكِّر: "مَنْ أنتَ حقيقةً؟" وأنا بدوري تَسَاءَلْتُ: "من أكونُ، حقيقةً؟" لأنه في نَظَر الشروط التاريخية التي وُلِدْتُ فيها، لم يكن الالتزام خياراً. إنّ كُلَّ الكُتّاب الفلسطينيين، ودون أن يعرفوا مفهومَ الالتزام، كانوا مُلتَزِمِينَ. إنّنا حين نكتُبُ تاريخَنَا الشخصيَّ فإننا نكتُبُ تاريخنا الجماعيَّ
وعن جدوى الشِّعر، يرى الشاعر درويش " لم تكن لنا أبداً من قبْلُ هذه الحاجة إلى الشعر. الشِّعْرُ لا يُوَاجِهُ الحربَ بأسلحة الحرب. إنه لا يُسقِطُ طائرات بِصَاروخ بلاغي."
وعن السؤال التالي: "أنتَ كشاعر فلسطينيّ، شَاهِدٌ على مأساة شعبِكَ وكذلك شاهد على الإيمان بالإنسانية. وكلمة "شَاهِد" هي المعنى الأول لكلمة "شَهِيد". والذين يقومون بعمليات-انتحارية يُطْلَق عليهم أيضا "شُهَدَاء". كيف يمكن أن نكون شهيداً ونتسبَّبَ في موت أشخاص أبرياء؟
يجيبُ محمود درويش: "كذلك في القرآن، كلمة "شهيد" تعني أيضاً "شَاهِد". يوجد خلطٌ في تحديد العمليات الانتحارية. وهنا لا يتعلّق الأمرُ بـ"شهداء" ولكن بـ"انتحاريين" Kamikazes. وفي الحروب، يوجد انتحاريون kamikazes في كلّ الأطراف. إنّ كلمة "شهيد" كلمة مفتوحةٌ جدا. المسيحُ ومحمد الدُرّة والشعب العراقيّ الذي هَلَك تحت القنابل "الذكيّة" الأمريكية، هم شهداء، لأنهم يَشْهَدون بإنسانيتهم في وجه الرُّعب والبربرية. الانتحاري Kamikaze، في نظري، هو من يمنح حياتَهُ من أجل قضية يعتقد أنها عادلةٌ. أنا أَدَنْتُ، ولم أَكُن الوحيدَ، العمليات الانتحارية kamikazes التي تَسْتَهْدِف مَدَنِيّين. الإسلامويون يَرُدّون بالقول إنّ الإسرائيليين يقتلون هُم أيضا مدنيين (فلسطينيين). وجوابي هو: ليس علينا أن نفعل مثلهم (الإسرائيليين)، لأننا إن فَعلْنَا مثلهم، فما هو الفرقُ بين الجلاّد والضحية؟"
هل توجد نقاط مشتركة ما بيت المأساة (التراجيديا) القديمة والمأساة التي يسببها الصراع الإسرائيلي الفلسطينيّ؟
يجيب محمود درويش:"الآلِهَةُ عند الإغريق هي مَنْ يُقَرِّرُ، هذا هو القَدَرُ. المُؤَلِّفُ القديمُ يَصِف بَطَلاً تتكسَّرُ حركاتُه وكبرياؤه بسبب إرادة الآلِهَة، بينما يتحدّث الشاعر الفلسطينيُّ، اليومَ، عن شيء آخَر من البطولة. لا يوجد في مأساتنا قَدَرٌ، وإنما الرغبة في تغيير الأشياء هي التي تُحَفِّزُ الأفعالَ. يوجد اختلافٌ آخَرُ، واسمحوا لي أن أجيب بسخرية: في المأساة الإغريقية يوجد تَعَدُّد آلِهَة نعثر من بينها على مَنْ هي حسّاسة وحنونة على ضحَايَاهَا. في الوقت الراهن، لا يوجد سوى إلهٌ واحد، وهو إلهٌ أمريكيٌّ. وأنا على ا لمستوى السياسي و الشّعري أفضل تعددية الآلهة على التوحيد
الحوار نشر في ليبراسيون في 10/11 أيار (مايو) الماضي

2006-02-02

الكلمة التي ألقاها في حفل توقيع ديوانه الأخير في رام الله

ليس دفاعا عن كتابي الجديد
لستُ من الذين ينظرون إلي المرآة برضا. المرآة هنا هي انكشاف الذات في صورة صارت ملكية عامة... أي صار من حق غيرها أن يبحث عن ملامح ذاته فيها. فإذا وجد فيها ما يشبهه أو يعنيه من تعبير وتصوير، قال: هذا أنا. وإذا لم يعثر علي شراكة في النص / الصورة، أشاح بوجهه قائلاً: لا شأن لي
كما أخشي هذا التعليق الذي صار رائجاً في العلاقة بين الكثير من الشعر الحديث وبين أغلبية القُرَاء، منذ استمرأ الكثيرون من الشعراء توسيع الهُوَة بين القصيدة وكاتبها الثاني: المتلقِي الذي لا يتحقق المشروع الشعري بدونه، وبدون تحركه في اتجاه النص. التُهَمُ متبادلة بين الطرفين. لكن أزمة الشعر، إذا كانت هنالك أَزمة، هي أزمة شعراء. وعلي كل شاعر أن يجتهد في حلِها بطريقته الإبداعية الخاصة
أَعلَمُ أنني سأُتَهم، مرة أخري، بمعاداة شعر الحداثة العربية التي يُعرِفُها العُصَابيُون بمعيارين. الأول: انغلاق الأَنا علي محتوياتها الذاتية دون السماح للداخل بالانفتاح علي الخارج. والثاني: إقصاء الشعر الموزون عن جنَة الحداثة.. فلا حداثة خارج قصيدة النثر. وتلك مقولة تحوَلت عقيدةً يُكَفِرُ مَنْ يقترب من حدودها متسائلاً. وكُلُ مَنْ يُسَائِلُ الحداثة الشعرية عما وصلت إليه يُتَهَم، تلقائياً، بمعاداة قصيدة النثر

لم أَكُفَ عن القول إن قصيدة النثر التي يكتبها الموهوبون هي من أَهم منجزات الشعر العربي الحديث، وإنها حقَقت شرعيتها الجمالية من انفتاحها علي العالم، وعلي مختلف الأجناس الأَدبية، لكنها ليست الخيار الشعري الوحيد، وليست الحل النهائي للمسألة الشعرية التي لا حلَ نهائياً لها، فالفضاء الشعري واسع ومفتوح لكل الخيارات التي نعرفها والتي لا نعرفها. ونحن القراء لا نبحث في التجريب الشعري المتعدِد إلاَ عن تحقُق الشعرية في القصيدة، سواء كانت موزونةً أَو نثرية

وأَعلم أَيضاً أَن مجموعتي الشعرية الجديدة، كسابقاتها، ستُزوِد خصومي الكثيرين بمزيد من أَسلحة الاغتيال المعنوي الشائعة في ثقافة الكراهية النشطة. سيُقال ـ كما قيل ويُقال ـ إنني تخليت عن شعر المقاومة . وسأعترف أمام القضاة المتجهمين بأَنني تخلَيت عن كتابة الشعر السياسي المباشر محدود الدلالات، دون أَن أَتخلَي عن مفهوم المقاومة الجمالية بالمعني الواسع للكلمة... لا لأن الظروف تغيَرت، ولأننا انتقلنا "من المقاومة إلي المساومة ، كما يزعم فقهاءُ الحماسة، بل لأن علي الأسلوبية الشعرية أن تتغيَر باستمرار، وعلي الشاعر أن لا يتوقف عن تطوير أَدواته الشعرية، وعن توسيع أُفقه الإنساني، وأن لا يكرِر ما قاله مئات المرات... لئلاَ تصاب اللغة الشعرية بالإرهاق والشيخوخة والنمطية، وتقع في الشَرَك المنصوب لها: أَن تتحجر في القول الواحد المعاد المـُكَرَر. فهل هذا يعني التخلِي عن روح المقاومة في الشعر؟

أَما من دليل آخر علي المقاومة سوي القول مثلاً: سجّل أنا عربي، أو تكرار شعار: سأُقاوم وأُقاوم؟ فليس من الضروري، لا شعرياً ولا عملياً، أن يقول المقاوم إنه يُقاوم، كما ليس من الضروري أن يقول العاشق إنه يعشق. لقد سمَانا غسان كنفاني شعراء مقاومة دون أَن نعلم أَننا شعراء مقاومة. كنا نكتب حياتنا كما نعيشها ونراها. وندوِن أحلامنا بالحرية وإصرارنا علي أن نكون كما نريد. ونكتب قصائد حب للوطن ونساء محدَدات. فليس كل شيء رمزياً. وليس كل ساق شجرة نخيل خصر امرأة أو بالعكسلا يستطيع الشاعر أن يتحرَر من شرطه التاريخي. لكن الشعر يوفِر لنا هامش حرية وتعويضاً مجازياً عن عجزنا عن تغيير الواقع، ويشدنا إلي لغة أَعلي من الشروط التي تُقيِدنا وتُعرقل الانسجام مع وجودنا الإنساني، وقد يُساعدنا علي فهم الذات بتحريرها مما يُعيق تحليقها الحر في فضاء بلا ضفافإن التعبير عن حق الذات في التعرف علي نفسها، وسط الجماعة، هو شكل من أشكال البحث عن حرية الأفراد الذين تتكون منهم الجماعة. ومن هنا، فإن الشعر المعبر عن سِمَاتنا الإنسانية وهمومنا الفردية ـ وهي ليست فردية تماماً ـ في سياق الصراع الطويل، يُمثِل البعد الإنساني الذاتي من فعل المقاومة الشعرية، حتى لو كان شعر حُب أو طبيعة، أو تأمُلاً في وردة، أو خوفاً من موت عادي
ليس صحيحاً أنه ليس من حق الشاعر الفلسطيني أن يجلس علي تلَة ويتأمَل الغروب، وأَن يصغي إلي نداء الجسد أو الناي البعيد، إلا إذا ماتت روحه وروح المكان في روحه، وانقطع حبل السُرَة بينه وبين فطرته الإنسانية
وليس الفلسطيني مهنة أو شعاراً. إنه، في المقام الأول، كائن بشري، يحبُ الحياة وينخطف بزهرة اللوز، ويشعر بالقشعريرة من مطر الخريف الأول، ويُمارس الحب تلبيةً لشهوة الجسد الطبيعة، لا لنداء آخر... وينجب الأطفال للمحافظة علي الاسم والنوع ومواصلة الحياة لا لطلب الموت، إلا إذا أَصبح الموت فيما بعد أفضل من الحياة! وهذا يعني أن الاحتلال الطويل لم ينجح في محو طبيعتنا الإنسانية، ولم يفلح في إخضاع لغتنا وعواطفنا إلي ما يريد لها من الجفاف أمام الحاجز
إن استيعاب الشعر لقوَة الحياة البديهية فينا هو فعل مقاومة، فلماذا نتهم الشعر بالردة إذا تطلَع إلي ما فينا من جماليات حسية وحرية خيال وقاوم البشاعة بالجمال؟ إن الجمال حرية والحرية جمال. وهكذا يكون الشعر المدافع عن الحياة شكلاً من أشكال المقاومة النوعية
هل أتساءل مرة أُخري إن كان الوطن ما زال في حاجة إلي براهين شعرية، وإن كان الشعر ما زال في حاجة إلي براهين وطنية؟ إن علاقة الشعر بالوطن لا تتحدَد بإغراق الشعر بالشعارات والخارطة والرايات. إنها علاقة عضوية لا تحتاج إلي برهان يومي، فهي سليقة ووعي وإرادة. ميراث واختيار. مُعْطيً ومبدع. ولكن الشعر الوطني الرديء يسيء إلي صورة الوطن الذي يشمل الصراع عليه وفيه مستويات إبداعية لم ننتبه إليها دائماً
لذلك، فإن حاجتنا إلي تطوير أشكال التعبير عن الجوانب الإنسانية في حياتنا العامة والخاصة، بتطوير جماليات الشعر، وأَدبية الأدب، وإتقان المهنة الصعبة، والاحتكام إلي المعايير الفنية العامة، لا إلي خصوصية الشرط الفلسطيني فقط، هي مهام وطنية وشعرية معاً، وهي ما يؤهِل شعرنا للوصول إلي منبر الحوار الإبداعي مع العالم، فيصبح الاعتراف بقدرتنا العالية علي الإبداع أحد مصادر الانتباه إلي وطن هذا الإبداع. فكم من بلد أَحببناه، دون أن نعرفه، لأننا أَحببنا أَدبه

هكذا تمحِي الحدود بين وطنية الشعر وبين نزعته الدائمة لاجتياز حواجز الثقافات والهويات، والتحليق المشترك في الأفق الإنساني الرحب، دون أن ننسي أن للشعر دوراً خاصاً في بلورة هوية ثقافية لشعب يُحارب في هويتهنعم، علي الشعراء أن يتذكروا كل العذاب، وأَن يُصْغوا إلي صوت الغياب، وأَن يُسَمُوا كل الأشياء، وأن يخوضوا كل المعارك. ولكن عليهم أيضاً ألا ينسوا واجبهم تجاه مهنتهم. وأَلا ينسوا أن الشعر لا يُعَرَف، أساساً، في ما يقوله، بل بنوعية القول المختلف عن العادي، وألا ينسوا أن الشعر متعة، وصنعة، وجمال. وأَن الشعر فرح غامض بالتغلُب علي الصعوبة والخسارة، وأنه رحلة لا تنتهي إلي البحث عن نفسه في المجهول
وأنا هنا، لا أُدافع عن كتابي الجديد الذي لم يعد لي. ولم أَعد أتذكر شيئاً منه، منذ خرج مني وأَدخلني في مأزق السؤال الفادح: ماذا بعد؟ بل أُدافع عن حق الشعراء في البحث عن شعر جديد، يُنَقِي الشعر مما ليس منه. فإن شقاء التجديد. أَفضل من سعادة التقليد المتحجر

2006-02-01

الجدارية

هذا هُوَ اسمُكَ /
قالتِ امرأةٌ ،
وغابتْ في المَمَرِّ اللولبيِّ…
أرى السماءَ هُنَاكَ في مُتَناوَلِ الأَيدي .
ويحملُني جناحُ حمامةٍ بيضاءَ صَوْبَ
طُفُولَةٍ أَخرى . ولم أَحلُمْ بأني
كنتُ أَحلُمُ . كُلُّ شيءٍ واقعيٌّ . كُنْتُ
أَعلَمُ أَنني أُلْقي بنفسي جانباً…
وأَطيرُ . سوف أكونُ ما سأَصيرُ في
الفَلَك الأَخيرِ .

وكُلُّ شيء أَبيضُ ،
البحرُ المُعَلَّقُ فوق سقف غمامةٍ
بيضاءَ . والَّلا شيء أَبيضُ في
سماء المُطْلَق البيضاءِ . كُنْتُ ، ولم
أَكُنْ . فأنا وحيدٌ في نواحي هذه
الأَبديَّة البيضاء . جئتُ قُبَيْل ميعادي
فلم يَظْهَرْ ملاكٌ واحدٌ ليقول لي :
(( ماذا فعلتَ ، هناك ، في الدنيا ؟ ))
ولم أَسمع هُتَافَ الطيِّبينَ ، ولا
أَنينَ الخاطئينَ ، أَنا وحيدٌ في البياض ،
أَنا وحيدُ …

لاشيء يُوجِعُني على باب القيامةِ .
لا الزمانُ ولا العواطفُ . لا
أُحِسُّ بخفَّةِ الأشياء أَو ثِقَلِ
الهواجس . لم أَجد أَحداً لأسأل :
أَين (( أَيْني )) الآن ؟ أَين مدينةُ
الموتى ، وأَين أَنا ؟ فلا عَدَمٌ
هنا في اللا هنا … في اللازمان ،
ولا وُجُودُ

وكأنني قد متُّ قبل الآن …
أَعرفُ هذه الرؤيا ، وأَعرفُ أَنني
أَمضي إلى ما لَسْتُ أَعرفُ . رُبَّما
ما زلتُ حيّاً في مكانٍ ما، وأَعرفُ
ما أُريدُ …
سأصيرُ يوماً ما أُريدُ

سأَصيرُ يوماً فكرةً . لا سَيْفَ يحملُها
إلى الأرضِ اليبابِ ، ولا كتابَ …
كأنَّها مَطَرٌ على جَبَلٍ تَصَدَّعَ من
تَفَتُّح عُشْبَةٍ ،
لا القُوَّةُ انتصرتْ
ولا العَدْلُ الشريدُ

سأَصير يوماً ما أُريدُ

سأصير يوماً طائراً ، وأَسُلُّ من عَدَمي
وجودي . كُلَّما احتَرقَ الجناحانِ
اقتربتُ من الحقيقةِ ، وانبعثتُ من
الرمادِ . أَنا حوارُ الحالمين ، عَزَفْتُ
عن جَسَدي وعن نفسي لأُكْمِلَ
رحلتي الأولى إلى المعنى ، فأَحْرَقَني
وغاب . أَنا الغيابُ . أَنا السماويُّ
الطريدُ .

سأَصير يوماً ما أُريدُ

سأَصير يوماً كرمةً ،
فَلْيَعْتَصِرني الصيفُ منذ الآن ،
وليشربْ نبيذي العابرون على
ثُرَيَّات المكان السُكَّريِّ !
أَنا الرسالةُ والرسولُ
أَنا العناوينُ الصغيرةُ والبريدُ

سأَصير يوماً ما أُريدُ

هذا هُوَ اسمُكَ /
قالتِ امرأةٌ ،
وغابتْ في مَمَرِّ بياضها .
هذا هُوَ اسمُكَ ، فاحفظِ اسْمَكَ جَيِّداً !
لا تختلفْ مَعَهُ على حَرْفٍ
ولا تَعْبَأْ براياتِ القبائلِ ،
كُنْ صديقاً لاسمك الأُفُقِيِّ
جَرِّبْهُ مع الأحياء والموتى
ودَرِّبْهُ على النُطْق الصحيح برفقة الغرباء
واكتُبْهُ على إحدى صُخُور الكهف ،
يااسمي : سوف تكبَرُ حين أَكبَرُ
سوف تحمِلُني وأَحملُكَ
الغريبُ أَخُ الغريب
سنأخُذُ الأُنثى بحرف العِلَّة المنذور للنايات
يا اسمي: أَين نحن الآن ؟
قل : ما الآن ، ما الغَدُ ؟
ما الزمانُ وما المكانُ
وما القديمُ وما الجديدُ ؟

سنكون يوماً ما نريدُ

لا الرحلةُ ابتدأتْ ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكماءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ
ولم نعرف من الأزهار غيرَ شقائقِ النعمانِ ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات :
أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةُ ،
كلامُ الله عند الفجر أَرضُ قصيدتي
وأَنا البعيدُ
أَنا البعيدُ

في كُلِّ ريحٍ تَعْبَثُ امرأةٌ بشاعرها
- خُذِ الجهةَ التي أَهديتني
الجهةَ التي انكَسَرتْ ،
وهاتِ أُنوثتي ،
لم يَبْقَ لي إلاّ التَأمُّلُ في
تجاعيد البُحَيْرَة . خُذْ غدي عنِّي
وهاتِ الأمس ، واتركنا معاً
لا شيءَ ، بعدَكَ ، سوف يرحَلُ
أَو يَعُودُ

- وخُذي القصيدةَ إن أَردتِ
فليس لي فيها سواكِ
خُذي (( أَنا )) كِ . سأُكْملُ المنفى
بما تركَتْ يداكِ من الرسائل لليمامِ .
فأيُّنا منا (( أَنا )) لأكون آخرَها ؟
ستسقطُ نجمةٌ بين الكتابة والكلامِ
وتَنْشُرُ الذكرى خواطرها : وُلِدْنا
في زمان السيف والمزمار بين
التين والصُبَّار . كان الموتُ أَبطأَ .
كان أَوْضَح . كان هُدْنَةَ عابرين
على مَصَبِّ النهر . أَما الآن ،
فالزرُّ الإلكترونيُّ يعمل وَحْدَهُ . لا
قاتلٌ يُصْغي إلى قتلى . ولا يتلو
وصيَّتَهُ شهيدُ

من أَيِّ ريح جئتِ ؟
قولي ما اسمُ جُرْحِكِ أَعرفِ
الطُرُقَ التي سنضيع فيها مَرّتيْنِ !
وكُلُّ نَبْضٍ فيكِ يُوجعُني ، ويُرْجِعُني
إلى زَمَنٍ خرافيّ . ويوجعني دمي
والملحُ يوجعني … ويوجعني الوريدُ

في الجرّة المكسورةِ انتحبتْ نساءُ
الساحل السوريّ من طول المسافةِ ،
واحترقْنَ بشمس آبَ . رأيتُهنَّ على
طريق النبع قبل ولادتي . وسمعتُ
صَوْتَ الماء في الفخّار يبكيهنّ :
عُدْنَ إلى السحابة يرجعِ الزَمَنُ الرغيدُ

قال الصدى :
لاشيء يرجعُ غيرُ ماضي الأقوياء
على مِسلاَّت المدى … [ ذهبيّةٌٌ آثارُهُمْ
ذهبيّةٌٌ ] ورسائلِ الضعفاءِ للغَدِ ،
أَعْطِنا خُبْزَ الكفاف ، وحاضراً أَقوى .
فليس لنا التقمُّصُ والحُلُولُ ولا الخُلُودُ

قال الصدى :
وتعبتُ من أَملي العُضَال . تعبتُ
من شَرَك الجماليّات : ماذا بعد
بابلَ؟ كُلَّما اتَّضَحَ الطريقُ إلى
السماء ، وأَسْفَرَ المجهولُ عن هَدَفٍ
نهائيّ تَفَشَّى النثرُ في الصلوات ،
وانكسر النشيدُ

خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ عالية ٌ…
تُطِلُّ عليَّ من بطحاء هاويتي …
غريبٌ أَنتَ في معناك . يكفي أَن
تكون هناك ، وحدك ، كي تصيرَ
قبيلةً…
غَنَّيْتُ كي أَزِنَ المدى المهدُورَ
في وَجَع الحمامةِ ،
لا لأَشْرَحَ ما يقولُ اللهُ للإنسان ،
لَسْتُ أَنا النبيَّ لأَدَّعي وَحْياً
وأُعْلِنَ أَنَّ هاويتي صُعُودُ

وأَنا الغريب بكُلِّ ما أُوتيتُ من
لُغَتي . ولو أخضعتُ عاطفتي بحرف
الضاد ، تخضعني بحرف الياء عاطفتي ،
وللكلمات وَهيَ بعيدةٌ أَرضٌ تُجاوِرُ
كوكباً أَعلى . وللكلمات وَهيَ قريبةٌ
منفى . ولا يكفي الكتابُ لكي أَقول :
وجدتُ نفسي حاضراً مِلْءَ الغياب .
وكُلَّما فَتَّشْتُ عن نفسي وجدتُ
الآخرين . وكُلَّما فتَّشْتُ عَنْهُمْ لم
أَجد فيهم سوى نَفسي الغريبةِ ،
هل أَنا الفَرْدُ الحُشُودُ ؟

وأَنا الغريبُ . تَعِبْتُ من ” درب الحليب ”
إلى الحبيب . تعبتُ من صِفَتي .
يَضيقُ الشَّكْلُ . يَتّسعُ الكلامُ . أُفيضُ
عن حاجات مفردتي . وأَنْظُرُ نحو
نفسي في المرايا :
هل أَنا هُوَ ؟
هل أُؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل
الأخيرِ ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض ،
أَم فُرِضَتْ عليَّ ؟
وهل أَنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة ، بعدما
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ ؟

وجلستُ خلف الباب أَنظُرُ :
هل أَنا هُوَ ؟
هذه لُغَتي . وهذا الصوت وَخْزُ دمي
ولكن المؤلِّف آخَرٌ…
أَنا لستُ مني إن أَتيتُ ولم أَصِلْ
أَنا لستُ منِّي إن نَطَقْتُ ولم أَقُلْ
أَنا مَنْ تَقُولُ له الحُروفُ الغامضاتُ :
اكتُبْ تَكُنْ !
واقرأْ تَجِدْ !
وإذا أردْتَ القَوْلَ فافعلْ ، يَتَّحِدْ
ضدَّاكَ في المعنى …
وباطِنُكَ الشفيفُ هُوَ القصيدُ

بَحَّارَةٌ حولي ، ولا ميناء
أَفرغني الهباءُ من الإشارةِ والعبارةِ ،
لم أَجد وقتاً لأعرف أَين مَنْزِلَتي ،
الهُنَيْهةَ ، بين مَنْزِلَتَيْنِ . لم أَسأل
سؤالي ، بعد ، عن غَبَش التشابُهِ
بين بابَيْنِ : الخروج أم الدخول …
ولم أَجِدْ موتاً لأقْتَنِصَ الحياةَ .
ولم أَجِدْ صوتاً لأَصرخَ : أَيُّها
الزَمَنُ السريعُ ! خَطَفْتَني مما تقولُ
لي الحروفُ الغامضاتُ :
ألواقعيُّ هو الخياليُّ الأَكيدُ

يا أيها الزَمَنُ الذي لم ينتظِرْ …
لم يَنْتَظِرْ أَحداً تأخَّر عن ولادتِهِ ،
دَعِ الماضي جديداً ، فَهْوَ ذكراكَ
الوحيدةُ بيننا ، أيَّامَ كنا أَصدقاءك ،
لا ضحايا مركباتك . واترُكِ الماضي
كما هُوَ ، لا يُقَادُ ولا يَقُودُ

ورأيتُ ما يتذكَّرُ الموتى وما ينسون …
هُمْ لا يكبرون ويقرأون الوَقْتَ في
ساعات أيديهمْ . وَهُمْ لايشعرون
بموتنا أَبداً ولا بحياتهِمْ . لا شيءَ
ممَّا كُنْتُ أو سأكونُ . تنحلُّ الضمائرُ
كُلُّها . ” هو ” في ” أنا ” في ” أَنت ” .
لا كُلٌّ ولاجُزْءٌ . ولا حيٌّ يقول
لميِّتٍ : كُنِّي !

.. وتنحلُّ العناصرُ والمشاعرُ . لا
أَرى جَسَدي هُنَاكَ ، ولا أُحسُّ
بعنفوان الموت ، أَو بحياتيَ الأُولى .
كأنِّي لَسْتُ منّي . مَنْ أَنا ؟ أَأَنا
الفقيدُ أَم الوليدُ ؟

الوقْتُ صِفْرٌ . لم أُفكِّر بالولادة
حين طار الموتُ بي نحو السديم ،
فلم أكُن حَيّاً ولا مَيْتاً،
ولا عَدَمٌ هناك ، ولا وُجُودُ

تقولُ مُمَرِّضتي : أَنتَ أَحسَنُ حالا ً.
وتحقُنُني بالمُخَدِّر : كُنْ هادئاً
وجديراً بما سوف تحلُمُ
عما قليل …

رأيتُ طبيبي الفرنسيَّ
يفتح زنزانتي
ويضربني بالعصا
يُعَاونُهُ اثنانِ من شُرْطة الضاحيةْ

رأيتُ أَبي عائداً
من الحجِّ ، مُغمىً عليه
مُصَاباً بضربة شمسٍ حجازيّة
يقول لرفِّ ملائكةٍ حَوْلَهُ :
أَطفئوني ! …

رأيتُ شباباً مغاربةً
يلعبون الكُرَةْ
ويرمونني بالحجارة : عُدْ بالعبارةِ
واترُكْ لنا أُمَّنا
يا أَبانا الذي أخطَأَ المقبرةْ !

رأيت ” ريني شار ”
يجلس مع ” هيدغر ”
على بُعْدِ مترين منِّي ،
رأيتهما يشربان النبيذَ
ولا يبحثان عن الشعر …
كان الحوار شُعَاعاً
وكان غدٌ عابرٌ ينتظرْ

رأيتُ رفاقي الثلاثَةَ ينتحبونَ
وَهُمْ
يَخيطونَ لي كَفَناً
بخُيوطِ الذَّهَبْ

رأيت المعريَّ يطرد نُقَّادَهُ
من قصيدتِهِ :
لستُ أَعمى
لأُبْصِرَ ما تبصرونْ ،
فإنَّ البصيرةَ نورٌ يؤدِّي
إلى عَدَمٍ …. أَو جُنُونْ

رأيتُ بلاداً تعانقُني
بأَيدٍ صَبَاحيّة : كُنْ
جديراً برائحة الخبز . كُنْ
لائقا ً بزهور الرصيفْ
فما زال تَنُّورُ أُمِّكَ
مشتعلاً ،
والتحيَّةُ ساخنةً كالرغيفْ !

خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ . نهرٌ واحدٌ يكفي
لأهمس للفراشة : آهِ ، يا أُختي ، ونَهْرٌ واحدٌ يكفي لإغواءِ
الأساطير القديمة بالبقاء على جناح الصَّقْر ، وَهْوَ يُبَدِّلُ
الراياتِ والقممَ البعيدةَ ، حيث أَنشأتِ الجيوشُ ممالِكَ
النسيان لي . لاشَعْبَ أَصْغَرُ من قصيدته . ولكنَّ السلاحَ
يُوَسِّعُ الكلمات للموتى وللأحياء فيها ، والحُرُوفَ تُلَمِّعُ
السيفَ المُعَلَّقَ في حزام الفجر ، والصحراء تنقُصُ
بالأغاني ، أَو تزيدُ

لاعُمْرَ يكفي كي أَشُدَّ نهايتي لبدايتي
أَخَذَ الرُّعَاةُ حكايتي وتَوَغَّلُوا في العشب فوق مفاتن
الأنقاض ، وانتصروا على النسيان بالأَبواق والسَّجَع
المشاع ، وأَورثوني بُحَّةَ الذكرى على حَجَرِ الوداع ، ولم
يعودوا …

رَعَويَّةٌ أَيَّامنا رَعَويَّةٌ بين القبيلة والمدينة ، لم أَجد لَيْلاً
خُصُوصِيّاً لهودجِكِ المُكَلَّلِ بالسراب ، وقلتِ لي :
ما حاجتي لاسمي بدونكَ ؟ نادني ، فأنا خلقتُكَ
عندما سَمَّيْتَني ، وقتلتَني حين امتلكتَ الاسمَ …
كيف قتلتَني ؟ وأَنا غريبةُ كُلِّ هذا الليل ، أَدْخِلْني
إلى غابات شهوتك ، احتضنِّي واعْتَصِرْني ،
واسفُك العَسَلَ الزفافيَّ النقيَّ على قفير النحل .
بعثرني بما ملكتْ يداك من الرياح ولُمَّني .
فالليل يُسْلِمُ روحَهُ لك يا غريبُ ، ولن تراني نجمةٌ
إلاّ وتعرف أَنَّ عائلتي ستقتلني بماء اللازوردِ ،
فهاتِني ليكونَ لي - وأَنا أُحطِّمُ جَرَّتي بيديَّ -
حاضِريَ السعيدُ

- هل قُلْتَ لي شيئاً يُغَيِّر لي سبيلي ؟
- لم أَقُلْ . كانت حياتي خارجي
أَنا مَنْ يُحَدِّثُ نفسَهُ :
وَقَعَتْ مُعَلَّقتي الأَخيرةُ عن نخيلي
وأَنا المُسَافِرُ داخلي
وأَنا المُحَاصَرُ بالثنائياتِ ،
لكنَّ الحياة جديرَةٌ بغموضها
وبطائرِ الدوريِّ …
لم أُولَدْ لأَعرفَ أَنني سأموتُ ، بل لأُحبَّ محتوياتِ ظلِّ
اللهِ
يأخُذُني الجمالُ إلى الجميلِ
وأُحبُّ حُبَّك ، هكذا متحرراً من ذاتِهِ وصفاتِهِ
وأِنا بديلي …

أَنا من يُحَدِّثُ نَفْسَهُ :
مِنْ أَصغر الأشياءِ تُولَدُ أكبرُ الأفكار
والإيقاعُ لا يأتي من الكلمات ،
بل مِنْ وحدة الجَسَدَيْنِ
في ليلٍ طويلٍ …

أَنا مَنْ يحدِّثُ نَفْسَهُ
ويروِّضُ الذكرى … أَأَنتِ أَنا ؟
وثالثُنا يرفرف بيننا ” لا تَنْسَيَاني دائماً ”
يا مَوْتَنا ! خُذْنَا إليكَ على طريقتنا ، فقد نتعلَّمُ الإشراق …
لا شَمْسٌ ولا قَمَرٌ عليَّ
تركتُ ظلِّي عالقاً بغصون عَوْسَجَةٍ
فخفَّ بِيَ المكانُ
وطار بي روحي الشَّرُودُ

أَنا مَنْ يحدِّثُ نفسَهُ :
يا بنتُ : ما فَعَلَتْ بكِ الأشواقُ ؟
إن الريح تصقُلُنا وتحملنا كرائحة الخريفِ ،
نضجتِ يا امرأتي على عُكَّازَتيَّ ،
بوسعك الآن الذهابُ على ” طريق دمشق ”
واثقةً من الرؤيا . مَلاَكٌ حارسٌ
وحمامتان ترفرفان على بقيَّة عمرنا ، والأرضُ عيدُ …

الأرضُ عيدُ الخاسرين [ ونحن منهُمْ ]
نحن من أَثَرِ النشيد الملحميِّ على المكان ، كريشةِ النَّسْرِ
العجوز خيامُنا في الريح . كُنَّا طيِّبين وزاهدين بلا تعاليم
المسيح . ولم نكُنْ أَقوى من الأعشابِ إلاّ في ختام
الصَيْفِ ،
أَنتِ حقيقتي ، وأَنا سؤالُكِ
لم نَرِثْ شيئاً سوى اسْميْنَا
وأَنتِ حديقتي ، وأَنا ظلالُكِ
عند مفترق النشيد الملحميِّ …
ولم نشارك في تدابير الإلهات اللواتي كُنَّ يبدأن النشيد
بسحرهنَّ وكيدهنَّ . وكُنَّ يَحْمِلْنَ المكانَ على قُرُون
الوعل من زَمَنِ المكان إلى زمان آخرٍ …

كنا طبيعيِّين لو كانت نجومُ سمائنا أَعلى قليلاً من
حجارة بئرنا ، والأَنبياءُ أَقلَّ إلحاحاً ، فلم يسمع مدائحَنا
الجُنُودُ …

خضراءُ ، أرضُ قصيدتي خضراءُ
يحملُها الغنائيّون من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ كما هِيَ في
خُصُوبتها .
ولي منها : تأمُّلُ نَرْجسٍ في ماء صُورَتِهِ
ولي منها وُضُوحُ الظلِّ في المترادفات
ودقَّةُ المعنى …
ولي منها : التَّشَابُهُ في كلام الأَنبياءِ
على سُطُوح الليلِ
لي منها : حمارُ الحكمةِ المنسيُّ فوق التلِّ
يسخَرُ من خُرافتها وواقعها …
ولي منها : احتقانُ الرمز بالأضدادِ
لا التجسيدُ يُرجِعُها من الذكرى
ولا التجريدُ يرفَعُها إلى الإشراقة الكبرى
ولي منها : ” أَنا ” الأُخرى
تُدَوِّنُ في مُفَكِّرَة الغنائيِّين يوميَّاتها :
(( إن كان هذا الحُلْمُ لا يكفي
فلي سَهَرٌ بطوليٌّ على بوابة المنفى … ))
ولي منها : صَدَى لُغتي على الجدران
يكشِطُ مِلْحَهَا البحريَّ
حين يخونني قَلْبٌ لَدُودُ …

أَعلى من الأَغوار كانت حكمتي
إذ قلتُ للشيطان : لا . لا تَمْتَحِنِّي !
لا تَضَعْني في الثُّنَائيّات ، واتركني
كما أَنا زاهداً برواية العهد القديم
وصاعداً نحو السماء ، هُنَاكَ مملكتي
خُذِ التاريخَ ، يا ابنَ أَبي ، خُذِ
التاريخَ … واصنَعْ بالغرائز ما تريدُ

وَلِيَ السكينةُ . حَبَّةُ القمح الصغيرةُ
سوف تكفينا ، أَنا وأَخي العَدُوّ ،
فساعتي لم تَأْتِ بَعْدُ . ولم يَحِنْ
وقتُ الحصاد . عليَّ أَن أَلِجَ الغيابَ
وأَن أُصدِّقَ أوَّلاً قلبي وأتبعَهُ إلى
قانا الجليل . وساعتي لم تأتِ بَعْدُ .
لَعَلَّ شيئاً فيَّ ينبُذُني . لعلِّي واحدٌ
غيري . فلم تنضج كُرومُ التين حول
ملابس الفتيات بَعْدُ . ولم تَلِدْني
ريشةُ العنقاء . لا أَحَدٌ هنالك
في انتظاري . جئْتُ قبل ، وجئتُ
بعد ، فلم أَجد أحداً يُصَدِّق ما
أرى . أنا مَنْ رأى . وأَنا البعيدُ
أَنا البعيدُ

مَنْ أَنتَ ، يا أَنا ؟ في الطريقِ
اثنانِ نَحْنُ ، وفي القيامة واحدٌ .
خُذْني إلى ضوء التلاشي كي أَرى
صَيْرُورتي في صُورَتي الأُخرى . فَمَنْ
سأكون بعدَكَ ، يا أَنا ؟ جَسَدي
ورائي أم أَمامَكَ ؟ مَنْ أَنا يا
أَنت ؟ كَوِّنِّي كما كَوَّنْتُكَ ، ادْهَنِّي
بزيت اللوز ، كَلِّلني بتاج الأرز .
واحملني من الوادي إلى أَبديّةٍ
بيضاءَ . عَلِّمني الحياةَ على طريقتِكَ ،
اختَبِرْني ذَرَّةً في العالم العُلْوِيِّ .
ساعِدْني على ضَجَر الخلود ، وكُنْ
رحيماً حين تجرحني وتبزغ من
شراييني الورودُ …

لم تـأت سـاعـتُنا . فـلا رُسُـلٌ يَـقِـيـسُـونَ
الزمانَ بقبضة العشب الأخير . هل استدار ؟ ولا ملائكةٌ
يزورون المكانَ ليتركَ الشعراءُ ماضِيَهُمْ على الشَّفَق
الجميل ، ويفتحوا غَدَهُمْ بأيديهمْ .
فغنِّي يا إلهتيَ الأثيرةَ ، ياعناةُ ،
قصيدتي الأُولى عن التكوين ثانيةً …
فقد يجدُ الرُّوَاةُ شهادةَ الميلاد
للصفصاف في حَجَرٍ خريفيّ . وقد يجدُ
الرعاةُ البئرَ في أَعماق أُغنية . وقد
تأتي الحياةُ فجاءةً للعازفين عن
المعاني من جناح فراشةٍ عَلِقَتْ
بقافيةٍ ، فغنِّي يا إلهتيَ الأَثيرةَ
يا عناةُ ، أَنا الطريدةُ والسهامُ ،
أَنا الكلامُ . أَنا المؤبِّنُ والمؤذِّنُ
والشهيدُ

ما قلتُ للطَّلَلِ : الوداع . فلم أَكُنْ
ما كُنْتُ إلاّ مَرَّةً . ما كُنْتُ إلاّ
مرَّةً تكفي لأَعرف كيف ينكسرُ الزمانُ
كخيمة البدويِّ في ريح الشمال ،
وكيف يَنْفَطِرُ المكانُ ويرتدي الماضي
نُثَارَ المعبد المهجور . يُشبهُني كثيراً
كُلُّ ما حولي ، ولم أُشْبِهْ هنا
شيئاً . كأنَّ الأرض ضَيِّقَةٌ على
المرضى الغنائيِّين ، أَحفادِ الشياطين
المساكين المجانين الذين إذا رأوا
حُلْماً جميلاً لَقَّنُوا الببغاءَ شِعْر
الحب ، وانفتَحتْ أَمامَهُمُ الحُدُودُ …

وأُريدُ أُن أُحيا …
فلي عَمَلٌ على ظهر السفينة . لا
لأُنقذ طائراً من جوعنا أَو من
دُوَارِ البحر ، بل لأُشاهِدَ الطُوفانَ
عن كَثَبٍ : وماذا بعد ؟ ماذا
يفعَلُ الناجونَ بالأرض العتيقة ؟
هل يُعيدونَ الحكايةَ ؟ ما البدايةُ ؟
ما النهايةُ ؟ لم يعد أَحَدٌ من
الموتى ليخبرنا الحقيقة … /
أَيُّها الموتُ انتظرني خارج الأرض ،
انتظرني في بلادِكَ ، ريثما أُنهي
حديثاً عابراً مَعَ ما تبقَّى من حياتي
قرب خيمتكَ ، انتظِرْني ريثما أُنهي
قراءةَ طَرْفَةَ بنِ العَبْد . يُغْريني
الوجوديّون باستنزاف كُلِّ هُنَيْهَةٍ
حريةً ، وعدالةً ، ونبيذَ آلهةٍ … /
فيا مَوْتُ ! انتظرني ريثما أُنهي
تدابيرَ الجنازة في الربيع الهَشّ ،
حيث وُلدتُ ، حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صُمُود التينِ والزيتونِ في وجه
الزمان وجيشِهِ . سأقول : صُبُّوني
بحرف النون ، حيث تَعُبُّ روحي
سورةُ الرحمن في القرآن . وامشوا
صامتين معي على خطوات أَجدادي
ووقع الناي في أَزلي . ولا
تَضَعُوا على قبري البنفسجَ ، فَهْوَ
زَهْرُ المُحْبَطين يُذَكِّرُ الموتى بموت
الحُبِّ قبل أَوانِهِ . وَضَعُوا على
التابوتِ سَبْعَ سنابلٍ خضراءَ إنْ
وُجِدَتْ ، وبَعْضَ شقائقِ النُعْمانِ إنْ
وُجِدَتْ . وإلاّ ، فاتركوا وَرْدَ
الكنائس للكنائس والعرائس /
أَيُّها الموت انتظر ! حتى أُعِدَّ
حقيبتي : فرشاةَ أسناني ، وصابوني
وماكنة الحلاقةِ ، والكولونيا ، والثيابَ .
هل المناخُ هُنَاكَ مُعْتَدِلٌ ؟ وهل
تتبدَّلُ الأحوالُ في الأبدية البيضاء ،
أم تبقى كما هِي في الخريف وفي
الشتاء ؟ وهل كتابٌ واحدٌ يكفي
لِتَسْلِيَتي مع اللاَّ وقتِ ، أمْ أَحتاجُ
مكتبةً ؟ وما لُغَةُ الحديث هناك ،
دارجةٌ لكُلِّ الناس أَم عربيّةٌ
فُصْحى/

.. ويا مَوْتُ انتظرْ ، ياموتُ ،
حتى أستعيدَ صفاءَ ذِهْني في الربيع
وصحّتي ، لتكون صيَّاداً شريفاً لا
يَصيدُ الظَّبْيَ قرب النبع . فلتكنِ العلاقةُ
بيننا وُدّيَّةً وصريحةً : لَكَ أنَتَ
مالَكَ من حياتي حين أَملأُها ..
ولي منك التأمُّلُ في الكواكب :
لم يَمُتْ أَحَدٌ تماماً ، تلك أَرواحٌ
تغيِّر شَكْلَها ومُقَامَها /
يا موت ! ياظلِّي الذي
سيقودُني ، يا ثالثَ الاثنين ، يا
لَوْنَ التردُّد في الزُمُرُّد والزَّبَرْجَدِ ،
يا دَمَ الطاووس ، يا قَنَّاصَ قلب
الذئب ، يا مَرَض الخيال ! اجلسْ
على الكرسيّ ! ضَعْ أَدواتِ صيدكَ
تحت نافذتي . وعلِّقْ فوق باب البيت
سلسلةَ المفاتيح الثقيلةَ ! لا تُحَدِّقْ
يا قويُّ إلى شراييني لترصُدَ نُقْطَةَ
الضعف الأَخيرةَ . أَنتَ أَقوى من
نظام الطبّ . أَقوى من جهاز
تَنَفُّسي . أَقوى من العَسَلِ القويّ ،
ولَسْتَ محتاجاً - لتقتلني - إلى مَرَضي .
فكُنْ أَسْمَى من الحشرات . كُنْ مَنْ
أَنتَ ، شفَّافاً بريداً واضحاً للغيب .
كن كالحُبِّ عاصفةً على شجر ، ولا
تجلس على العتبات كالشحَّاذ أو جابي
الضرائبِ . لا تكن شُرطيّ سَيْرٍ في
الشوارع . كن قويّاً ، ناصعَ الفولاذ ، واخلَعْ عنك أَقنعةَ
الثعالب . كُنْ
فروسياً ، بهياً ، كامل الضربات . قُلْ
ماشئْتَ : (( من معنى إلى معنى
أَجيءُ . هِيَ الحياةُ سُيُولَةٌ ، وأَنا
أكثِّفُها ، أُعرِّفُها بسُلْطاني وميزاني )) .. /
ويامَوْتُ انتظرْ ، واجلس على
الكرسيّ . خُذْ كأسَ النبيذ ، ولا
تفاوِضْني ، فمثلُكَ لا يُفاوِضُ أَيَّ
إنسانٍ ، ومثلي لا يعارضُ خادمَ
الغيبِ . استرح … فَلَرُبَّما أُنْهِكْتَ هذا
اليوم من حرب النجوم . فمن أَنا
لتزورني ؟ أَلَدَيْكَ وَقْتٌ لاختبار
قصيدتي . لا . ليس هذا الشأنُ
شأنَكَ . أَنت مسؤولٌ عن الطينيِّ في
البشريِّ ، لا عن فِعْلِهِ أو قَوْلِهِ /
هَزَمَتْكَ يا موتُ الفنونُ جميعُها .
هزمتك يا موتُ الأغاني في بلاد
الرافدين . مِسَلَّةُ المصريّ ، مقبرةُ الفراعنةِ ،
النقوشُ على حجارة معبدٍ هَزَمَتْكَ
وانتصرتْ ، وأِفْلَتَ من كمائنك
الخُلُودُ …
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ

وأَنا أُريدُ ، أريدُ أَن أَحيا …
فلي عَمَلٌ على جغرافيا البركان .
من أَيام لوط إلى قيامة هيروشيما
واليبابُ هو اليبابُ . كأنني أَحيا
هنا أَبداً ، وبي شَبَقٌ إلى ما لست
أَعرف . قد يكون ” الآن ” أَبعَدَ .
قد يكونُ الأمس أَقربَ . والغَدُ الماضي .
ولكني أَشدُّ ” الآن ” من يَدِهِ ليعبُرَ
قربيَ التاريخُ ، لا الزَّمَنُ المُدَوَّرُ ،
مثل فوضى الماعز الجبليِّ . هل
أنجو غداً من سرعة الوقت الإلكترونيّ ،
أَم أَنجو غداً من بُطْء قافلتي
على الصحراء؟ لي عَمَلٌ لآخرتي
كأني لن أَعيش غداً. ولي عَمَلٌ ليومٍ
حاضرٍ أَبداً . لذا أُصغي ، على مَهَلٍ
على مَهَل ، لصوت النمل في قلبي :
أعينوني على جَلَدي . وأَسمع صَرْخَةَ
الحَجَر الأسيرةَ : حَرِّروا جسدي . وأُبصرُ
في الكمنجة هجرةَ الأشواق من بَلَدٍ
تُرَابيّ إلى بَلَدٍ سماويّ . وأَقبضُ في
يد الأُنثى على أَبَدِي الأليفِ : خُلِقتُ
ثم عَشِقْتُ ، ثم زهقت ، ثم أَفقتُ
في عُشْبٍ على قبري يدلُّ عليَّ من
حينٍ إلى حينٍ . فما نَفْعُ الربيع
السمح إن لم يُؤْنِس الموتى ويُكْمِلْ
بعدهُمْ فَرَحَ الحياةِ ونَضْرةَ النسيان ؟
تلك طريقةٌ في فكِّ لغز الشعرِ ،
شعري العاطفيّ على الأَقلِّ . وما
المنامُ سوى طريقنا الوحيدة في الكلام /
وأَيُّها الموتُ التَبِسْ واجلسْ
على بلَّوْرِ أَيامي ، كأنَّكَ واحدٌ من
أَصدقائي الدائمين ، كأنَّكَ المنفيُّ بين
الكائنات . ووحدك المنفيُّ . لا تحيا
حياتَكَ . ما حياتُكَ غير موتي . لا
تعيش ولا تموت . وتخطف الأطفالَ
من عَطَشِ الحليب إلى الحليب . ولم
تكن طفلاً تهزُّ له الحساسينُ السريرَ ،
ولم يداعِبْكَ الملائكةُ الصغارُ ولا
قُرونُ الأيِّل الساهي ، كما فَعَلَتْ لنا
نحن الضيوفَ على الفراشة . وحدك
المنفيُّ ، يا مسكين ، لا امرأةٌ تَضُمُّك
بين نهديها ، ولا امرأةٌ تقاسِمُك
الحنين إلى اقتصاد الليل باللفظ الإباحيِّ
المرادفِ لاختلاط الأرض فينا بالسماءِ .
ولم تَلِدْ وَلَداً يجيئك ضارعاً : أَبتي ،
أُحبُّكَ . وحدك المنفيُّ ، يا مَلِكَ
الملوك ، ولا مديحَ لصولجانكَ . لا
صُقُورَ على حصانك . لا لآلئَ حول
تاجك . أَيُّها العاري من الرايات
والبُوق المُقَدَّسِ ! كيف تمشي هكذا
من دون حُرَّاسٍ وجَوْقَةِ منشدين ،
كَمِشْيَة اللصِّ الجبان . وأَنتَ مَنْ
أَنتَ ، المُعَظَّمُ ، عاهلُ الموتى ، القويُّ ،
وقائدُ الجيش الأَشوريِّ العنيدُ
فاصنع بنا ، واصنع بنفسك ما تريدُ

وأَنا أُريدُ ، أُريد أَن أَحيا ، وأَن
أَنساك …. أَن أَنسى علاقتنا الطويلة
لا لشيءٍ ، بل لأَقرأ ما تُدَوِّنُهُ
السماواتُ البعيدةُ من رسائلَ . كُلَّما
أَعددتُ نفسي لا نتظار قدومِكَ
ازددتَ ابتعاداً . كلما قلتُ : ابتعدْ
عني لأُكمل دَوْرَةَ الجَسَدَيْنِ ، في جَسَدٍ
يفيضُ ، ظهرتَ ما بيني وبيني
ساخراً : ” لا تَنْسَ مَوْعِدَنا … ”
- متى ؟ - في ذِرْوَة النسيان
حين تُصَدِّقُ الدنيا وتعبُدُ خاشعاً
خَشَبَ الهياكل والرسومَ على جدار الكهف ،
حيث تقول : ” آثاري أَنا وأَنا ابنُ نفسي ” . - أَين موعدُنا ؟
أَتأذن لي بأن أَختار مقهىً عند
باب البحر ؟ - لا …. لا تَقْتَرِبْ
يا ابنَ الخطيئةِ ، يا ابن آدمَ من
حدود الله ! لم تُولَدْ لتسأل ، بل
لتعمل …. - كُن صديقاً طَيِّباً يا
موت ! كُنْ معنىً ثقافياً لأُدرك
كُنْهَ حكمتِكَ الخبيئةِ ! رُبَّما أَسْرَعْتَ
في تعليم قابيلَ الرمايةَ . رُبَّما
أَبطأتَ في تدريب أَيُّوبٍ على
الصبر الطويل . وربما أَسْرَجْتَ لي
فَرَسا ً لتقتُلَني على فَرَسي . كأني
عندما أَتذكَّرُ النسيانَ تُنقِذُ حاضري
لُغَتي . كأني حاضرٌ أَبداً . كأني
طائر أَبداً . كأني مُذْ عرفتُكَ
أَدمنتْ لُغَتي هَشَاشَتَها على عرباتك
البيضاءِ ، أَعلى من غيوم النوم ،
أَعلى عندما يتحرَّرُ الإحساس من عبء
العناصر كُلّها . فأنا وأَنتَ على طريق
الله صوفيَّانِ محكومان بالرؤيا ولا يَرَيَان /
عُدْ يا مَوْتُ وحدَكَ سالماً ،
فأنا طليق ههنا في لا هنا
أو لا هناك . وَعُدْ إلى منفاك
وحدك . عُدْ إلى أدوات صيدك ،
وانتظرني عند باب البحر . هَيِّئ لي
نبيذاً أَحمراً للاحتفال بعودتي لِعِيادَةِ
الأرضِ المريضة . لا تكن فظّا ً غليظ
القلب ! لن آتي لأَسخر منك ، أَو
أَمشي على ماء البُحَيْرَة في شمال
الروح . لكنِّي - وقد أَغويتَني - أَهملتُ
خاتمةَ القصيدةِ : لم أَزفَّ إلى أَبي
أُمِّي على فَرَسي . تركتُ الباب مفتوحاً
لأندلُسِ الغنائيِّين ، واخترتُ الوقوفَ
على سياج اللوز والرُمَّان ، أَنفُضُ
عن عباءة جدِّيَ العالي خُيُوطَ
العنكبوت . وكان جَيْشٌ أَجنبيٌّ يعبر
الطُرُقَ القديمةَ ذاتها ، ويَقِيسُ أَبعادَ
الزمان بآلة الحرب القديمة ذاتها … /

يا موت ، هل هذا هو التاريخُ ،
صِنْوُكَ أَو عَدُوُّك ، صاعداً ما بين
هاويتين ؟ قد تبني الحمامة عُشَّها
وتبيضُ في خُوَذ الحديد . وربما ينمو
نباتُ الشِّيحِ في عَجَلاتِ مَرْكَبَةٍ مُحَطَّمةٍ .
فماذا يفعل التاريخُ ، صنوُكَ أو عَدُوُّكَ ،
بالطبيعة عندما تتزوَّجُ الأرضَ السماءُ
وتذرفُ المَطَرَ المُقَدَّسَ ؟ /

أَيها الموت ، انتظرني عند باب
البحر في مقهى الرومانسيِّين . لم
أَرجِعْ وقد طاشَتْ سهامُكَ مَرَّةً
إلاّ لأُودِعَ داخلي في خارجي ،
وأُوزِّعَ القمح الذي امتلأتْ به رُوحي
على الشحرور حطَّ على يديَّ وكاهلي ،
وأُودِّعَ الأرضَ التي تمتصُّني ملحاً ، وتنثرني
حشيشاً للحصان وللغزالة . فانتظرني
ريثما أُنهي زيارتي القصيرة للمكان وللزمان ،
ولا تُصَدِّقْني أَعودُ ولا أَعودُ
وأَقول : شكراً للحياة !
ولم أكن حَيّاً ولا مَيْتاً
ووحدك ، كنتَ وحدك ، يا وحيدُ !

تقولُ مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
كثيراً ، وتصرخُ : يا قلبُ !
يا قَلْبُ ! خُذْني
إلى دَوْرَة الماءِ …/

ما قيمةُ الروح إن كان جسمي
مريضاً ، ولا يستطيعُ القيامَ
بواجبه الأوليِّ ؟
فيا قلبُ ، يا قلبُ أَرجعْ خُطَايَ
إليَّ ، لأَمشي إلى دورة الماء
وحدي !

نسيتُ ذراعيَّ ، ساقيَّ ، والركبتين
وتُفَّاحةَ الجاذبيَّةْ
نسيتُ وظيفةَ قلبي
وبستانَ حوَّاءَ في أَوَّل الأبديَّةْ
نسيتُ وظيفةَ عضوي الصغير
نسيتُ التنفُّسَ من رئتيّ .
نسيتُ الكلام
أَخاف على لغتي
فاتركوا كُلَّّ شيء على حالِهِ
وأَعيدوا الحياة إلى لُغَتي !..

تقول مُمَرِّضتي : كُنْتَ تهذي
كثيراً ، وتصرخ بي قائلا ً :
لا أُريدُ الرجوعَ إلى أَحَدِ
لا أُريدُ الرجوعَ إلى بلدِ
بعد هذا الغياب ألطويل …
أُريدُ الرجوعَ فَقَطْ
إلى لغتي في أقاصي الهديل

تقولُ مُمَرِّضتي :
كُنْتَ تهذي طويلا ً ، وتسألني :
هل الموتُ ما تفعلين بي الآنَ
أَم هُوَ مَوْتُ اللُغَةْ ؟

خضراءُ ، أَرضُ قصيدتي خضراءُ ، عاليةٌ …
على مَهَلٍ أُدوِّنُها ، على مَهَلٍ ، على
وزن النوارس في كتاب الماءِ . أَكتُبُها
وأُورِثُها لمنْ يتساءلون : لمنْ نُغَنِّي
حين تنتشرُ المُلُوحَةُ في الندى ؟ …
خضراءُ ، أكتُبُها على نَثْرِ السنابل في
كتاب الحقلِ ، قَوَّسَها امتلاءٌ شاحبٌ
فيها وفيَّ . وكُلَّما صادَقْتُ أَو
آخَيْتُ سُنْبُلةً تَعَلَّمْتُ البقاءَ من
الفَنَاء وضدَّه : (( أَنا حَبَّةُ القمح
التي ماتت لكي تَخْضَرَّ ثانيةً . وفي
موتي حياةٌ ما … ))

كأني لا كأنّي
لم يمت أَحَدٌ هناك نيابةً عني .
فماذا يحفظُ الموتى من الكلمات غيرَ
الشُّكْرِ : ” إنَّ الله يرحَمُنا ” …
ويُؤْنِسُني تذكُّرُ ما نَسِيتُ مِنَ
البلاغة : ” لم أَلِدْ وَلَدا ً ليحمل مَوْتَ
والِدِهِ ” …
وآثَرْتُ الزواجَ الحُرَّ بين المُفْرَدات ….
سَتَعْثُرُ الأُنثى على الذَّّكَر المُلائِمِ
في جُنُوح الشعر نحو النثر ….
سوف تشُّبُّ أَعضائي على جُمَّيزَةٍ ،
ويصُبُّ قلبي ماءَهُ الأَرضيَّ في
أَحَدِ الكواكب … مَنْ أَنا في الموت
بعدي ؟ مَنْ أَنا في الموت قبلي
قال طيفٌ هامشيٌّ : (( كان أوزيريسُ
مثْلَكَ ، كان مثلي . وابنُ مَرْيَمَ
كان مثلَكَ ، كان مثلي . بَيْدَ أَنَّ
الجُرْحَ في الوقت المناسب يُوجِعُ
العَدَمَ المريضَ ، ويَرْفَعُ الموتَ المؤقَّّتَ
فكرةً … )).
من أَين تأتي الشاعريَّةُ ؟ من
ذكاء القلب ، أَمْ من فِطْرة الإحساس
بالمجهول ؟ أَمْ من وردةٍ حمراءَ
في الصحراء ؟ لا الشخصيُّ شخصيُّ
ولا الكونيُّ كونيٌّ …

كأني لا كأني …/
كلما أَصغيتُ للقلب امتلأتُ
بما يقول الغَيْبُ ، وارتفعتْ بِيَ
الأشجارُ . من حُلْم إلى حُلْمٍ
أَطيرُ وليس لي هَدَفٌ أَخيرٌ .
كُنْتُ أُولَدُ منذ آلاف السنين
الشاعريَّةِ في ظلامٍ أَبيض الكتّان
لم أَعرف تماماً مَنْ أَنا فينا ومن
حُلْمي . أَنا حُلْمي
كأني لا كأني …
لم تَكُنْ لُغَتي تُودِّعُ نَبْرها الرعويَّ
إلاّ في الرحيل إلى الشمال . كلابُنا
هَدَأَتْ . وماعِزُنا توشَّح بالضباب على
التلال . وشجَّ سَهْمٌ طائش وَجْهَ
اليقين . تعبتُ من لغتي تقول ولا
تقولُ على ظهور الخيل ماذا يصنعُ
الماضي بأيَّامِ امرئ القيس المُوَزَّعِ
بين قافيةٍ وقَيْصَرَ …/
كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ آلهتي ،
هنالك ، في بلاد الأرجوان أَضاءني
قَمَرٌ تُطَوِّقُهُ عناةُ ، عناةُ سيِّدَةُ
الكِنايةِ في الحكايةِ . لم تكن تبكي على
أَحَدِ ، ولكنْ من مَفَاتِنِها بَكَتْ :
هَلْ كُلُّ هذا السحرِ لي وحدي
أَما من شاعرٍ عندي
يُقَاسِمُني فَرَاغَ التَخْتِ في مجدي ؟
ويقطفُ من سياج أُنوثتي
ما فاض من وردي ؟
أَما من شاعر يُغْوي
حليبَ الليل في نهدي ؟
أَنا الأولى
أَنا الأخرى
وحدِّي زاد عن حدِّي
وبعدي تركُضُ الغِزلانُ في الكلمات
لا قبلي … ولا بعدي /

سأحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ مركباتِ الريحِ
أَو عَطَباً أَصابَ الروحَ
فالأسطورةُ اتَّخَذَتْ مكانَتَها / المكيدةَ
في سياق الواقعيّ . وليس في وُسْعِ القصيدة
أَن تُغَيِّرَ ماضياً يمضي ولا يمضي
ولا أَنْ تُوقِفَ الزلزالَ
لكني سأحلُمُ ،
رُبَّما اتسَعَتْ بلادٌ لي ، كما أَنا
واحداً من أَهل هذا البحر ،
كفَّ عن السؤال الصعب : (( مَنْ أَنا ؟ …
هاهنا ؟ أَأَنا ابنُ أُمي ؟ ))
لا تساوِرُني الشكوكُ ولا يحاصرني
الرعاةُ أو الملوكُ . وحاضري كغدي معي .
ومعي مُفَكِّرتي الصغيرةُ : كُلَّما حَكَّ
السحابةَ طائرٌ دَوَّنتُ : فَكَّ الحُلْمُ
أَجنحتي . أنا أَيضاً أطيرُ . فَكُلُّ
حيّ طائرٌ . وأَنا أَنا ، لا شيءَ
آخَرَ /

واحدٌ من أَهل هذا السهل …
في عيد الشعير أَزورُ أطلالي
البهيَّة مثل وَشْم في الهُوِيَّةِ .
لا تبدِّدُها الرياحُ ولا تُؤبِّدُها … /
وفي عيد الكروم أَعُبُّ كأساً
من نبيذ الباعة المتجوِّلينَ … خفيفةٌ
روحي ، وجسمي مُثْقَلٌ بالذكريات وبالمكان /
وفي الربيع ، أكونُ خاطرةً لسائحةٍ
ستكتُبُ في بطاقات البريد : (( على
يسار المسرح المهجور سَوْسَنَةٌ وشَخْصٌ
غامضٌ . وعلى اليمين مدينةٌ عصريَّةٌ )) /

وأَنا أَنا ، لا شيء آخَرَ …
لَسْتُ من أَتباع روما الساهرينَ
على دروب الملحِ . لكنِّي أسَدِّدُ نِسْبَةً
مئويَّةً من ملح خبزي مُرْغَماً ، وأَقول
للتاريخ : زَيِّنْ شاحناتِكَ بالعبيد وبالملوك الصاغرينَ ، ومُرَّ
… لا أَحَدٌ يقول
الآن : لا .

وأَنا أَنا ، لا شيء آخر
واحدٌ من أَهل هذا الليل . أَحلُمُ
بالصعود على حصاني فَوْقَ ، فَوْقَ …
لأَتبع اليُنْبُوعَ خلف التلِّ
فاصمُدْ يا حصاني . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ

أَنتَ فُتُوَّتي وأَنا خيالُكَ . فانتصِبْ
أَلِفاً ، وصُكَّ البرقَ . حُكَّ بحافر
الشهوات أَوعيةَ الصَدَى . واصعَدْ ،
تَجَدَّدْ ، وانتصبْ أَلفاً ، توتَّرْ يا
حصاني وانتصبْ ألفا ً ، ولا تسقُطْ
عن السفح الأَخير كرايةٍ مهجورةٍ في
الأَبجديَّة . لم نَعُدْ في الريح مُخْتَلِفَيْنِ ،
أَنت تَعِلَّتي وأَنا مجازُكَ خارج الركب
المُرَوَّضِ كالمصائرِ . فاندفِعْ واحفُرْ زماني
في مكاني يا حصاني . فالمكانُ هُوَ
الطريق ، ولا طريقَ على الطريق سواكَ
تنتعلُ الرياحَ . أَُضئْ نُجوماً في السراب !
أَضئْ غيوماً في الغياب ، وكُنْ أَخي
ودليلَ برقي يا حصاني . لا تَمُتْ
قبلي ولا بعدي عَلى السفح الأخير
ولا معي . حَدِّقْ إلى سيَّارة الإسعافِ
والموتى … لعلِّي لم أَزل حيّاً /

سأَحلُمُ ، لا لأُصْلِحَ أَيَّ معنىً خارجي .
بل كي أُرمِّمَ داخلي المهجورَ من أَثر
الجفاف العاطفيِّ . حفظتُ قلبي كُلَّهُ
عن ظهر قلبٍ : لم يَعُدْ مُتَطفِّلاً
ومُدَلّلاً . تَكْفيهِ حَبَّةُ ” أَسبرين ” لكي
يلينَ ويستكينَ . كأنَّهُ جاري الغريبُ
ولستُ طَوْعَ هوائِهِ ونسائِهِ . فالقلب
يَصْدَأُ كالحديدِ ، فلا يئنُّ ولا يَحِنُّ
ولا يُجَنُّ بأوَّل المطر الإباحيِّ الحنينِ ،
ولا يرنُّ ّكعشب آبَ من الجفافِ .
كأنَّ قلبي زاهدٌ ، أَو زائدٌ
عني كحرف ” الكاف ” في التشبيهِ
حين يجفُّ ماءُ القلب تزدادُ الجمالياتُ
تجريداً ، وتدَّثرُ العواطف بالمعاطفِ ،
والبكارةُ بالمهارة /

كُلَّما يَمَّمْتُ وجهي شَطْرَ أُولى
الأغنيات رأيتُ آثارَ القطاة على
الكلام . ولم أَكن ولداً سعيداً
كي أَقولَ : الأمس أَجملُ دائماً .
لكنَّ للذكرى يَدَيْنِ خفيفتين تُهَيِّجانِ
الأرضَ بالحُمَّى . وللذكرى روائحُ زهرةٍ
ليليَّةٍ تبكي وتُوقظُ في دَمِ المنفيِّ
حاجتَهُ إلى الإنشاد : (( كُوني
مُرْتَقى شَجَني أَجدْ زمني )) … ولستُ
بحاجةٍ إلاّ لِخَفْقَةِ نَوْرَسِ لأتابعَ
السُفُنَ القديمةَ . كم من الوقت
انقضى منذ اكتشفنا التوأمين : الوقتَ
والموتَ الطبيعيَّ المُرَادِفَ للحياة ؟
ولم نزل نحيا كأنَّ الموتَ يُخطئنا ،
فنحن القادرين على التذكُّر قادرون
على التحرُّر ، سائرون على خُطى
جلجامشَ الخضراءِ من زَمَنٍ إلى زَمَنٍ … /

هباءٌ كاملُ التكوينِ …
يكسرُني الغيابُ كجرَّةِ الماءِ الصغيرة .
نام أَنكيدو ولم ينهض . جناحي نام
مُلْتَفّاً بحَفْنَةِ ريشِهِ الطينيِّ . آلهتي
جمادُ الريح في أَرض الخيال . ذِراعِيَ
اليُمْنى عصا خشبيَّةٌ . والقَلْبُ مهجورٌ
كبئرٍ جفَّ فيها الماءُ ، فاتَّسَعَ الصدى
الوحشيُّ : أنكيدو ! خيالي لم يَعُدْ
يكفي لأُكملَ رحلتي . لا بُدَّ لي من
قُوَّةٍ ليكون حُلْمي واقعيّاً . هاتِ
أَسْلِحتي أُلَمِّعْها بمِلح الدمعِ . هاتِ
الدمعَ ، أنكيدو ، ليبكي المَيْتُ فينا
الحيَّ . ما أنا ؟ مَنْ ينامُ الآن
أنكيدو ؟ أَنا أَم أَنت ؟ آلهتي
كقبض الريحِ . فانهَضْ بي بكامل
طيشك البشريِّ ، واحلُمْ بالمساواةِ
القليلةِ بين آلهة السماء وبيننا . نحن
الذين نُعَمِّرُ الأرضَ الجميلةَ بين
دجلةَ والفراتِ ونحفَظُ الأسماءَ . كيف
مَلَلْتَني ، يا صاحبي ، وخَذَلْتَني ، ما نفْعُ حكمتنا بدون
فُتُوّةٍ … ما نفعُ حكمتنا ؟ على باب المتاهِ خذلتني ،
يا صاحبي ، فقتلتَني ، وعليَّ وحدي
أَن أرى ، وحدي ، مصائرنا . ووحدي
أَحملُ الدنيا على كتفيَّ ثوراً هائجاً .
وحدي أَفتِّشُ شاردَ الخطوات عن
أَبديتي . لا بُدَّ لي من حَلِّ هذا
اللُغْزِ ، أنكيدو ، سأحملُ عنكَ
عُمْرَكَ ما استطعتُ وما استطاعت
قُوَّتي وإرادتي أَن تحملاكَ . فمن
أَنا وحدي ؟ هَبَاءٌ كاملُ التكوينِ
من حولي . ولكني سأُسْنِدُ ظلَّّك
العاري على شجر النخيل . فأين ظلُّكَ ؟
أَين ظلُّك بعدما انكسرَتْ جُذُوعُك؟
قمَّةُ
الإنسان
هاويةٌ …
ظلمتُكَ حينما قاومتُ فيكَ الوَحْشَ ،
بامرأةٍ سَقَتْكَ حليبَها ، فأنِسْتَ …
واستسلمتَ للبشريِّ . أَنكيدو ، ترفَّقْ
بي وعُدْ من حيث مُتَّ ، لعلَّنا
نجدُ الجوابَ ، فمن أَنا وحدي ؟
حياةُ الفرد ناقصةٌ ، وينقُصُني
السؤالُ ، فمن سأسألُ عن عبور
النهر ؟ فانهَضْ يا شقيقَ الملح
واحملني . وأَنتَ تنامُ هل تدري
بأنك نائمٌ ؟ فانهض .. كفى نوما ً!
تحرَّكْ قبل أَن يتكاثَرَ الحكماءُ حولي
كالثعالب : [ كُلُّ شيء باطلٌ ، فاغنَمْ
حياتَكَ مثلما هِيَ برهةً حُبْلَى بسائلها ،
دَمِ العُشْب المُقَطَّرِ . عِشْ ليومك لا
لحلمك . كلُّ شيء زائلٌ . فاحذَرْ
غداً وعشِ الحياةَ الآن في امرأةٍ
تحبُّكَ . عِشْ لجسمِكَ لا لِوَهْمِكَ .

وانتظرْ
ولداً سيحمل عنك رُوحَكَ
فالخلودُ هُوَ التَّنَاسُلُ في الوجود .
وكُلُّ شيءٍ باطلٌ أو زائل ، أو
زائل أو باطلٌ ]

مَنْ أَنا ؟
أَنشيدُ الأناشيد
أم حِكْمَةُ الجامعةْ ؟
وكلانا أَنا …
وأَنا شَاعرٌ
ومَلِكْ
وحكيمٌ على حافّة البئرِ
لا غيمةٌ في يدي
ولا أَحَدَ عَشَرَ كوكباً
على معبدي
ضاق بي جَسَدي
ضاق بي أَبدي
وغدي
جالسٌ مثل تاج الغبار
على مقعدي

باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ

أَلرياحُ شماليَّةٌ
والرياحُ جنوبيَّةٌ
تُشْرِقُ الشمسُ من ذاتها
تَغْرُبُ الشمسُ في ذاتها
لا جديدَ ، إذاً
والزَمَنْ
كان أَمسِ ،
سُدىً في سُدَى .
ألهياكلُ عاليةٌ
والسنابلُ عاليةٌ
والسماءُ إذا انخفضت مَطَرتْ
والبلادُ إذا ارتفعت أَقفرت
كُلُّ شيء إذا زاد عن حَدِّهِ
صار يوماً إلى ضدِّهِ .
والحياةُ على الأرض ظلٌّ
لما لا نرى ….

باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
كلُّ شيء على البسيطة زائلْ

1400 مركبة
و12,000 فرس
تحمل اسمي المُذَهَّبَ من
زَمَنٍ نحو آخر …
عشتُ كما لم يَعِشْ شاعرٌ
مَلكاً وحكيماً …
هَرِمْتُ ، سَئِمْتُ من المجدِ
لا شيءَ ينقصني
أَلهذا إذاً
كلما ازداد علمي
تعاظَمَ هَمِّي ؟
فما أُورشليمُ وما العَرْشُ ؟
لا شيءَ يبقى على حالِه
للولادة وَقْتٌ
وللموت وقتٌ
وللصمت وَقْتٌ
وللنُّطق وقْتٌ
وللحرب وقْتٌ
وللصُّلحِ وقْتٌ
وللوقتِ وقْتٌ
ولا شيءَ يبقى على حالِهِ …
كُلُّ نَهْرٍ سيشربُهُ البحرُ
والبحرُ ليس بملآنَ ،
لاشيءَ يبقى على حالِهِ
كُلُّ حيّ يسيرُ إلى الموت
والموتُ ليس بملآنَ ،
لا شيءَ يبقى سوى اسمي المُذَهَّبِ
بعدي :
(( سُلَيمانُ كانَ )) …
فماذا سيفعل موتى بأسمائهم
هل يُضيءُ الذَّهَبْ
ظلمتي الشاسعةْ
أَم نشيدُ الأناشيد
والجامعةْ ؟

باطلٌ ، باطلُ الأباطيل … باطلْ
كُلُّ شيء على البسيطة زائلْ /…

مثلما سار المسيحُ على البُحَيْرَةِ ،
سرتُ في رؤيايَ . لكنِّي نزلتُ عن
الصليب لأَنني أَخشى العُلُوَّ ،ولا
أُبَشِّرُ بالقيامةِ . لم أُغيِّرْ غَيْرَ
إيقاعي لأَسمَعَ صوتَ قلبي واضحاً .
للملحميِّين النُّسُورُ ولي أَنا : طوقُ
الحمامةِ ، نجمةٌ مهجورةٌ فوق السطوح ،
وشارعٌ مُتَعرِّجُ يُفْضي إلى ميناءِ
عكا - ليس أكثرَ أَو أَقلَّ -
أُريد أَن أُلقي تحيَّاتِ الصباح عليَّ
حيث تركتُني ولداً سعيدا [ لم
أَكُنْ ولداً سَعيدَ الحظِّ يومئذٍ ،
ولكنَّ المسافةَ، مثلَ حدَّادينَ ممتازينَ ،
تصنَعُ من حديدٍ تافهٍ قمراً]
- أَتعرفني ؟
سألتُ الظلَّ قرب السورِ ،
فانتبهتْ فتاةُ ترتدي ناراً ،
وقالت : هل تُكَلِّمني ؟
فقلتُ : أُكَلِّمُ الشَبَحَ القرينَ
فتمتمتْ : مجنونُ ليلى آخرٌ يتفقَُّّد
الأطلالَ ،
وانصرفتْ إلى حانوتها في آخر السُوق
القديمةِ…
ههنا كُنَّا . وكانت نَخْلَتانِ تحمِّلان
البحرَ بعضَ رسائلِ الشعراءِ …
لم نكبر كثيراً يا أَنا . فالمنظرُ
البحريُّ ، والسُّورُ المُدَافِعُ عن خسارتنا ،
ورائحةُ البَخُور تقول : ما زلنا هنا ،
حتى لو انفصَلَ الزمانُ عن المكانِ .
لعلَّنا لم نفترق أَبداً
- أَتعرفني ؟
بكى الوَلَدُ الذي ضيَّعتُهُ :
(( لم نفترق . لكننا لن نلتقي أَبداً )) …
وأَغْلَقَ موجتين صغيرتين على ذراعيه ،
وحلَّّق عالياً …
فسألتُ : مَنْ منَّا المُهَاجِرُ ؟ /
قلتُ للسّجَّان عند الشاطئ الغربيّ :
- هل أَنت ابنُ سجّاني القديمِ ؟
- نعم !
- فأين أَبوك ؟
قال : أَبي توفِّيَ من سنين.
أُصيبَ بالإحباط من سَأَم الحراسة .
ثم أَوْرَثَني مُهمَّتَهُ ومهنته ، وأوصاني
بان أَحمي المدينةَ من نشيدكَ …
قُلْتُ : مُنْذُ متى تراقبني وتسجن
فيَّ نفسَكَ ؟
قال : منذ كتبتَ أُولى أُغنياتك
قلت : لم تَكُ قد وُلِدْتَ
فقال : لي زَمَنٌ ولي أَزليَّةٌ ،
وأُريد أن أَحيا على إيقاعِ أمريكا
وحائطِ أُورشليمَ
فقلتُ : كُنْ مَنْ أَنتَ . لكني ذهبتُ .
ومَنْ تراه الآن ليس أنا ، أنا شَبَحي
فقال : كفى ! أَلسْتَ اسمَ الصدى
الحجريِّ ؟ لم تذهَبْ ولم تَرْجِعْ إذاً .
ما زلتَ داخلَ هذه الزنزانة الصفراءِ .
فاتركني وشأني !
قلتُ : هل ما زلتُ موجودا ً
هنا ؟ أَأَنا طليقٌ أَو سجينٌ دون
أن أدري . وهذا البحرُ خلف السور بحري ؟
قال لي : أَنتَ السجينُ ، سجينُ
نفسِكَ والحنينِ . ومَنْ تراهُ الآن
ليس أَنا . أَنا شَبَحي
فقلتُ مُحَدِّثاً نفسي : أَنا حيٌّ
وقلتُ : إذا التقى شَبَحانِ
في الصحراء ، هل يتقاسمانِ الرملَ ،
أَم يتنافسان على احتكار الليل ؟ /

المقطع قبل الأخير
كانت ساعَةُ الميناءِ تعمَلُ وحدها
لم يكترثْ أَحَدٌ بليل الوقت ، صَيَّادو
ثمار البحر يرمون الشباك ويجدلون
الموجَ . والعُشَّاقُ في الـ” ديسكو ” .
وكان الحالمون يُرَبِّتُون القُبَّراتِ النائماتِ
ويحلمون …
وقلتُ : إن متُّ انتبهتُ …
لديَّ ما يكفي من الماضي
وينقُصُني غَدٌ …
سأسيرُ في الدرب القديم على
خُطَايَ ، على هواءِ البحر . لا
امرأةٌ تراني تحت شرفتها . ولم
أملكْ من الذكرى سوى ما ينفَعُ
السَّفَرَ الطويلَ . وكان في الأيام
ما يكفي من الغد . كُنْتُ أصْغَرَ
من فراشاتي ومن غَمَّازتينِ :
خُذي النُّعَاسَ وخبِّئيني في
الرواية والمساء العاطفيّ /
وَخبِّئيني تحت إحدى النخلتين /
وعلِّميني الشِعْرَ / قد أَتعلَّمُ
التجوال في أنحاء ” هومير ” / قد
أُضيفُ إلى الحكاية وَصْفَ
عكا / أقدمِ المدنِ الجميلةِ ،
أَجملِ المدن القديمةِ / علبَةٌ
حَجَريَّةٌ يتحرَّكُ الأحياءُ والأمواتُ
في صلصالها كخليَّة النحل السجين
ويُضْرِبُونَ عن الزهور ويسألون
البحر عن باب الطوارئ كُلَّما
اشتدَّ الحصارُ / وعلِّميني الشِعْرَ /
قد تحتاجُ بنتٌ ما إلى أُغنية
لبعيدها : (( خُذْني ولو قَسْراً
إليكَ ، وضَعْ منامي في
يَدَيْكَ )) . ويذهبان إلى الصدى
مُتَعانِقَيْنِ / كأنَّني زوَّجتُ ظبياً
شارداً لغزالةٍ / وفتحتُ أبوابَ
الكنيسةِ للحمام … / وعَلِّميني
الشِعْرَ / مَنْ غزلتْ قميصَ
الصوف وانتظرتْ أمام الباب
أَوْلَى بالحديث عن المدى ، وبخَيْبَةِ
الأَمَلِ : المُحاربُ لم يَعُدْ ، أو
لن يعود ، فلستَ أَنتَ مَن
انتظرتُ … /

ومثلما سار المسيحُ على البحيرة …
سرتُ في رؤيايَ . لكنِّي نزلتُ عن
الصليب لأنني أَخشى العُلُوَّ ولا
أُبشِّرُ بالقيامة . لم أُغيِّر غيرَ إيقاعي
لأَسمع صوتَ قلبي واضحاً …
للملحميِّين النُسُورُ ولي أَنا طَوْقُ
الحمامة ، نَجْمَةٌ مهجورةٌ فوق السطوح ،
وشارعٌ يُفضي إلى الميناء … /
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ وسائلي المنويِّ … لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي
لِيَ حَذْوَةُ الفَرَسِ التي
طارت عن الأسوار … لي
ما كان لي . وقصاصَةُ الوَرَقِ التي
انتُزِعَتْ من الإنجيل لي
والملْحُ من أَثر الدموع على
جدار البيت لي …
واسمي ، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ / المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ / الحديقةُ والحبيبةُ ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ / المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً ، مريضَ المُشْتَهَى
واو / الوداعُ ، الوردةُ الوسطى ،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ ، وَوَعْدُ الوالدين
دال / الدليلُ ، الدربُ ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني /
وهذا الاسمُ لي …
ولأصدقائي ، أينما كانوا ، ولي
جَسَدي المُؤَقَّتُ ، حاضراً أم غائباً …
مِتْرانِ من هذا التراب سيكفيان الآن …
لي مِتْرٌ و75 سنتمتراً …
والباقي لِزَهْرٍ فَوْضَويّ اللونِ ،
يشربني على مَهَلٍ ، ولي
ما كان لي : أَمسي ، وما سيكون لي
غَدِيَ البعيدُ ، وعودة الروح الشريد
كأنَّ شيئا ً لم يَكُنْ
وكأنَّ شيئاً لم يكن
جرحٌ طفيف في ذراع الحاضر العَبَثيِّ …
والتاريخُ يسخر من ضحاياهُ
ومن أَبطالِهِ …
يُلْقي عليهمْ نظرةً ويمرُّ …
هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
واسمي -
وإن أخطأتُ لفظ اسمي على التابوت -
لي .
أَما أَنا - وقد امتلأتُ
بكُلِّ أَسباب الرحيل -
فلستُ لي .
أَنا لَستُ لي
أَنا لَستُ لي …