2007-07-24

حوار معه عن صحيفة الاتحاد الحيفاوية

بأي شعور استقبلت دعوة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة ومجلة مشارف لأمسية شعرية في حيفا، وبأي شعور تتوجه الي الامسية والي حيفا؟

من الصعب عليّ ان أحدّد شعوري منذ الآن عندما سأواجه أبناء شعبي في مكان يحتلّ مكانة خاصة في شعري وفي ذكرياتي، وهو مدينة حيفا. من الطبيعي أن يكون الشعور الأول الذي أحمله الآن هو شعور باللهفة، وشعور بالخشية أيضًا، تمتزج الخشية باللهفة لأن الزمن الذي فصلنا عن بعض زمن طويل، كبرتُ فيه بطريقة ما، وأبناء جيلي كبروا بطريقة ما، ونمت أجيال جديدة لم يحصل من قبل احتكاك بحساسيتها الشعرية. لذلك أنا ذاهب إلي ما يشبه المجهول الجميل. كيفَ سيكون اللقاء؟ كيف سيكون التعامل مع شعري الجديد الذي أحرص دائمًا علي ان اقرأ منه ولا أكتفي بما تطالبني به ذاكرة قرّائي؟ أشعر كأني سأقرأ للمرة الأولي، وأني سأدخل امتحانًا عليّ أن أبذل كثيرا من الاستعداد لعبوره بنجاح. أرجو أن تكون المسافة الجغرافية بيني وبين قرّاء الشعر الذين سألتقيهم في حيفا مسافةً وهمية، وان يكون التطابق كاملا بين ما أحسّ به وما يحسّون به، وبين حساسيتي الشعرية وحساسيتهم الشعرية.

هناك وجوه وأمكنة لا بد وأنها راودتك حين تلقيت دعوة المشاركة، خصوصا أنك تقرأ في حيفا للمرة الاولي منذ قرابة أربعة عقود. هل خطرت لك لحظات معينة أو فكرت بأشخاص معينين حين تأكد لك حضورك الي حيفا؟

من المؤكد أن المكان، الذي هو حيفا، هو ليس جغرافيا فقط. إنما هو أيضًا وجوه وشخصيات وذاكرة. أتلهّف لـلّـقـاء بما تخزّنه ذاكرتي وبما سوف يفاجئني المكان به. لقد عشتُ في حيفا عشر سنوات كاملة، وفي حيفا عرفت كل أنواع التجارب الأولي: تحربة الكتابة، تجربة النشر، تجربة العمل الصحافي، تجربة السجن، الاعتقال المنزلي والإقامة الجبرية.. في حيفا ترعرعت شخصيتي الشعرية والثقافية والسياسيّة أيضًا. وبالتالي أستطيع ان أعتبر أن اكثر مكان موجود في نصّي الشعري وفي تكويني الثقافي هو حيفا، بدون شك. صحيح أنني لم أولد في حيفا، وحيفا ليست مدينتي، لكنها مدينتي بالتبني؛ تبنيتُ حيفا مثلما احتضنتني هي كواحد من أبنائها..
وجوه معينة..
علّمتُ نفسي ألا ارسم الوجوه مسبقا لأن الزمن فعل فعله ويسبب دائمًا خيبة أمل. لن أعرف الوجوه كما كانت مرسومة في ذاكرتي. أربعون عامًا تجري تعديلا جذريًا ليس علي وجوه البشر فحسب، أنما علي وجوه الصخر ايضًا.

ووجوه من غابوا، بأي مكان وأية ملامح تتذكرهم؟

أنا عملت في جريدة الاتحاد . وللأسف الشديد، كل الذين عملت معهم في الاتحاد قد رحلوا: إميل توما وإميل حبيبي، صليبا خميس، محمد خاص، عصام العباسي وعلي عاشور. لم يبق من هم أحياء سوي توفيق طوبي الذي أتمني له عمرًا مديدًا. ما زلت أذكر المكان: كان مبني الجريدة عبارة عن غرفتين فقط امامهما ساحة في شارع ماريوحنا. الذين عملت معهم وتعلمت منهم كثيرا غابوا جميعًا، للأسف الشديد.
لقد سُمّيَ الشارع نفسه لاحقا علي اسم حنا نقارة، محامي الأرض والشعب...

نحن أيضًا كنا نجاور منزل المرحوم حنا نقارة وكان يعطف علينا كثيرا..

ثمة مرويّات عديدة عن علاقتكم الوطيدة بأبي طوني (حنا نقارة) أنتم الكتاب والصحافيون الشباب في ذلك الوقت..
أبو طوني كان راعيًا لمجموعة من يعملون في الاتحاد ، وأوسع من ذلك. كان هو مضيفنا الدائم وكان شخصية محبوبة جدًا ومناضلا حقيقيا أذكره بكل الخير. للأسف عندما نتكلم عن أسماء ووجوه أشعر بالأسي لأني لن أجدها ثانية ولن أراها إلا في ذاكرتي. أصبح المكان ناقصًا كثيرًا، سأشعر أن حيفا ناقصة.

يشغل المكان حيّزًا أساسيًا ومهمًا في معمارك الشعريّ. أيّ خصوصية يكتسب المكان، كمفهوم وكواقع، حين نتحدّث عن حيفا؟ يبدو وكأن حيفا بقيت رغم البعد والوقت مدينتك المحلومة، وكأنّ جزءًا من ولعكَ ببيروت بالشكل الذي تبدّي في شعرك عائد إلي شبهها بحيفا؟

صحيح. صحيح. هناك شبه ما بين جغرافية وطوبوغرافية بيروت وحيفا. كلتاهما مدينتان علي البحر، علي نفس البحر، المتوسط. ولكن جبل الكرمل أكثر قربًا من البحر من جبل بيروت. المكان تحوّل الي كل صراعنا، صراعنا الوطني هو حول المكان وحول امتلاك المكان. الشاعر يسعي لامتلاك المكان من خلال تثبيته في اللغة، وفي شعري كثير من هذا الجهد مهما تغيّر المكان، فهو دائما ما يتعرض لتغييرات كي تتطابق الاسطورة والخرافة مع الواقع. الجرّافات تقوم بعملية تطويع المكان لمتطلبات الأسطورة. ولكن في ذاكرتنا المكان هو نفسه لا يتغيّر. وقد يفاجئنا انه تغيّر ولكن في الذاكرة التي رسمت الشكل النهائي له، يبقي المكان في مكانه حتي لو تمت محاولة نقله بالشاحنات وإجراء تعديلات عليه ليلائم متطلبات الخرافة.

هل تتغيّر خصوصية المكان ومعناه بين حيفا ورام الله، أو بين البروة ورام الله؟ البروة كمكان مفهومي من حيث التجربة المعاشة أكثر بينما رام الله التجربة بكل حدّتها وتفصيلاتها؟

البروة ليست مكانًا مفهوميًا او مجازيًا. هي المكان الذي وُلدت فيه ومنه نشأت طفولتي. هو اللوح الأول الذي تعلمت عليه كتابة الأبجدية، وبالتالي لا يمكن أن يصبح مفهوميًا او مجازيًا لشدّة ما هو قوي في الطفولة. أنت لا تستطيع ان تجري تعديلات علي الطفولة، تعديلات معطي ثابت لا يتحرّك، مُحمّلٌ بجماليات قد لا تكون مهمّة، لكنه متشكّلٌ بشكل شبه نهائي، وبصمَته علي اللغة وعلي السلوك وعلي الذاكرة بصمة الحفر أو الوشم. وبالتالي لا أستطيع القول إنه متخيّل حتي لو أبيد وأصبح اطلالاً. في البروة حتي الاطلال جري دفنها ببنايات أقيمت عليها. لكن عملي كشاعر هو الاستمرار بحفريات أركيولوجية وجمالية للاحتفاظ بهذا المكان في نصّي الشعري. هنا ندخل في اشكالية جمالية؛ أين يكون المكان أقوي، في اللغة الشعرية أم في الجغرافيا؟ أعتقد أننا حين نزور مكانًا ما، لأول مرة، ونكون قد قرأنا عنه نبحث عنه من خلال القراءة وليس العكس. أي أن القراءة هي دليلنا، السياحي حتي، إلي المكان. ونبحث هل ثمة تطابق بين الصورة التي كوّناها من خلال الأدب عن المكان، وبين المكان نفسه. دائمًا ننحاز أكثر إلي صورة المكان كما صوّره النصّ الأدبي.

لماذا؟

هذه قوّة الأدب، قوّة الأدب ومكرُه. حين تقرأ الأدب اليوناني مثلا، والتراجيديا الإغريقية مليئة بذكر الأمكنة، وعندما لا تجد المكان كما صوّرته التراجيديا الإغريقية فإنك تنحاز إلي صورته في الأدب. والأمر صحيح بالنسبة لوضعنا الحالي، الإسرائيليون يقرأون المكان من خلال وصفه التوراتي ويُجرون تعديلات ليتطابق مع وصفه التوراتيّ. لكي تبقي الضفة الغربية علي سبيل المثال كتابة توراتية. وهذا جزء من صراعنا الثقافي حول من يمتلك المكان، هل الذي كتبه أم الذي احتلّه؟ لو كان الصراع علي المكان صراعًا ادبيًا لكانت الحياة أقل بؤسًا، ولكن بيننا وبين الإسرائيليين صراع حول كتابة المكان. من يكتب المكان أولاً؟ إن من يكتب المكان بشكل أفضل يشعر أنه يملك الحق في المكان أكثر من غيره. لكن هل الذين لم يكتبوا لا حقّ لهم في المكان؟ وهل الذين لا نصّ أدبي لهم لا حقّ لهم في المكان؟ هل الأغبياء لا حقّ لهم في الوجود؟ هذا سؤال فلسفي.. جوابي هو طبعًا لا. الحق للجميع، للأغبياء والأذكياء، للأقوياء والضعفاء. لمن يمتلكون ماضيًا أبعد ولمن يمتلكون ماضيًا أقرب. أحد أشكال مشكلتنا الثقافية هو أننا، لكي نبزّ اليهود في أسبقيّة وجودنا علي هذه الأرض، لجأنا إلي أسطورتنا الكنعانية لكي نقول أننا كنا هنا قبل الآخرين. لكن ماذا لو لم نكن كنعانيين، ألا يحق لنا أن نكون مواطنين؟ ألا يحق لنا ان نكون أصحاب هذه الأرض؟
هذا الصراع حول الميثولوجيا جميل في الأدب، لكن حين نطبقه علي السياسة يصبح عبئًا ثقيلا.


ورام الله؟

رام الله بالنسبة لي مكان للزيارة. مكان للمشاركة في صَوْغ الهوية الوطنية. أمّا بالنسبة لي شخصيًا فلا معني خاص لها. لم أعرفها من قبل وليست لي فيها ذاكرة وليس لي فيها تاريخ. تعرّفت عليها منذ عشر سنوات فقط. وفي مثل هذا العمر لا أستطيع أن أبدع ذكريات وعلاقات حميمة مع المكان. أنا الآن في سن أصبحتْ فيه الأمكنة بالنسبة لي تقريبًا متشابهة. أشعر أنّ الوقت يداهمني وعليّ أن أنجز عملي، وعملي قد يتم في أية غرفة أسكنها في هذا العالم. لكن انتمائي لرام الله هو جزء من مشروعي الوطني وليس جزءًا من تكويني الشخصي الحميمي.


شكّلَ المنفي، فعليًا ورمزيًا، إحدي الثيمات الأساسية في عملك الشعريّ. ماذا تعني لك العودة ، إذا كان ثمة عودة، وأين تري مكانك الخاص الذي ترغب في العودة إليه؟

بعيدًا عن السياسة، لا أحد يعود إلي شيء. ليست هناك عودة، لا إلي الزمان، ولا إلي المكان المتخيّل. حتيّ عودة أوذيسيوس الي إيثاكا انتهت بخيبة أمل بعد لقائه بينلوب. لأن الزمن فرّق في مستوي شعورهما تجاه بعض. هناك ثنائية البيت والطريق وهي أيضًا سؤال وجودي مطروح دائما في الأدب، وهو سؤال جميل. أيّهما افضل؛ الطريق أم الوصول، البيت أم الطريق؟ المنفي يحمل عدة مستويات وأبعاد من التعريف. ثمة المنفي الوجودي والمنفي الميتافيزيقي، الجغرافي، والمنفي السياسي.. وهو أحد مشتقّات الاغتراب الذي هو ثيمة أساسية في الأدب العالمي تشير إلي اغتراب الإنسان عن أشياء كثيرة؛ اغترابه عن نفسه، وعن مجتمعه، اغترابه عن محاولة التشييء، تشييء الذات. وأرض البشر كلها يمكن أن تكون بهذا المعني منفًي ميتافيزيقيًا، فالأرض كلها عقوبة إلهية لارتكاب آدم وحواء مخالفة إلهية، وإرسالهم إلي الأرض كمنفي، الأرض كمنفي عن الجنة. التاريخ بدأ بوصول آدم إلي الأرض. أعجبني مرة قول أحد الفلاسفة أنه لولا قصة الحب بين حواء وآدم لما كان هناك تاريخ، ولكـُنا تخلّـصنا من التاريخ لأن التاريخ بدأ من هذه العقوبة. أنا المنفي يتلـبّسني، حتي عندما كنت أعيش في حيفا كنت منفيًا. فما معني أن تكون سجينًا، ما معني أن تكون لاجئًا في بلادك؟ هذا أيضا شكل من أشكال النفي والإقصاء. كما أقول دائمًا، عندما كنت في المنفي الخارجي كنت دائمًا ممتلئًا بالوطن، وعندما عدت، مجازًا، إلي الوطن حافظت علي المنفي أيضًا. المنفي موجود في الوطن وخارجه، والوطن موجود في الوطن وخارجه. وثنائية الوطن والمنفي موجودة في كل واحد فينا علي درجة أو أخري من القسوة أو الألم. قد يكون المنفي أليفًا، وقد يكون الوطن وحشياً. أنا طبعا لا أدافع عن المنفي ولكن أشرح، ردًا علي سؤالكم، علاقتي الملتبسة بالمنفي. الاحتلال يسبب لي احساساً بالمنفي. الاضطهاد يسبب لي إحساسًا بالمنفي. الفقر يسبّب لي إحساسًا بالمنفي. فالمنفي عدة حالات وتجليات لا حصر لها. والأدب يستطيع طبعًا أن ينمو في المنفي، وهناك أدباء عظماء في التاريخ أبدعوا إبداعاتهم الكبري في المنفي. جيمس جويس مثلا اختار المنفي ليكتب رائعته عوليس . والأنبياء أيضًا عاشوا في المنافي، كل الأنبياء.


سكنتَ لسنوات طويلة، لعقد كامل من الزمن، في شارع عباس ، وقضيت 3 سنوات تحت الإقامة الجبرية في بيتك ذاك، كيف تتذكّر اليوم مكانك الخاص بعد مضيّ كل هذا الوقت، خصوصًا مع التباس حميمية البيت بفقدان حريتكَ فيه. كان بيتك وسجنك في الوقت نفسه؟

السجن ايضا له عدة أشكال. قد يصبح البيت سجناً، وقد يكون أحيانا في زنزانة، في سجن حقيقي، أفق أوسع من أن تكون في سهل مفتوح. السجن كثافة. أنتَ تجلس فيه مع نفسك ولا تستطيع أن تقاوم هذه العزلة القسرية في مساحة جغرافية ضيّقة إلا بتفتيح الخيال علي عالم مُتخيّل وأوسع وأجمل وأبعد. قد يكون أحيانا ضيق المكان مناسبة لفتح سعة الأفق علي مداه. لكن عندما يصبح البيت سجنًا تضيق المساحة. السّعة في السجن الحقيقي أكبر من مساحة الحرية في البيت عندما يتحوّل الي سجن.لأنك عندها تشعر بثلاثة أشياء، بالغيظ، وبنوع من التعسّف، وبالقسوة. وتعاني من حق الشرطة في تلك الحالة أن تدخل عليك في أي وقت تشاء لتتاكد من وجودك. فأن تكون مسجونا غير مسمّي سجيناً، هذا يترك شعورا أقسي بكثير من أن تكون سجينًا وتشعر أنك حرٌ. عندما تكون سجيناً في البيت تتمتع بحرية ما نسبيّة، أنت لست سجيناً وليس معترف بك كسجين.بينما في السجن معترف بك كسجين وتتعامل مع نفسك كسجين وتطوّر تأملاتِ وتطلّعات الي حريّة مُتخيّلة انطلاقا من ذلك.


كتبتَ الي الاتحاد في عيدها الستين لم تكن الاتحاد جريدة إخبارية بقدر ما كانت ورشة عمل لاجتراح الأمل للخارجين من ليل النكبة وأضفت هناك تعلمت طريقة الاهتداء الي ذاتي والي علاقتها بالجماعة . كيف تري الي الدور الذي لعبته هذه الصحيفة في الحفاظ علي وصقل الهوية الوطنية للبقية الباقية من الشعب الفلسطيني؟

"الاتحاد"لا تحتاج الي مديح في هذا الشأن، فدورها في حماية وفي الدفاع عن الهوية الثقافية والوطنية للجماهير العربية في اسرائيل دور معترف به ومعروف. وقد خرّجت تقريبًا، مما تعنيه الاتحاد ، هذا الإطار الواسع، كل الكتاب والشعراء الحقيقيين في الداخل. ما عدا أسماء قليلة احتلّت مكانة أدبية خارج هذا الإطار. لكن التيار الأساسي في الأدب الفلسطيني في الداخل نشأ من خلال جريدة الاتحاد ، التي استطاعت إيجاد نواة توازن أو حلاً ما في التأزّم والتوتّر القائم بين الهويّة والجنسيّة، ورجّحت سؤال البقاء علي سؤال مدّ التوتّر الي حدوده القصوي، لأن سؤال البقاء في الوطن والدفاع عن الحقوق المدنية والسياسية كان مرجّحاً علي سؤال كيف أكون عربيا وإسرائيليا، وهو سؤال صعب: كيف يكون العربي إسرائيليًا؟ إستطاعت الاتحاد أن تدافع عن الحقوق القومية للجماهير العربية في اسرائيل بوصفهم جزءًا من الشعب العربي الفلسطيني، وأن تطرح حلا للقضية الفلسطينية يقوم علي أساس الاعتراف بحق العودة للاجئين الفلسطينيين والاعتراف بالحقيقة التاريخية التي نشأت علي هذه الأرض وهي وجود شعبين. وبالتالي كانت سبّاقة لحل المسألة القومية حلاً معقولاً مع الدفاع عن الحقوق المدنية واليومية للمواطنين العرب. وأنشأت جبهة تحالف بين القوي الديمقراطية اليهودية والعربية، وبالتالي هذا الدور الذي قامت به الاتحاد وحزبها ما زال صالحا حتي اليوم.

فيما يتعلق بالهوية، من خلال إطلالتك أو متابعتك لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني،فلسطينيي الداخل، هل لاحظت علي مدي العقود الأربعة الاخيرة كأن هناك تغيّرات في منسوب الهويّة، تحولات في الهويّة، الوطنية الجامعة، أم أن المسألة أن هناك ثوابت أساسية موجودة ولا تحتمل تحوّلات.

ثمة مدارس أكاديمية تدّعي أن هناك تحوّلات تطرأ علي هذه الهوية، وهناك عرب فلسطينيون يوافقون علي هذا الطرح.

أنا غير مُخوّل ولا مؤهّل لابداء رأيي في هذه التحوّلات لأني خارج موقع الشهادة المباشرة منذ مدّة طويلة. لكن علينا أن نعترف أن هناك تأزّماً في الهوية؛ ليست هوية سهلة أن تكون عربيًا واسرائيليًا في نفس الوقت. لا شك أن هناك شكلا من أشكال التأزّم وقد تؤثّر التطورات الخارجية والداخلية علي منسوب هذا التأزّم. لكن أعتقد ان التيار السائد عند الجماهير العربية في اسرائيل أنهم لم يتخلوا عن وعيهم بقوميتهم وحقوقهم القومية، ومن أجل ألا يخسروا هذه الحقوق وهذا الانتماء قبلوا بأن يتعاملوا مع الدولة الاسرائيلية كمواطنين فيها يطالبون بالمساواة مع سائر المواطنين. إذًا، انشأوا توازنًا بين الوعي القومي ووعيهم كمواطنين. لكن هذه المعادلة لا تستقيم دائماً. هناك توتّرات تجري علي هذه المعادلة مرتبطة بمدي العنف الإسرائيلي والاضطهاد لأصحاب هذه الهوية. فالإسرائيليون لا يقدّمون ما يساعد علي إجراء استرخاء ما في مستوي التوتّر، وكذلك تطورات القضية الفلسطينية لا تسمح للمواطننين العرب بأن يرتاحوا لهذه الهوية. باعتقادي أن هذه الهوية ستبقي متوترة الي أن تُحل القضية الفلسطينية. وما لم تحل القضية الفلسطينية سيبقي التأزّم في محتوي هذه الهوية الملتبسة، وهي فعلاً ملتبسة. أنا لا أستطيع الحديث براحة عن كيف من الممكن أن يكون العربي اسرائيليًا، لان إسرائيل مشروع مضاد للهوية الوطنية الفلسطينية. هذه العملية تحتاج الي تطورات تاريخية بعيدة المدي لكي نستطيع ان نعثر علي صيغة تعريف مريحة.


هناك من يطرح إشكالية الجماهير العربية داخل إسرائيل بمعزل عن القضية الفلسطينية الأم..

(مقاطعًا) كيف؟! لا يستطيع.. كيف يتخلّي العربي في إسرائيل عن كونة فلسطينيًا؟ هذا ليس خيارًا حرًا. وكيف يتخلي الفلسطيني عن كونه عربيًا. في السنوات الستين الأخيرة نعيش حالة طوارئ؛ لا استقرار في شيء، لا في الأوضاع السياسية، ولا في تعريف الهوية. حتي الإسرائيليون لا يعرفون تحديد هويتهم، وحتي اليوم بين اليهودية والإسرائيلية ثمة توتر عال جدًا.


هل وضعهم أصعب من وضعنا؟

لا أريد القول أصعب. صعوبات القوي دائمًا فيها ترفٌ لا يتمتع به الطرف الضعيف. حتي حين تندلع نقاشات حادة بين الإسرائيليين أنفسهم عن مدي تقصيرهم وضعفهم، هزيمتهم وانتصارهم، يشعر بعض العرب السطحيين أن هذا انتصارًا عربيًا. هذا النقاش الساخن لدي الإسرائيليين هو دليل قوتهم وليس دليل ضعفهم.


في تلك الفترة كتبت وعشت في تماس نضالي ويومي مع الواقع العام بكل إشكالياته وتفاصيله وحمل أدب تلك الفترة طابعًا مميزًا وكان له دور مباشر في معركة البقاء. بنظرة إلي الوراء كيف يقيّم محمود درويش الآن ذلك الأدب؟

أعتقد ان ما سُمّي بشعر المقاومة، سمّي بالمصادفة. عندما كنا نكتب شعرًا لم نكن نعرف أننا نكتب شعر مقاومة. كنا نعبّر عن حياتنا وهمومنا وعن حبنا لبلادنا وللأشجار ولصديقاتنا وللحياة، دون أن نعرف أن هذه النصوص تسمّي شعر مقاومة. شعر المقاومة بهذا المعني احتلّ مكانةً كبيرة في الوجدان العربي الخارج من هزيمة 67. وبالتالي احتلّ مكانةً معنوية أعلي من مكانته الأدبية. وتذكرون أنني كتبتُ في وقت مبكّر، في العام 68، مقالتي الشهيرة إرحمونا من هذا الحب القاسي . كنت أشعر أن هذه موجة عابرة. موجة انتقام الذات العربية من هزيمتها باللجوء إلي أي صوت يأتي من داخل إسرائيل ليعطيها الأمل بالصمود والانتصار. وفعلا هذه الموجة عبرت بسرعة. وتعرّض الفلسطيني في ما بعد لمحاكمات مضادة؛ طُردَ من الحداثة الشعرية العربية. عندما يتكلمون عن الحداثة الشعرية العربية لا يتكلمون عن الفلسطيني، فقد تمت محاصرة الأدب الفلسطيني في نطاق البحث الاجتماعي أو الأنثروبولوجي عن أوضاع الفلسطينيين. أنا أقاوم هذا المفهوم لدي العرب ولدي بعض الفلسطينيين الذين يريدون منا أن نكتب ما كنا نكتبه منذ أربعين عامًا وأن نكرِّر ما كنا نكتبه لكي نسمّي شعراء مقاومة. أنا لا تعنيني التسمية. أنَّنا فلسطينيون فهذه بديهية، وأَنَّنا عرب هذه أيضًا بديهية، أمّا عندما يجري التأكيد عليها دائمًا في الأدب فهناك، باعتقادي، نوايا نقدية غير بريئة لإخراج هذا الأدب من التراث الأدبي العربي. لا أحب كثيرًا ان أُسمّي الشاعر القومي أو الوطني. صحيح أنا فلسطيني، وأنا فخور بذلك، لكن هذه التسمية توجِّه القارئ لقراءة مستوي ما فقط من شعري، وهو أنني أعبّر عن القضية الفلسطينية. نعم، شعري يعبّر عن القضية الفلسطينية ولكن علي النقاد أن يتعاملوا مع شعري أولا علي أنه شعر ثم يسمّي مقاومة أو غير مقاومة.. ما يشاءون. يجب أن يتم التعامل مع الشعر الذي يكتبه الفلسطينيون علي انه شعر أولا، ومن الطبيعي أن يحمل هذا الشعر البعد الوطني والقومي وكل المسائل المرتبطة بتعريف الهوية. لا يجب تقسيم الشعر. لاحظوا تعبير الأدب النسائي ، لماذا يجب أن يكون أدبًا نسائيًا؟ هو أدب فقط. لأنه عندما نحاصره في تعريف ضيّق نوجّه التركيز إلي جنس الكاتب وليس إلي إبداعه. مع ذلك، ردًا علي سؤالكم الأول، لا شك في أن أدب المقاومة قام بدور تبشيريّ وحمي الجماهير العربية في إسرائيل من تهم وطنية كثيرة كانت ستلحق بهم. لأن العالم العربي كان ينظر إلي العرب في إسرائيل نظرة سلبية، وعندما وصل هذا الشعر إلي العالم العربي تغيّرت النظرة إليهم واصبحوا يُعاملون كوطنيين ومقاومين. بهذا المعني قام أدب المقاومة بدور تاريخي لا يمكن إخفاؤه، وهو أنه غيّر أو أجري تعديلاً علي صورة العرب في إسرائيل عند أشقائنا العرب في الخارج.


لكن لاحقا كانت هناك محاولات لاستغلال كونك شاعرًا فلسطينيًا للنّيل منكَ أدبيًا..

في البداية كان كوني شاعرًا فلسطينيًا لتقديسي، فيما بعد صار ذلك للنيل مني أدبيًا.
أن يكون أدب الفلسطيني فقط عن موضوع محدد ومقروء سلفاً. قوّة الشعر الجمالية تفرض نفسها.
للأسف الشديد إنّ من يطرح هذه القضية اليوم هم فلسطينيون، حكّامي الآن هم فلسطينيون وليسوا عربا.
الذين يريدون أن يهاجموني يقولون أنني تخليت عن القضية الفلسطينية وعن شعر المقاومة.
هؤلاء فلسطينيون وليسوا عربًا، العرب قبلوا مشروعي الشعري ووضعوه في مكانة مرموقة من المشهد الشعري العربي.
لا أحد يشكك في مكانتي الشعرية في المشهد الشعري العربي العام وأكاد أقول في علاقة هذا المشهد بالمشهد الشعري العالمي.
الذين يحاكمونني يريدونني أن أكتب ما كنت أكتبه قديمًا ويريدون أن يحتكروا ما بعد الحداثة.
تستمع إلي هذه الصيغة من شعراء لا علاقة لهم بالواقع، يكتبون عن أشياء في منتهي التجريد، وعن قمصان النوم وعن ملابسهم الداخلية، ولكن يطالبون محمود درويش بأن يكتب عن القضايا الأخري.
يريدون أن يكتبوا الشعر وإبقاء الشعر الوطني السيء من اختصاصي، وشعر الحداثة وما بعد الحداثة من اختصاصهم.
هذه لعبة أولاد يجب أن يلعبوا. بعضهم يعتبرني، علي مضض أو برضي، أبًا روحيًا، أو أحد الآباء الشعريّين، ومن واجب هذا الولد أن يقتل أباه، مجازيًا وأدبيًا، كي ينمو، لكن عليه أن يقتل أباه بأدوات إبداعية وليس بالتشهير والشتم والتخوين.
هذا للأسف ما يسود حياتنا الثقافية الفلسطينية. نحن أكثر ناس نكره أنفسنا ونكره بعضنا بعضا.



من أين ينبع ذلك برأيك؟

الفلسطيني محاصر وهذا الحصار والاختناق في المكان يخلق طاقة عنف يفجّرها في وجه أقرب الناس إليه، في وجه أخيه أو جاره..


لنحدّد التوصيف الذي قدمته.. كانت تسمية أدب المقاومة وتحديد ملامحها كأنها فُرضت فرضًا في البداية ولاحقًا تم نفي ما فُرض من مشروع الشعر العربي، هل هذا ما حدث؟


في مراحل معينة. أدب المقاومة لا ينتهي لكن تجري تعديلات علي التعريف.
أعتقد أن كل أدب جميل، كل أدب مرتبط بالدفاع عن حرية الإنسان في التأمّـل وفي الحياة والحرية هو أدب مقاومة.
يجب ان لا نحصر أدب المقاومة ككلام عنيف ضد فعل عنيف.
برأيي التأمّل في أزهار الربيع والتعلّق بالحياة، حتي شعر الحب يعطي طاقة لمقاومة البشاعة، ومقاومة نقيض انسجام الحياة مع جمالها.
بهذا المعني أوسّع مفهوم المقاومة ليشمل كل أدب راقٍ وجميل. كل قصيدة جميلة تغيّر في نظرتك إلي الحياة بصورة أكثر إيجابية وأكثر ألفة هي أدب مقاومة.
وكل أدب نقيض هذه الحروب وهذه الاحتلالات والعدوان يعتبر أدب مقاومة.
لكن كيف يعبّر أدب المقاومة عن نفسه، ليس باستخدام وسائل العنف والحرب بل باستخدام أدوات نقيضة لها، الدفاع عن الجمال وعن الحرية وعن بساطة الأشياء.



أنتَ عمليّا تعمّق مفهوم المقاومة وتنقله من ساحة المعركة..

حتي المعارك إذا كانت عظيمة تدخل، لكن بطريقة خاصة.
السؤال ليس كيف نقاوم بالشعر. الشعر يحاكَم أو يُحاسب ليس بما يقول فقط بل بالكيفيّة التخييليّة لهذا القول، أي يُعرّف بطبيعته الشعرية وليس بموضوعه الشعري.
علي الشاعر أن يتقن مهنته الشعرية، وواجب الشاعر ان يكون وفيّاً لمسألتين: لمهنيته الشعرية، اي لخلق الجماليات وتطويرها، ولارتباطه بالواقع والدفاع عن حريته وحرية شعبه.



عمليّا، مراجعة أدب تلك الفترة هي فنّية وجمالية بالاساس أكثر مما هي سياسية فكرية..

إذا قلنا إن فلانًا رسام، فيجب أن يتقن مهنة الرسم أولا ثم نقول هذا رسام كذا وكذا.. كذلك الشاعر.
اذا كنت سأقوم بكل واجباتي الوطنية والاجتماعية بشعر رديء، هل أسمّي هذا شعر مقاومة؟ هذا الشعر يسيء للمقاومة، يسيء لصورة الإنسان الفلسطيني.
الشعر الفلسطيني الرديء يسيء الي صورة الفلسطينيين. الشعر الجميل هو الذي يخدم القضية اللفلسطينية.
التسلـّـق علي القضية الفلسطينية للتحرّر من أي ضرورات أو شروط جمالية فنية لا يخدم القضية الفلسطينية.
بالعكس، عازف البيانو الرائع إذا كان فلسطينيًا يخدم القضية. وإذا كان عندنا راقصة باليه فلسطينية ممتازة فهي تخدم القضية.
أو رسام يتقن رسم الفن التجريدي لكن يقال أن هذا فلسطيني دون أن يُحمِّـل فنه مقولات زائدة عن متطلّبات الفن.
وهذا لا يتعارض طبعًا مع التزامه بقضية شعبه.
كأننا نقسّم الأمور إلي قسمين: الجميل ليس فلسطينيًا، والقبيح هو الفلسطيني.
هل هناك أذي يلحق بنا أكثر من هذا التقسيم؟



هل كانت المباشرة تنازلا جماليًا او نوعًا من ضريبة تاريخية أمام قضايا الناس المصيرية؟ واستكمالا، ما زالت القضايا المصيرية هي ذاتها بل تتبدّي اليوم في كثير من تفاصيلها أخطر وأشدّ إلحاحا من قبل، مع ذلك لم يعد للشعر والأدب عمومًا ذلك الدور الذي اضطلع به آنذاك، كيف تري إلي هذا التبدّل وأين تكمن أسبابه باعتقادك؟

عندما نتكلـّـم عن دور الشعر، نتكلـّـم كلامًا افتراضيًا.
ولا مرّة نستطيع تحديد هذا الدور بالضبط، أو كيف يتجلي.
هناك طبعًا مقولات جاهزة عن دور الشعر، عليه أن يكون كذا وكذا.. لكن دون أن نختبر إلي أيّ مدي تحقّق هذا الدور.
نحن نقرأ لبعضنا البعض ونعتقد أن المجتمع كله معنا.
الشعر دائمًا كان له دور ثانوي لأنه دائمًا، للأسف الشديد، يخصّ النخبة.
النخبة ليس بمعناها الضيق لكن بمعناها الواسع.
من يقرأ الشعر؟ يقرأ الشعر من هو قادر علي القراءة، ومن عنده إمكانيات ثقافية لفهم الشعر، ومن يحب الشعر.
إذن، دائمًا كان للشعر قرّاء خاصّون. والشاعر يسعي إلي تكبير مساحة هؤلاء الخاصين، ليصل إلي جمهور أكبر.
أما القول إن الشعر كالخبز وكالهواء فهو حلم، حلم أقرب الي الوهم.. يا ريت، لكن ليس ثمة فن هو كالخبز والهواء.

مديحُ الظِّل العالي

2007-06-17

أنت منذ الآن غيرك

هل كان علينا أن نسقط من عُلُوّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا... لنُدْرك أننا لسنا ملائكة.. كما كنا نظن؟ وهل كان علينا أيضاً أن نكشف عن عوراتنا أمام الملأ، كي لا تبقى حقيقتنا عذراء؟

كم كَذَبنا حين قلنا: نحن استثناء!

أن تصدِّق نفسك أسوأُ من أن تكذب على غيرك! أن نكون ودودين مع مَنْ يكرهوننا، وقساةً مع مَنْ يحبّونَنا - تلك هي دُونيّة المُتعالي، وغطرسة الوضيع!

أيها الماضي! لا تغيِّرنا... كلما ابتعدنا عنك! أيها المستقبل: لا تسألنا: مَنْ أنتم؟ وماذا تريدون مني؟ فنحن أيضاً لا نعرف. أَيها الحاضر! تحمَّلنا قليلاً، فلسنا سوى عابري سبيلٍ ثقلاءِ الظل!

الهوية هي: ما نُورث لا ما نَرِث. ما نخترع لا ما نتذكر. الهوية هي فَسادُ المرآة التي يجب أن نكسرها كُلَّما أعجبتنا الصورة! تَقَنَّع وتَشَجَّع، وقتل أمَّه.. لأنها هي ما تيسَّر له من الطرائد.. ولأنَّ جنديَّةً أوقفته وكشفتْ له عن نهديها قائلة: هل لأمِّك، مثلهما؟

لولا الحياء والظلام، لزرتُ غزة، دون أن أعرف الطريق إلى بيت أبي سفيان الجديد، ولا اسم النبي الجديد! ولولا أن محمداً هو خاتم الأنبياء، لصار لكل عصابةٍ نبيّ، ولكل صحابيّ ميليشيا! أعجبنا حزيران في ذكراه الأربعين إن لم نجد مَنْ يهزمنا ثانيةً هزمنا أنفسنا بأيدينا لئلا ننسى!

مهما نظرتَ في عينيّ.. فلن تجد نظرتي هناك. خَطَفَتْها فضيحة! قلبي ليس لي... ولا لأحد. لقد استقلَّ عني، دون أن يصبح حجراً. هل يعرفُ مَنْ يهتفُ على جثة ضحيّته - أخيه: «الله أكبر». أنه كافر إذ يرى الله على صورته هو: أصغرَ من كائنٍ بشريٍّ سويِّ التكوين؟

أخفى السجينُ، الطامحُ إلى وراثة السجن، ابتسامةَ النصر عن الكاميرا. لكنه لم يفلح في كبح السعادة السائلة من عينيه. رُبَّما لأن النصّ المتعجِّل كان أَقوى من المُمثِّل. ما حاجتنا للنرجس، ما دمنا فلسطينيين. وما دمنا لا نعرف الفرق بين الجامع والجامعة، لأنهما من جذر لغوي واحد، فما حاجتنا للدولة... ما دامت هي والأيام إلى مصير واحد؟.

لافتة كبيرة على باب نادٍ ليليٍّ: نرحب بالفلسطينيين العائدين من المعركة. الدخول مجاناً! وخمرتنا... لا تُسْكِر!. لا أستطيع الدفاع عن حقي في العمل، ماسحَ أحذيةٍ على الأرصفة. لأن من حقّ زبائني أن يعتبروني لصَّ أحذية ـ هكذا قال لي أستاذ جامعة!.

«أنا والغريب على ابن عمِّي. وأنا وابن عمِّي على أَخي. وأَنا وشيخي عليَّ». هذا هو الدرس الأول في التربية الوطنية الجديدة، في أقبية الظلام. من يدخل الجنة أولاً؟ مَنْ مات برصاص العدو، أم مَنْ مات برصاص الأخ؟ بعض الفقهاء يقول: رُبَّ عَدُوٍّ لك ولدته أمّك!. لا يغيظني الأصوليون، فهم مؤمنون على طريقتهم الخاصة. ولكن، يغيظني أنصارهم العلمانيون، وأَنصارهم الملحدون الذين لا يؤمنون إلاّ بدين وحيد: صورهم في التلفزيون!. سألني: هل يدافع حارس جائع عن دارٍ سافر صاحبها، لقضاء إجازته الصيفية في الريفيرا الفرنسية أو الايطالية... لا فرق؟ قُلْتُ: لا يدافع!. وسألني: هل أنا + أنا = اثنين؟ قلت: أنت وأنت أقلُّ من واحد!. لا أَخجل من هويتي، فهي ما زالت قيد التأليف. ولكني أخجل من بعض ما جاء في مقدمة ابن خلدون. أنت، منذ الآن، غيرك!
عن صحيفة الحياة 17/6/2007

2007-05-27

في حضرة الغياب

سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع/وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى
هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك/
فلتأذن لي بأن أراك وقد خرجت مني وخرجت منك، سالماً كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك.
ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى.
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت، إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قاريء قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.

وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد.فليس على الشاعر من حرج إن كذب.وهو لا يكذب إلا في الحب، لأن أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن.

أما الموت، فلا شيء يهينه كالغدر:اختصاصه المجرب.فلأذهب إلى موعدي ، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً.
ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، على طريق سلكناه، على غير هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان غير معلن بين الضد والضد.
لو عرفتك لأمتلكتك، ولو عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون.
هكذا سمينا، بتواطؤ إيقاعي، ما كان بيننا من هاوية سفحاً.ونسبنا إلى كتب قرأناها عجزنا عن الوصول إلى ذروة تطل على عدم ضروري لاختبار الوجود يا صاحبي!
يا((أنا))ي النائم على بزوغ البياض من أبدية، وعلى تلويح الأبدية ببياض لا لون بعده.
فبأي معنى من معانيك أقيم الشكل اللائق بعبث أبيض؟وبأي شكل أحمي معناك من الهباء...ما دامت رحلتنا، أقصر من خطبة الكاهن في كنيسة مهجورة، في يوم أحد، لم يسلم فيه أحد من غضب الآلهة؟
لكنك مسجى أمام، أعني في كلامي الخالي من عثور الاستعارات على مصادرها، وعلى رابط خفي بين أرض متدينة، وسماء وثنية.
من هناك إلى هناك يرحل الغيم برفقة قمر لم يحرمنا افتضاح سره الصخري من تذكر حب سابق.
ولم يمنعنا جفاف القلب من مداواة أوجاع المفاصل بذكرى التمدد على العشب، تماماًً كما أنت مسجى أمامي في كلامي الذي لن يخذله غد شخصي كف عن الخداع، لا لأنه تأدب وتهذب، بل لأنه يحتضر الآن ويصير إلى خبر، لا عدو له ولا صديق...خبر عن مسافرين اثنين، أنت وأنا، لم يفترقا في مرآة أو طريق... لم يفترقا إلا لساعات يتأكدان خلالها من سطوة الأنثى على الذكر/حيث يرى المرء نفسه في حرائق البرق، كما هي، معافاة مصفاة من شوائب التشبيه بما ليس موتا يحي...وحياة تحيا على حصة العاشق من سخاء المودة بين المخلوق والخالق.
فلا جنة معلنة بالحواس وبالحدس سوى العاشقة،ولا جحيم إلا خيبة العاشق.
فلتأذن لي، إذاً، ونحن نفترق على هذا البرزخ، بأن أفسخ العقد المبرم بين عبث وعبث، فلا نعلم من انتصر منا ومن انكسر، أنا أم أنت أم الموت، لأننا لم نعترف من قبل، لننتصر، بأن العدو أذكى منا وأدهى، فلا شيء يغوي الهزيمة أكثر من مجافاة هذا الاعتراف، يا صاحبي المترف بالأوصاف النقيضة، المسرف في البحث عن عبث لا بد منه لتدريب النفس على التسامح، ولتحظى بنعمة التأمل في ماء يضحك في الغمازات، ويطير فراشات فراشات تخلق الشعر من كل شيء حي.
فالخفة، كالندى، قاهرة المعدن، وعذراء الزمن، هي التي تدرب الوحش على النفخ في النايات/
فلا تصالح شيئاً إلا هذا السبب المبهم، ولا تندم على حرب أنضجتك كما ينضج آب أكواز الرمان على منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك.
ما كان لك صار عليك/
وعليك أن تدافع عن حروف اسمك المفككة، كما تدافع القطة عن جرائها.
وعليك ما عليك:أن تدافع عن حق النافذة في النظر إلى العابرين، فلا تسخر من نفسك إن كنت عاجزاً عن البرهان، الهواء هو الهواء ولا يحتاج إلى وثيقة دم.
ولا تندم..لا تندم على ما فاتك، حين غفوت، من تدوين لأسماء الغزاة في كتاب الرمل، النمل يروي والمطر يمحو، وحين تصحو لا تندم لأنك كنت تحلم، ولم تسأل أحداً:هل أنت من القراصنة؟لكن أحداً ما سيسألك:هل أنت من القراصنة؟ فكيف تزود البديهة بالوثائق والبنادق، وفيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرار من فخار، وفيها زيت يضيء وإن لم تمسسه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب/
فلا تعاتب أسلافك على ما أورثوك من براءة النظر إلى التلال بلا استعداد لتلقي الوحي من سماء خفيضة، بل لعد النجوم على أصابع يديك العشر.
فأنى لك أن تثبت البديهة بالبرهان، والبرهان متعطش لنهب البديهة تعطش القرصان إلى سفينة ضالة؟
البديهة عزلاء كظبي مطعون بالأمان، مثلك مثلك، في هذا الحقل المفتوح لعلماء الآثار المسلحين الذين لم يكفوا عن استجوابك:من أنت؟ فتحسست أعضاءك كلها، وقلت:أنا أنا.

قالوا:ما البرهان؟فقلت:أنا البرهان.فقالوا:هذا لا يكفي، نحتاج إلى نقصان.فقلت:أنا الكمال والنقصان.فقالوا:قل إنك حجر كي ننهي أعمال التنقيب، فقلت لهم:ليت الفتى حجر، فلم يفهموك/
وأخرجوك من الحقل.أما ظلك، فلم يتبعك ولم يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر، ثم أخضر كنبتة سمسم خضراء في النهار، وفي الليل زرقاء/
مهما نأيت ستدنو/ومهما قتلت ستحيا/فلا تظنن أنك ميت هناك/وأنك حي هنا/فلا شيء يثبت هذا وذلك إلا المجاز/المجاز الذي درب الكائنات على لعبة الكلمات/المجاز الذي يجعل الظل جغرافيا/والمجاز الذي سيلمك واسمك/فاصعد وقومك/أعلى وأبعد مما يعد تراث الأساطير لي ولك/اكتب بنفسك تاريخ قلبك/منذ إصابة آدم بالحب/حتى قيامة شعبك/واكتب بنفسك تاريخ جنسك/منذ اقتبست من البحر إيقاعه ونظام التنفس/حتى رجوعك حيا إلي/فأنت مسجى أمامي/كقافية غير كافية لاندفاع كلامي إليك/أنا المرثي والراثي/فكني كي أكونك/قم لأحملك/اقترب مني لأعرفك/ابتعد عني لأعرفك!

عندما يبتعد

للعدوِّ الذي يَشربُ الشَّاي في كوخِنا
فَرسٌ في الدُّخانِ.وبنْتٌ لها
حاجبانِ كَثيفانِ.عَينانِ بنِّيتان.وشَعرٌ
طَويلٌ كَليلِ الأغاني عَلى الكَتفينِ.وصُورَتها
لا تُفارقهُ كُلَّما جَاءنا يَطلبُ الشَّاي.لَكنَّه
لا يحدثُنا عَن مَشاغلها في المساء، وعَن
فَرسٍ تَركتهُ الأغَاني عَلى قِمَّة التلِّ.../

...في كُوخنا يَستريحُ العدوُّ من البُندقية،
يَتركها فَوق كُرسيِّ جدِّي.ويَأكل مِن خُبزنا
مِثلما يفعل الضَّيفُ.يغفو قليلاً عَلى
مِقعد الخيزرانِ.ويحنو على فَروِ
قطَّتنا.ويقول لنا دائماً:
لا تَلوموا الضحيَّة!
نَسأله: مَن هيَ؟
فيقول: دمٌ لا يجفِّفه الليلُ.../

... تلمَع أزرارُ سُترتهِ عِندما يَبتعدْ
عِمْ مَساءً! وسلِّم على بِئرنا
وعلى جهة التين.وامْش الهُوينى على
ظلِّنا في حُقول الشَّعير.وسلِّم على سَروِنا
في الأعالي. ولا تنسَ بوَّابة البيتِ مفتوحةً
في الليالي. ولا تَنْسَ خوفَ
الحصان منَ الطَّائرات،
وسلِّم علينا، هُناك، إذا اتَّسع الوقتُ.../

هذا الكَلامُ الذي كَان في ودِّنا
أن نقولَ على الباب...يسمعه جيَّداً
جيَّداً، ويخبِّئه في السُّعال السَّريع
ويلقي بهِ جانباً.
فلماذا يَزور الضَّحيةَ كلَّ مساءٍ؟
ويحفظ أمثالنا مِثْلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدَّس؟
لولا المسدسُ
لاختلط النايُ في النايِ.../

...لن تنتهي الحربُ ما دامتِ الأرض
فينا تدورُ على نفسها!
فلنكن طيِّبين إذاً. كان يسألنا
أن نكون هنا طيِّبين. ويقرأ شعراً
لطيَّار((ييتس)): أنا لا أحبُّ الذينَ
أدافعُ عنهم، كما أنني لا أُعادي
الذينَ أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيِّ،
ويمشي ثمانينَ متراً إلى
بيتنا الحجريِّ هناك على طرفِ السَّهل.../

سلِّم على بَيتنا يا غَريب.
فَناجين ُ
قَهوتِنا لا تزال على حالها. هل تشمُّ
أَصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتكَ ذات
الجديلةِ والحاجبين الكثيفين إنَّ لها
صَاحباً غائباً،
يتمنَّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخلَ مرآتها ويرى سرَّه:
كيف كانت تتابع من بعدهِ عمره
بدلاً منه؟ سلِّم عليها
إذا اتَّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كانَ في وِدِّنا أن نقولَ له، كان يسمعهُ جيداً
جيداً،
ويخبِّئه في سُعالٍ سريعٍ،
ويُلقي به جانباً، ثم تلمعُ
أزرار سترتهِ عندما يبتعدْ...

حوار معه

يشبه نفسه بشكل مدهش: في الحياة كما في القصيدة. تسأله عن ذاته فيحيلك إلى الجماعة. تضعه في مواجهة الجماهير، فيستلّ ذاتيّته جسراً أكيداً للتواصل، خارج راهنيّة القصيدة التي «تعاند الزمن»...
محمود درويش الذي يدعو معاصريه إلى التغلّب على هوس الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد، خصّ «الأخبار» بحديث مسهب في شؤون القصيدة وشجون صاحبها الواقف «في حضرة الغياب»
«يا أهل لبنان الوداعا» هذا ما قاله محمود درويش، قبل 25 سنة، في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي». لكنه عاد أكثر من مرة إلى بيروت ليلتقي جمهوره وأصدقاءه. سلك طرقاً مختلفة وغيّر وجهة سير قصيدته أكثر من مرة. انخفض الصوت العالي في نبرته. تخفّف شعره من حمولات رمزية ونضالية مباشرة. صاحب «أحمد العربي» و«جواز سفر» صار يكتب «بقايا كلام على مقعدين» و«ورد أقل». «الأخبار» التقت درويش بعد الأمسية التي أحياها في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» قبل أسبوعين

* تقديمك في الأمسيات الشعريّة قد يخلق بعد التشوّش لدى الجمهور... ما يلزمك بمهمّة رفع سوء التفاهم

يفترض بالمقدم أن يمهّد للعلاقة الحميمة التي سيخلقها الشاعر مع جمهوره. بعض المقدّمين ينجح في هذا، وأحياناً أشعر بأنه قال كلاماً مهماً في شعري. لكن ما يسيء إليّ هو أن يحدد المقدم صورة مسبقة، أو قراءة نمطية للشاعر. أقدم أحياناً كشاعر قضية، وأنا أقوم بقراءة شعر مخالف لهذه الصورة. أعتقد أن الجمهور لم يعد يكترث بالمقدمات. بوسع الشاعر بسرعة أن يزيل سوء التفاهم الذي قد تخلقه المداخلات السابقة لاعتلاء المنبر. لكنني ممتن دائماً لمن يقدمني، سواء أفرط في
التأويل السياسي أو أفرط في التأويل الجمالي، وفي اعتقاده أنه يحسن فعلا .

* يتعامل معك كثيرون كشخصية اعتبارية، لا كشاعر أو كإنسان عادي... هل تعاني من هذا الأمر ؟

نعم، أعترف بذلك. غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق ــــ شعرياً على الأقل ــــ باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد.

* في أعمالك الجديدة نلحظ خفوتاً في النبرة. كأن القصيدة مكتوبة بحميمية ولأشخاص قليلين. هل تحس بأن تلك النبرة لم تعد مناسبة لجمهور كبير؟

أبداً، لأن هؤلاء الآلاف مكونون من ذوات صغيرة. ليس من حقنا أن نعامل الجالسين في القاعة على أنهم كتلة مجرّدة من الخصائص الفردية. عندما أكتب عن ذاتي، أحس بقدرة مخاطبة أقوى مما لو كنت ألقي قصيدة حماسية أفترض فيها أن الكل يجتمع في واحد. عندما أكشف ذاتي الشعرية، أشعر براحة أكبر، وأحس بأني أقترب أكثر من مفهوم الشعر، وأقترب أكثر من مزاجي الشخصي أمام هؤلاء الآلاف، كل على حدة، ومجتمعين معاً. أعتقد أن الشاعر هو الذي يضبط إيقاع القاعة. أنا لا أذهب إلى هموم شخصية أو تفاصيل لا تعني الآخرين. تبدو القصيدة مجرد لعبة تقوم على تقشف بلاغي ماكر، لكن هناك دائماً معنى متخفٍّ وراء هذا اللعب. ما يبدو أحياناً مجانياً في النص ليس كذلك. العلاقات بين عناصر القصيدة محكومة بذكاء الشاعر في البحث عن معنى للوجود والحياة.

* هل عطّل حضورك الاعتباري أي قراءة نقديّة لشعرك؟

بصراحة، أنا أشكو من الإفراط في التأويل السياسي لشعري، على حساب الانتباه إلى المسألة الجمالية التي ينبغي للنقد أن ينشغل بها أكثر من خطاب القصيدة. لا يغضبني ناقد يشير إلى عناصر سلبية في شعري، بقدر ما يغضبني غضّ الطرف عما ينبغي أن يُقرأ في شعري: ماذا أضاف؟ وما هي مكانته في الشعر العربي الحديث؟ وغيرها من الأسئلة التي أرجو أن يساعدني النقد على معرفة نفسي من خلالها. أشكو أيضاً من تصنيفي وطنياً لا شعرياً. إذا كنت «شاعراً فلسطينياً»، فإنك لا تكتب سوى موضوع واحد هو فلسطين، ونصك مقروء مسبقاً حتى قبل أن تكتبه. لا يطلب الناقد شيئاً محدداً من الشاعر السوري أو العراقي أو المصري، أما عندما يصل إلى الشاعر الفلسطيني فيقرر ما ينبغي عليه أن يكتبه

* حين قدّمك أدونيس في فرانكفورت، قلت إنها المرة الأولى التي تسمع فيها رأيه في شعرك... أليس هذا غريباً؟

أدونيس وأنا قضينا سنوات طويلة معاً. وكانت صداقتنا يومية، ولياقة كل واحد منا كانت تمنعه من إبداء رأيه في الآخر، وهو رأي إيجابي على أي حال. عندما قدمني أمام جمهور ألماني، حيّاني، فرددت له التحية. لكن بشكل عام هناك حزبية في الحياة الشعريّة العربية. يعني إذا كنت تحب نتاج شاعر معين، فعليك أن ترفض نتاج شاعر آخر! أنا لا أحب الشعر الذي يشبه شعري. هناك شعراء يشجعون من يقلدهم ويؤسسون أحزاباً. أعتقد أن المسألة أخلاقية، وتتعلق بقدرة كل واحد منا على الاعتراف بحرية الاختيار، وتعدد الخيارات الموجودة. علينا أن نتخلص من مفهوم الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد. ويجب أن نفعل ذلك في السياسة أيضاً. لا يستطيع طائر واحد أن يحتكر السماء. المشهد الشعري العربي يتسع للتعدد والتجاور والتعايش. هذا ما يصنع تنوعه وغناه. من العبث فرض تيار شعري. لكن العلاقات بين الشعراء العرب ليست صحية للأسف. النميمة أصبحت سمة الثقافة السائدة.

* هل تحس بأن الجملة التي بدأت بها لم تتغير في الجوهر، وأن مكونها الإيقاعي أو الوجداني واللغوي بقي على حاله؟

هذا سؤال صعب. على الشاعر أن يراقب نفسه. أن يكون حذراً من هيمنة مفردات وجمل على تجربته الشعرية. عليه أن ينظف، إذا جاز التعبير، نصه الشعري من تكرار نمطي لا يشكل بالضرورة ملامح قوية في شعره. في لاوعيه اللغوي والبلاغي والاستعاري، قد تكون تسيطر جملة إيقاعية على مسيرة الشاعر. عندما ألاحظ أن هذه الجملة موجودة، أجري عليها تعديلات أو ألغيها. لكن قد لا ألاحظ ذلك، فتبقى تلك الجملة ملازمة لي .

* جملة الشاعر الأولى بمثابة جلد له. وهذا البيان الشخصي يبقى، مهما طرأ على نصّه من تطورات وانعطافات...

إذا نظرنا من هذه الزاوية، هذه ملامح لا تُحذف ولا يجب أن تُحذف. هذا وجهك الشعري أو بصمتك، ومن المستحيل أن تغير سمات البصمة. أعتقد أن الشاعر الذي تُعرف قصيدته من دون أن يوقعها يكون قد كوّن ملامح هوية شعرية خاصة، من دون أن يكرر نفسه. أتحدث هنا عن نَفَس الشاعر وإيقاعه. لكنني لا أعرف إذا كان أمراً جيداً أن يتعرف القارئ إلى قصيدة من دون أن يعرف اسم كاتبها، لكن عكس ذلك يقودنا إلى استخدام أقنعة. أنا أفضل وجهي على القناع، لكن هذا الوجه، أو هذه الأنا، تجري عليها تحولات دائمة من دون أن تصبح عكس ما هي

* قلت مرة إنك تحاول كتابة قصيدة نثر بالوزن. هل تظن أن الفرق بين القصيدتين هو الإيقاع والوزن فقط؟ هل كتابة قصيدة نثر ممكنة بمواد ومكونات إيقاعية؟

الشعر طبعاً يصعب تعريفه. لكن هناك ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر. يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريف قصيدة النثر، لأن هذا قد يُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصدته حين قلت إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة. وبالمناسبة هناك سوء فهم لموقفي من قصيدة النثر. أنا من أكثر المعجبين بها، وإن كنت أختلف على المصطلح. أنا أفضِّل أن أقول «القصيدة النثرية» كما أرفض مصطلح «قصيدة التفعيلة» وأفضل عليه تسمية «القصيدة الحرة». للأسف تكرست هذه المصطلحات. تعريف الشعر بات أكثر صعوبة اليوم. فالشعر قد يتسع للسردي والنثري والموسيقي. بعض الشعراء وجد كتابي الأخير «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. هذا يفرحني

* ردّدت مراراً أنك تتمنّى حذف جزء كبير من قصائدك القديمة. ماذا يمكن أن تقول عن أعمالك الحالية بعد عشرين سنة؟ أين منطقة الرضا إذاً؟

هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلب وملول من المنجز. وأشعر، صادقاً، بأني لم أصل إلى حدود ما يسمى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرر من تاريخيته ومن ضغط الراهن، أي إنه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معين. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظن، عبئاً على صفاء الشعر الذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفل. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس هل نقرأه في حرب محددة وزمن محدد؟

*... في نصوصك الأخيرة هناك حضور شديد للموت والغياب

أنا أتقدم في السن. لكن من حقي أن أقول إن الحديث عن التقدم في السن يتم بلغة فتية. هناك شعرية فتية في اقترابي من الموت. أليس كذلك؟

*. أظن أن جزءاً من عافيتك الشعرية يعود إلى تحديك المتواصل لنبرتك وعبارتك

أي شاعر يجلس إلى نفسه، ولا يشعر أنه تافه... لن يكتب شعراً مهمّاً. أن تحس بأنك لم تكتب شيئاً ولم تحقق شيئاً هو الحافز الدائم للكتابة. هذه هي ورطة الشعر. أنا أشعر بأني لم أكتب شيئاً. أحاول أن أصحّح ما فعله الزمن بي، وما لم أفعله في الشعر.

... تقول «في بيت ريتسوس»: «ما الشعر في آخر الأمر؟». أريد أن أعرف الجواب منك

الجواب كما جاء في القصيدة ذاتها: «هو الحدث الغامض الذي يجعل الشيء طيفاً / ويجعل الطيف شيئاً / ولكنه قد يفسّر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي». ريتسوس قال «الحدث الغامض»، الباقي من تأليفي.

***

«ديناصورات» التفعيلة؟

يتحدث معظم النقاد عن أزمة في قصيدة النثر، أما التفعيلة فتكاد تكون خارج هذا النقاش. لكن هل هذا يعني أنها بلا أزمة؟ الواقع أن أزمة قصيدة التفعيلة مختلفة، فهي تعاني من مشكلة بقاء في ظل تقدم ممثليها الكبار في السن، وقلة المواليد الجدد فيها.

رغم أن محمود درويش لم يكفّ عن تطوير قصيدته، ورغم أنه يعترض على اعتبار قصيدة النثر خياراً مستقبلياً وحيداًً للشعر، إلا أنه يعترف بأن ما يصدر من النثر -إحصائياً - هو أكثر من التفعيلة، كما أنه يقرّ بأن هذا يشمل جودة ما يُنشر أيضاً. بحسب درويش، الشعر الجيد اليوم أكثره ينتمي إلى قصيدة النثر.

لعل درويش -مع شعراء آخرين كأدونيس وسعدي يوسف -يحمل عبء إطالة عمر قصيدة التفعيلة، وإبقائها على قيد الحياة. كما أن تضاؤل عدد الشعراء الجدد الذين يلتحقون بهذه القصيدة يجعل من هؤلاء الثلاثة آخر ديناصورات قصيدة التفعيلة.

كان يقال إنّ محمد مهدي الجواهري هو آخر الكلاسيكيين الكبار، وإنّ رحيله سيكون إيذاناً بدفن القصيدة العمودية. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ درويش وأدونيس وسعدي هم آخر التفعيليين الكبار.

الأخبار
٢٨ نيسان 2007

2007-04-20

حمام

حمام
رفٌ من الحمام ينقشع فجأة من خلل الدخان. يلمع كبارقةِ سلْمٍ سماوية. يحلِّق بين الرماديّ وفُتَات الأزرق على مدينة من ركام. ويذكّرنا بأنَّ الجمال ما زال موجوداً، وبأنَّ اللاموجود لا يعبث بنا تماماً إذ يَعِدُنا، أو نظنُّ أنه يَعِدُنا بتجلِّي اختلافه عن العدم. في الحرب لا يشعر أحد منا بأنه مات إذا أَحس بالألم. الموت يسبق الألم، الألم هو النعمة الوحيدة في الحرب. ينتقل من حَيٍّ إلى حَيّ مع وقف التنفيذ. وإذا حالف الحظُّ أحداً نسي مشاريعه البعيدة وانتظر اللاموجود وقد وُجد محلِّقاً في رفّ حمام. أرى في سماء لبنان كثيراً من الحمام العابث بدخان يتصاعد من جهة العدم!

البيت قتيلاً

البيت قتيلاً
بدقيقةٍ واحدة، تنتهي حياةُ بيت كاملة. البيت قتيلاً هو أيضاً قَتْلٌ جماعيٌّ حتى لو خلا من سكانه. مقبرةٌ جماعيَّةٌ للمواد الأولية المُعَدَّةِ لبناء مبنى للمعنى، أو قصيدةٍ غير ذاتِ شأْنٍ في زمن الحرب. البيت قتيلاً هو بَتْرُ الأشياء عن علاقاتها وعن أسماء المشاعر، وحاجَةُ التراجيديا إلى تصويب البلاغة نحو التبصُّر في حياة الشيء. في كل شيء كائنٌ يتوجّع... ذكرى أصابع وذكرى رائحة وذكرى صورة. والبيوت تُقْتَلُ كما يقتل سكانها. وتُقْتَلُ ذاكرة الأشياء: الحجر والخشب والزجاج والحديد والاسمنت تتناثر أشلاء كالكائنات. والقطن والحرير والكتان والدفاتر والكتب تتمزق كالكلمات التي لم يتسنّ لأصحابها أن يقولوها. وتنكسر الصحون والملاعق والألعاب والأسطوانات والحنفيات والأنابيب ومقابض الأبواب والثلاَّجة والغسّالة والمزهريات ومرطبانات الزيتون والمخللات والمعلبات كما انكسر أصحابها. ويُسحق الأبيضان الملح والسكر والبهارات وعلب الكبريت وأقراص الدواء وحبوب منع الحمل/ والعقاقِير المنشطة وجدائل الثوم والبصل والبندورة والبامية المجففة والأَرُزُّ والعدس كما يحدث لأصحابها. وتتمزق عقود الإيجار ووثيقة الزواج وشهادة الميلاد وفاتورة الماء والكهرباء وبطاقات الهوية وجوازات السفر والرسائل الغرامية كما تتمزّق قلوب أصحابها. وتتطاير الصور وفُرَشُ الأسنان وأمشاط الشَعْر وأدوات الزينة والأحذية والثياب الداخلية والشراشف والمناشف كأسرار عائلية تُنْشَرُ على الملأ والخراب. كل هذه الأشياء ذاكرة الناس التي أفرغت من الأشياء، وذاكرة الأشياء التي أفرغت من الناس... تنتهي بدقيقة واحدة. إن أشياءنا تموت مثلنا، لكنها لا تدفن معنا!

هو

برتقالية

برتقالية، تدخل الشمس في البحر /
والبرتقالة قنديل ماء على شجر بارد

برتقالية، تلد الشمس طفل الغروب الإلهيَّ /
والبرتقالة خائفة من فم جائع

برتقالية، تدخل الشمس في دورة الأبدية /
والبرتقالة تحظى بتمجيد قاتلها:
تلك الفاكهة مثل حبة الشمس
تقَشرُ
باليد والفم، مبحوحة الطعم
ثرثارة العطر سكرى بسائلها...
لونها لا شبيه له غيرها،
لونها صفة الشمس في نومها
لونها طعمها: حامض سكري،
غني بعافية الضوء والفيتامين c..

وليس على الشعر من حرج إن
تلعثم في سرده، وانتبه
إلى خلل رائع في الشبه

هو

هو لا غيره

هو، لا غيره، من ترجل عن نجمة

لم تصبه بأيّ أذى.

قال: أسطورتي لن تعيش طويلاً

ولا صورتي في مخيلة الناس /

فلتمتحني الحقيقة

قلت له: إن ظهرت انكسرت، فلا تنكسر

قال لي حُزْنُهُ النَّبٌَّوي: إلي أين أذهب؟

قلت إلى نجمة غير مرئية

أو إلى الكهف/

قال يحاصرني واقع لا أجيد قراءته

قلت دوّن إذن، ذكرياتك عن نجمة بعُدت

وغد يتلكأ، واسأل خيالك: هل

كان يعلم أن طريقك هذا طويل؟

فقال: ولكنني لا أجيد الكتابة يا صاحبي!

فسألت: كذبت علينا إذاً؟

فأجاب: على الحلم أن يرشد الحالمين

كما الوحي /

ثم تنهد: خذ بيدي أيها المستحيل!

وغاب كما تتمنى الأساطير /

لم ينتصر ليموت، ولم ينكسر ليعيش

فخذ بيدينا معاً، أيها المستحيل !


لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ...

مقهى وأنت مع الجريدة

مقهى، وأنت مع الجريدة

مقهى، وأنت مع الجريدة جالس
لا، لست وحدك. نصف كأسك فارغ
والشمس تملأ نصفها الثاني ...

ومن خلف الزجاج تري المشاة المسرعين
ولا تُرى [إحدي صفات الغيب تلك:
ترى ولكن لا تُرى]
كم أنت حر أيها المنسي في المقهى!
فلا أحدٌ يرى أثر الكمنجة فيك،
لا أحدٌ يحملقُ في حضورك أو غيابك،
أو يدقق في ضبابك إن نظرت
إلى فتاة وانكسرت أمامها..
كم أنت حر في إدارة شأنك الشخصي
في هذا الزحام بلا رقيب منك أو
من قارئ!
فاصنع بنفسك ما تشاء، إخلع
قميصك أو حذاءك إن أردت، فأنت
منسي وحر في خيالك، ليس لاسمك
أو لوجهك ههنا عمل ضروريٌ. تكون
كما تكون ... فلا صديق ولا عدو
يراقب هنا ذكرياتك /
فالتمس عذرا لمن تركتك في المقهى
لأنك لم تلاحظ قَصَّة الشَّعر الجديدة
والفراشات التي رقصت علي غمازتيها /
والتمس عذراً لمن طلب اغتيالك،
ذات يوم، لا لشيء... بل لأنك لم
تمت يوم ارتطمت بنجمة.. وكتبت
أولى الأغنيات بحبرها...
مقهى، وأنت مع الجريدة جالسٌ
في الركن منسيّا، فلا أحد يهين
مزاجك الصافي،
ولا أحدٌ يفكر باغتيالك
كم انت منسيٌّ وحُرٌّ في خيالك!

2007-03-29

البنت /الصرخة


على شاطئ البحر بنتٌ، وللبنت أهلٌ
وللأهل بيتٌ. وللبيت نافذتانِ وبابْ...
وفي البحر بارجةٌ تتسَلَّى بِصَيْدِ المُشَاةِ
على شاطئ البحر: أربعةٌ، خمسةٌ، سبعةٌ
يسقطون على الرمل. والبنتُ تنجو قليلاً
لأنَّ يداً من ضبابْ
يداً ما إلهيَّةً أسْعَفَتْها. فنادتْ: أبي
يا أبي! قُمْ لنرجع، فالبحر ليس لأمثالنا!
لم يُجِبْها أَبوها المُسَجَّى على ظلِّهِ
في مهبِّ الغِيابْ
دَمٌ في النخيل، دَمٌ في السحابْ
يطير بها الصوتُ أعلى وأَبعدَ من
شاطئ البحر. تصرخ في ليل بَرّية،
لا صدى للصدى.
فتصير هي الصَرْخَةَ الأبديَّةَ في خَبَرٍ
عاجل لم يعد خبراً عاجلاً عندما
عادت الطائرات لتقصف بيتاً بنافذتين وبابْ!.

2007-03-28

كزهر اللوز أو ‏أبعد

إن مشيت على شارعٍ

إن مشيت علي شارع لا ‏يؤدي إلى هاوية ‏
قل لمن يجمعون القمامة: شكراً!‏

إن رجعت إلي البيت، حياً، كما ترجع القافية ‏
بلا خللٍ، قل لنفسك: شكراً!‏

إن توقعت شيئاً وخانك حدسك، فاذهب غداً
لتري أين كنت وقل للفراشة: شكراً!‏

إن صرخت بكل قواك، ورد عليك الصدى ‏
‏(من هناك؟) فقل للهوية: شكراً!‏

إن نظرت إلي وردة دون أن توجعك ‏
وفرحت بها، قل لقلبك: شكراً!‏

إن نهضت صباحاً، ولم تجد الآخرين معك
يفركون جفونك، قل للبصيرة: شكراً!‏

إن تذكرت حرفاً من اسمك واسم بلادك ‏
كن ولداً طيباً!‏
ليقول لك الربُّ: شكراً ...‏


مكر المجاز



مكر المجاز
مجازاً أقول: انتصرتُ
مجازاً أقول: خسرتُ...
ويمتد وادٍ سحيقٌ أمامي
وأَمتدّ في ما تبقّى من السنديانْ
وثمّة زيتونتانْ
تلُمَانني من جهاتٍ ثلاثٍ
ويحملني طائرانْ
إلى الجهة الخاليةْ
من الأوج والهاويةْ
لئلا أقول: انتصرتُ
لئلا أقول: خسرتُ الرهان!



كزهر اللوز أو أبعد

حين تطيل التأمل

حين تطيل التأمل في وردةٍ
جرَحَت حائطاً، وتقول لنفسكَ :
لي أملٌ في الشفاء من الرمل /
يخضر قلبُكَ...
حين ترافق أنثى إلى السيرك
ذات نهار جميل كأيقونة ...
وتحلًّ كضيف على رقصة الخيل /
يحمر قلبُكَ...
حين تعُدُّ النجوم وتخطئ بعد
الثلاثة عشر، وتنعس كالطفل
في زرقة الليل /
يبيض قلبُكَ...
حين تسير ولا تجد الحلم
يمشي أمامك كالظل /
يصفر قلبُكَ...



بقية حياة



بقية حياة

إذا قيل لي: ستموتُ هنا في المساء
فماذا ستفعل في ما تبقَّى من الوقتِ؟
ـ أنظرُ في ساعة اليد/
أشربُ كأسَ عصيرٍ،
وأَقضم تُفَّاحَةً،
وأطيلُ التأمُّلَ في نَمْلَةٍ وَجَدَتْ رزقها،
ثم أنظر في ساعة اليدِ/
ما زال ثمَّة وقتٌ لأحلق ذقني
وأَغطس في الماء/ أهجس:
"لا بُدَّ من زينة للكتابة/
فليكن الثوبُ أزرق"/
أجْلِسُ حتى الظهيرة حيّاً إلى مكتبي
لا أرى أَثر اللون في الكلمات،
بياضٌ، بياضٌ، بياضٌ...
أُعِدُّ غدائي الأخير
أَصبُّ النبيذ بكأسين: لي
ولمن سوف يأتي بلا موعد،
ثم آخذ قَيْلُولَةً بين حُلْمَينْ/
لكنّ صوت شخيري سيوقظني...
ثم أَنظر في ساعة اليد:
ما زال ثمّةَ وَقْتٌ لأقرأ/
أقرأ فصلاً لدانتي ونصْفَ مُعَلَّقَةٍ
وأرى كيف تذهب مني حياتي
إلى الآخرين، ولا أتساءل عَمَّنْ
سيملأ نقصانها
ـ هكذا ؟
ـ هكذا ، هكذا
ـ ثم ماذا ؟
ـ أمشّط شَعْري، وأرمي القصيدة...
هذي القصيدة في سلة المهملات
وألبس أحدث قمصان إيطاليا،
وأُشَيّع نفسي بحاشيةٍ من كمنجات إسبانيا
ثم أمشي إلى المقبرةْ !


2007-03-11

أمسية

غداً الإثنين في 12/آذار/2007 الساعة الثامنة مساءافي الصالة الرياضية في مدينة حمص/سوريا
أمسية للشاعر
محمود درويش
ننتظرك على أحرّ من الجمر

2007-01-20

في تأبين الكاتب الراحل اميل حبيبي

الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك‮. ‬ونحن من حولك،‮ ‬رجوع الصدى من أقاصيك إليك‮.‬
الآن لا نأخذك إلى أي‮ ‬منفى،‮ ‬ولا تأخذنا إلى أي‮ ‬وطن‮. ‬ففي‮ ‬هذه الأرض من المعاني‮ ‬والجروح ما‮ ‬يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة،‮ ‬وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد‮.‬
كان لي‮ ‬موعد معك،‮ ‬هنا في‮ ‬ناصرة البشارة والإشارة،‮ ‬فانتعلتُ‮ ‬قلبي‮ ‬وحملت هواجسي‮ ‬في‮ ‬يدي‮: ‬هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟‮! ‬أم سيعلمني‮ ‬السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء‮. ‬كنت العناق البعيد‮. ‬أما كان في‮ ‬وسعي‮ ‬أن أجد الإثنين،‮ ‬دليلي‮ ‬وسبيلي؟‮! ‬أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب‮! ‬على إيقاظ القلب من سكرته‮: ‬لا تحلم بما لا تستحق‮. ‬فليس هذا اللقاء سوى وداع‮.‬
مَــن‮ ‬يودِّع مَــن،‮ ‬أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي‮ ‬هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة،‮ ‬لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين‮. ‬وتعرف أن الذات،‮ ‬لا الموضوع،‮ ‬هي‮ ‬ما‮ ‬يجعل المرء‮ ‬يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي‮ ‬لا تجد ذاتها،‮ ‬إلاّ‮ ‬إذا امتلأت بخارجها‮. ‬وكم كابدت في‮ ‬هذه الرحلة‮. ‬كم كابدت كي‮ ‬تجد الأدب هناك في‮ ‬تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال‮. ‬فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد‮. ‬وحيدًا في‮ ‬زحامك ومزدحمًا في‮ ‬وحدتك‮. ‬ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من‮ ‬غير سوء‮. ‬هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة‮ ‬يجري‮ ‬الحوار بين الواقعي‮ ‬والخرافي،‮ ‬بين الزمني‮ ‬والروحي،‮ ‬بين النسبي‮ ‬والمطلق،‮ ‬بين الزائل والدائم،‮ ‬بين الحق والباطل،‮ ‬بين الحرب والسلام‮. ‬وهنا‮.. ‬هنا البداية وهنا النهاية‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬حيًّا وحيًّا‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬هو الإسم الذي‮ ‬سمّــيت به إسمك‮. ‬لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل‮. ‬ولا كي‮ ‬تحدِّد الفارق بين الباقي‮ ‬في‮ ‬منفى هويّته،‮ ‬وبين العائد إلى هويّة منفاه‮. ‬بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار،‮ ‬ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في‮ ‬حاجة إلى تأكيده،‮ ‬إلاّ‮ ‬لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم‮. ‬حين صار في‮ ‬وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر،‮ ‬أن تضع الماضي‮ ‬على مائدة التساؤل،‮ ‬لتملي‮ ‬عليك روايتها‮: ‬حجرًا في‮ ‬مواجهة بشر‮.‬
لم‮ ‬يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي‮ ‬تحفره في‮ ‬قطعة من رخام وفي‮ ‬الذاكرة الجماعية‮:‬
باقٍ‮ ‬حيث ولد في‮ ‬المكان الذي‮ ‬واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة،‮ ‬وبلا قطيعة،‮ ‬بين الأرض وتاريخها ولغتها‮. ‬وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض‮. ‬ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات،‮ ‬لتصبح الأرض التي‮ ‬غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام‮.‬
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي‮ ‬في‮ ‬تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين،‮ ‬بعدما تعرض شعبها الفلسطيني‮ ‬إلى المصير التراجيدي‮ ‬المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية،‮ ‬وحقه في‮ ‬الإستقلال‮. ‬وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة،‮ ‬أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى،‮ ‬الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب‮. ‬السلام القائم على العدل والمساواة ونفي‮ ‬إحتكار الله والأرض،‮ ‬للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين،‮ ‬مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس‮.‬
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق،‮ ‬على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل،‮ ‬باليقين وبالشك معًا،‮ ‬فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا‮ ‬يعبر عن دَينه لك،‮ ‬للطريقة التي‮ ‬حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي‮ ‬والثقافي‮ ‬بين الجنسية والهويّة،‮ ‬بطريقة وحيدة هي‮ ‬البقاء والدفاع عن حقِّهم في‮ ‬المساواة‮. ‬وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية،‮ ‬الوطنية والقومية التي‮ ‬لا وجود لهم بدونها‮.‬
فطوبى لك أيها المعلم الذي‮ ‬جعل الحنين فاكهة،‮ ‬وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول‮.‬
كم أنت‮ ‬يا حبيبي،‮ ‬كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي‮ ‬تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة‮. ‬في‮ ‬كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك‮. ‬وفي‮ ‬كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ‮ ‬يتبّدل قبل أن‮ ‬يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر‮. ‬تاريخ‮ ‬ينقض علينا كقطار عشوائي،‮ ‬فماذا تفعل في‮ ‬انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي‮ ‬بقدر ما كانت حجتك في‮ ‬وجه هذا العبث،‮ ‬وطريقة في‮ ‬اختيار برج للرصد،‮ ‬ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا‮.‬
إذا كنّــا نلعب،‮ ‬فتلك هي‮ ‬شروط اللعبة،‮ ‬لسانًا بلسان،‮ ‬لا طائرة ضد طائر‮. ‬وفي‮ ‬هذه المنطقة أيضًا‮ ‬يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا،‮ ‬ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل،‮ ‬في‮ ‬صحراء الإيقاع الذي‮ ‬لا‮ ‬يتوتَّر إلاّ‮ ‬لينسجم بين السياسي‮ ‬والأدبي‮. ‬لا،‮ ‬لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك‮. ‬تلك كانت حسرتك الأخيرة،‮ ‬أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية‮. ‬فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي‮ ‬وابن ذاتك‮. ‬وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر‮. ‬وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها‮. ‬وفيك من المساحات والأصوات،‮ ‬فيك من تقاطع الطرق وحوادثها،‮ ‬فيك من البطل والضحيّة والشاهد،‮ ‬فيك من الأنا والجماعة والآخر،‮ ‬ما كان‮ ‬يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية،‮ ‬لأنك أنت،‮ ‬أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً‮ ‬واحدًا‮: ‬هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى،‮ ‬وهل هزيمة الأداة هي‮ ‬موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة،‮ ‬الحرية والعدل والسلام،‮ ‬فإن شعبك بأسره،‮ ‬شعبك العربي‮ ‬وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر،‮ ‬وأصدقاءه الأوفياء،‮ ‬أصدقاءك،‮ ‬من قوى السلام في‮ ‬هذه البلاد وفي‮ ‬العالم،‮ ‬يزدادون وفاءً‮ ‬لفكرتك فتلك هي‮ ‬وصية الحُــر للحُــر،‮ ‬وتلك هي‮ ‬هوية وجودنا الإنساني‮ ‬المشترك على أرض المعاني‮ ‬الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية‮. ‬أرض السلام العطشى إلى السلام‮.‬
فانهض معنا‮ ‬يا أبا سلام لنمضي‮ ‬قليلاً‮ ‬معك وإليك،‮ ‬إلى هناك،‮ ‬إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا‮. ‬واغفر لنا‮ ‬يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك‮. ‬إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين‮.‬
حيفا،‮ 3 ‬أيار 1996 ‬
نقلا عن موقع