2006-11-19

البعوضة

البعوضة
البعوضة،ولا أعرف اسم مذكرها في اللغة،أشدّ فتكاً من النميمة.لا
تكتفي بمصّ الدم،بل تزج بك في معركة عبثية.ولا تزور إلا في الظلام كحمى
المتنبي.تطن وتزن كطائرة حربية لا تسمعها إلا بعد إصابة الهدف.دمك هو
الهدف.تشعل الضوء لتراها فتختفي في ركن ما من الغرفة والوساوس،ثم
تقف على الحائط...آمنةً مسالمة كالمستسلمة.تحاول أن تقتلها بفردة حذائك،
فتراوغك وتفلت وتعاود الظهور الشامت.تكرر محاولتك وتفشل.تشتمها
بصوت عال فلا تكترث.تفاوضها على هدنة بصوت ودي:نامي لأنام!تظن
أنك أقنعتها فتطفيء النور وتنام.لكنها وقد امتصت المزيد من دمك تعاود
الطنين إنذاراً بغارة جديدة.وتدفعك إلى معركة جانبية مع الأرق.تشعل
الضوء ثانية وتقاومهما،هي والأرق،بالقراءة.لكن البعوضة تحط على
الصفحة التي تقرؤها،فتفرح قائلاًفي سرّك: لقد وقعت في الفخ.وتطوي
الكتاب عليها بقوة:قتلتها...قتلتها!وحين تفتح الكتاب لتزهو بانتصارك
لا تجد البعوضة،ولا تجد الكلمات.كتابك ابيض.البعوضة،ولا اعرف
اسم مذكرها في اللغة،ليست استعارة ولا كناية ولا تورية.إنها حشرة تحبّ
دمك.تشمه عن بعد عشرين ميلاً.ولا سبيل لك لمساومتها على هدنة غير
وسيلة واحدة هي:أن تغير فصيلة دمك

2006-11-18

نيرون

نيرون

ماذا يدور في بال نيرون، وهو يتفرج على حريق لبنان؟ عيناه زائغتان
من النشوة، ويمشي كالراقص في حفلة عرس:هذا الجنون،جنوني،سيّد
الحكمة،فلتشعلوا النار في كل شيء خارج طاعتي.... وعلى الاطفال أن
يتأدبوا ويتهذبوا ويكفوا عن الصراخ بحضرة أنغامي!
وماذا يدور في بال نيرون،وهو يتفرج على حريق العراق؟يسعده أن
يوقظ في تاريخ الغابات ذاكرة تحفظ اسمه عدواً لحمورابي وجلجامش وأبي
نواس:شريعتي هي أم الشرائع.وعشبة الخلود تنمو في مزرعتي. والشعر،
مامعنى هذه الكلمة؟
وماذا يدور في بال نيرون،وهو يتفرج على حريق فلسطين؟يبهجه أن
يدرج اسمه في قائمة الأنبياء نبيّاً لم يؤمن به أحد من قبل.نبياً للقتل كلفه
الله بتصحيح الاخطاء التي لا حصر لها في الكتب السماوية:"أنا أيضاً كليم
الله"!
وماذا يدور في بال نيرون وهو يتفرج على حريق العالم؟"أنا صاحب
القيامة" ثم يطلب من الكاميرا وقف التصوير،لأنه لا يريد لأحد أن يرى
النار المشتعلة في أصابعه في نهاية هذا الفيلم الأميركي الطويل
!

2006-11-07

في رثاء ممدوح عدوان

كما لو نودي بشاعر أن انهض
على أربعة أحرف يقوم اسمُك واسمي، لا على خمسة. لأن حرف الميم الثاني قطعة غيار قد نحتاج اليها أثناء السير على الطرق الوعرة.

........

في عامٍ واحد وُلدنا، مع فارق طفيف في الساعات وفي الجهات. وُلدنا لنتدرّب على اللعب البريء بالكلمات. ولم نكترث للموت الذي تَدقّه النساء الجميلات، كحبة جوز، بكعوب أحذيتهن العالية.

عالياً، عالياً كان كُل شيء... عالياً كالأزرق على جبال الساحل السوري، وكما يتسلق العشب الانتهازي أسوار السلطان، تسلقنا أقواس قُزحٍ، لنكتب بألوانها أسماء ما نحب من الأشياء الصغيرة والكبيرة:

يداً تحلب ثدي الغزالة،

مجداً لزارعي الخسّ في الأحواض، شغف الإسكافي بلمس قدم الأميرة، ومصائد أخرى لجمهور مطرود من المسرح.

لم ننكسر بدويٍ هائل كما يحدث في التراجيديات الكبرى، بل كأشعة شمس على صخور مدَببة لم يُسفك عليها دم من قبل، لكنها أخذت لون النبيذ الفاسد، ولم نصرخ، هناك، لأن لا أحد، هناك، ليسمع: أو يشهد.

دلتني عليك تلك الضوضاء التي أحدثتها نملة بين الخليج والمحيط، حين نجت من المذلة، واعتلت مئذنة لتؤذن في الناس بالأمل،

ودلتك عليّ سخرية مماثلة!

ولما التقينا عرفتك من سُعالك، إذ سبق لي أن حفظته من ايقاع شعرك الأول، يُفزع القطط النائمة في أزقة دمشق العتيقة، ويبعثر رائحة الياسمين.

لم يكن لنا ماضٍ ذهبي على أهبة العودة، كما يدّعي رواد المقهى الخائفون من القبض على قرون الحاضر الهائج كالكبش، ولا غد أكيد، خلفنا، كما يدعي رواد الشعر الخالي من الملح، المتخم بفراغ المطلق.

لم نبحث إلا عن الحاضر.

ولكننا، من فرط ما أُهنّا، بشرنا بالقيامة بصوت مرتفع، أثار علينا غضب الملائكة المنذورين لصيانة اللغة الصافية من غبار الأرض، والباحثين عن الشعر الصافي في جناح بعوضة.

ودُعينا، في غرف التشريح معقمة الهواء والكلام، الى بتر المفردات كثيرة الاستعمال. وسرعان سرعان ما علاها الصدأ من قلة الاستعمال، وفي أولها: الحياة... ومشتقاتها.

لكننا آثرنا أن نخاصم الملائكة.

ممدوح، لا أطيق سماع اسمك الآن، لأنه يذكرني بما ينقصني من رغبةٍ في الضحك معك على عورة بردى المكشوفة كأسرارنا القومية. ولأنه يُذكرني بمدى حاجتي الى استراحة من الركض آناء النوم، بحثاً عن حلم مسروق، أراه واضحاً وأحاور السارق. ويذكرني اسمك بما أنا فيه من طقطقة كأني حبّة بلوط في موقد الفقير ليلة العيد.

لهذا، اكتب اسمك ولا ألفظه، ففي الكتابة يتموج اسمك على ماء الحضور. وفي الكلام أسمع وحش الغياب يطاردني من حرف الى حرف، ليفترس الشلو الأخير من قلبي الجائع الى هجائك المادح.

ممدوح! ماذا فعلت بك وبنا؟ فلم نعد نحزن من تساقط شعرك المبلل بالزيت، فإنك تستعيده الآن من عشب الأرض. ولكن، في أية ريح أخفيت عنا سعالك، فلم يعد في غيابك متسع لغياب آخر.

لا لأن حروف اسمك هي حروف اسمي، لا أتبين من منا هو الغائب، بل لأن الحياة التي آلفت بين ثعلبين ماكرين لم تمنحنا الوقت الكافي لنقول لها كم أحببناها، وكم أحببنا فجورها وتقواها... فتركت ثعلباً منا بلا صاحب.

لا جلجامش ولا انكيدو. ولا الخلود هو المبتغى ولا قوة الثور. فنحن الخفيفان الهشان، كواقعنا هذا، لم نطلب أكثر من وقت اضافي لنلعب بالكلمات لعباً غير بريء، هذه المرة، أو لنورث ما لم نقله بعد من لم يقل بعد. ولنجعل من الشعر مزاحاً مستحباً مع العدم. لكن حرف الميم الثاني في اسمك واسمي ظلَّ قطعة غيار لا تنفع.

ممدوح! هذا هو وقت الزفاف الفاحش بين الرعد والصحراء، شرق الشمال، لإنجاب الكمأ اعجازي التكوين. صف لي ولادة الكمأة أصف لك عجزي عن وصف القصيدة، فانظر شرق الشمال!

هي حسرة التعريف، أنين الرمل على الشاطئ حيث يرفع القمر، بأصابعه الفضية، سروال البحر وقت الجزر، ويرش علينا قصيدة حب، إباحية التصوف.

فاغضض من صوتك، لا من بصرك، وانظر. فمنذ ولادة اللغز الكوني، والشعر مختبئ في أشد المواقع انكشافاً. ويظهر جلياً جلياً في اللامرئي من سماء مسقوفة بكفاءة الغيب.

كل الأزهار شريفة حيث تترك لحالها، ما عدا القرنفلات الحمر التي يضعها الجنرالات، ما بين وسامٍ ونجمة، على بزة سوداء أو كحلية... لخداع أرامل الشهداء.

وكل اليمامات نظيفة، حتى لو بالت على شرفاتنا والوسائد، ما عدا اليمامات التي يدربها الغزاة والطغاة معاً، وعلى حدة، على الطيران الرسمي في أعياد ميلادهم، وفي مناسبات وطنية أقل أهمية.

الآن، لا أتذكر شيئاً منك. فالذكرى تلي الحرب والموت والزلزال. وأنت، ما زلت معي تكتب هذه المرثية، على هذه الورقة البيضاء، في هذا الليل البارد... أو نكتبها معاً لشاعر محبط. فلعلها لا تعجبه فيتوقف عن اغتيال نفسه، الى أن يقوم غيرنا بكتابة مرثية أفضل، لا تعجبه هي أيضاً، فينتظر غيرها ويحيا أكثر.

كما لو نُودي بشاعرٍ أن انهض من هذا الألم.

وأنسى الآن، لتبقى معي، أكثر من غلسٍ لم يدركنا ولم ندركه قبل أن تُفرغ آخر كرم عنبٍ مقطر في كأسك التي لا تخلو أبداً إلا لتنكسر، أيها العاصر الماهر!

ليس هذا مجازاً، بل هو أسلوب ليلٍ لا يصلح إلا ضيفاً، وأنت المضيف الباذخ. وإن افتأت عليك، كصديقٍ حامض القلب، عاملته بالحسنى وأرقت عليه حليب الفجر.

لكني لا أنسى ضحكتك التي تشبه شجرة زنزلخت مبحوحة الأغصان، عاليةً وعريضة، لا تاريخ لها منذ صار التاريخ قهقهة عابثة. ومنذ عادت الجرار الى حفظ الصدى، كالزيت، خوفاً عليه من آثار الشمس الجانبية.

كم حيَّرني فيك انشقاق طاقاتك الإبداعية عن مسار التخصص، كعازفٍ يحتار في أية آلة موسيقية يتلألأ. لم أقل لك ان واحداً منك يكفي لتكون عشيرة نحل تمنح العسل السوري مذاق المتعة الحارق. بحثت عن الفريد في الكثير، من دون أن تعلم أن الفريد هو أنت. وأنت أمامك بين يديك. ألا ترى اليك، أم وجدت نفسك أصفى في تعددها، يا صديقي المفرط في التشظي ككوكبٍ يتكون.

فصصت الثوم للقصيدة لتحمي شرايينها من التصلب. فالشعر، كالجسد، في حاجة هو أيضاً الى عناية طبية، والى فصادٍ كلما أُصيب الدم بالتلوث. آه، من التلوث الذي جعل الإيقاع نشازاً، واستبدل حفيف الشجر بموسيقى الحجر، واعتبر الحياة عبئاً على الاستعارة!

لكن هذا لم يهمك. لأن الحياة لا تُوهب لتعرف أو تعرض للنقاش، بل لتُعاش... وتعاش بكاملها، وتُلتهم كقطعة حلوى إلهية، أو شفتين ناضجتي الكرز. وقد عشتها كما شئت أنت، لا كما هي شاءت. أحببتها فأحبتك. وشاكست ما يجعلها أحد أسماء الموت، في عصر القتل المعولم الذي يمنح القتلى قسطاً من الحياة لا لشيء... الا لينجبوا قتلى.

يا ابن الحياة الحر، أيها المدافع عن جمال الوردة العفوي، وحرية العشاق في العناق على مرأى من كهان الطهارة اللوطيين! من بعدك سيسخر ممن يتقنون تسمية الآلهة، ولا يقوون على تسمية الضحايا؟ يأنفون من الانتباه الى دم مسفوك على طريق المعراج، ويسرفون في التحديق الى غيمة عابرة في سماء طروادة، لأن الدم قد يلطخ نقاء الحداثة المتخيلة، ولأن الغيم سرمدي الدلالات. لعلهم على حق، ما دامت هزائمنا تستدعي تطوير النقد الى هذا الحد!

لكن هذا أيضاً لا يهمك، أيها المتعالي على التعالي، أيها العالي من فرط ما انحنيت بانضباط جنديٍ أمام سنبلة، ونظرت، حزيناً غاضباً، الى أحذية الفقراء المثقوبة، فانحزت الى طريقها الممتلئ بغبار الشرف. الشرف؟ يسألك المترجم: ما معنى هذه الكلمة؟ فلم أجدها في الطبعات الجديدة من المعاجم.

ممدوح، يا صديقي، لماذا كما يفعل الطرخون خانك وخاننا قلبك؟ لماذا لم تعلم كم نحبك؟ لماذا تمضي وتتركني ناقصاً؟ لماذا... لماذا؟


ألقى الشاعر محمود درويش هذا النص في أربعين الشاعر السوري الراحل ممدوح عدوان

2006-09-13

شتاء ريتا الطويل

ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ

وهذه الأزهار أكبر من سريري

فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل

ضع ههُنا قمراً على الكرسيَّ

ضع فوق البحيرةَ

حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى

هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ

لتجهش كلما التفّت على جذعي فُروعُكَ ؟

حُكَّ لي قدمي وحُكَّ دَمي لنعرف ما

تخلفه العواصفُ والسُّيولُ

منِّي ومنك ...

تنامُ ريتا في حديقةِ جسمها

توتُ السياجِ على أظافرها يُضيءُ

الملحَ في جسدي . أُ حبُّكِ .

نام عصفوران تحت يديَّ...

نامت موجةُ القمح النبيل على تنفسها البطيء

و وردةُ حمراء نامت في الممر

ونام ليلُ لا يطول

والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا

يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري

فنامي بيني وبينك

لا تغطي عَتمَة الذهب العميقة بيننا

نامي يداً حول الصدى

ويداً تبعثرُ عزلة الغابات

نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون

نامي فرساً على رايات ليلة عرسها ...

هدأ الصهيلُ

هدأت خلايا النحل في دمنا

فهل كانت هنا ريتا

وهل كنا معا ؟

.... ريتا سترحلُ بعد ساعاتٍ وتتركُ ظلها

زنزانةٌ بيضاء . أين سنلتقي ؟

سألَت يديها ، فالتَفَتُّ إلى البعيد

البحر خلف الباب ، والصحراء خلف البحر

قبلني على شفتي قالت .

قُلتَ : يا ريتا أأرحلُ من جديد

مادام لي عنبٌ وذاكرةٌ ، وتتركني الفصول

بين الإشارة والعبارة هاجسا ً ؟

ماذا تقول ؟

لا شيء يا ريتا ، أقلدُ فارساً في أُغنية

عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا ...

عَنّي ؟

وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان

فواحدٌ يستل سكيناً وآخرُ يُودعُ الناي الوصايا

لا أدرك المعنى ، تقول

و لا أنا ، لغتي شظايا

كغياب إمرأةٍ عن المعنى ،

وتنتحرُ الخيولُ في آخر الميدان ...

ريتا تحتسي شاي الصباح

وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ

وتقول لي :

لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول

والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنتَ أنتْ ؟

أنا هو

هو من رآكِ غزالةً ترمي لآلئها عليه

هو من رأى شهواتهِ تجري وراءكِ كالغدير

هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير

وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء

يأخذنا الرحيل في ريحه ورقاً

أمام فنادق الغرباء

مثل رسائلٍ قرئت على عجل

أتأخُذني معك ؟

فأكون خاتم قلبك الحافي ، أتأخُذني معك

فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك ... لتصرعك

وأكون تابوتا من النعناع يحمل مصرعك

وتكون لي حياً وميتاً

ضاع يا ريتا الدليل

والحب مثل الموت وعدٌ لا يرد .. ولا يزولُ

.... ريتا تُعدُّ لي النهار

حجلاً تجمع حول كعب حذائها العالي :

صباحُ الخير يا ريتا

وغيماً أزرقاً للياسمينة تحت إبطيها :

صباحُ الخير يا ريتا

وفاكهةً لضوء الفجر: يا ريتا صباح الخير

يا ريتا أعيديني إلى جسدي لتهدأ لحظةً

إبرُ الصنوبر في دمي المهجور بعدك ِ .

كلما عانقتُ برجَ العاجِ فرت من يديَّ يمامتان ..

قالت : سأرجع عندما تتبدل الأيام والأحلام

يا ريتا طويل هذا الشتاء ، ونحن نحن

فلا تقولي ما أقول أنا هي

هيَ من رأتكَ معلقاً فوق السياج ، فأنزلتك وضمدتك

وبدمعها غسلتك ، انتشرت بسوسنها عليك

ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها وأنا هيَ

هل أنتَ أنتْ ؟

... تقوم ريتا عن ركبتي

تزور زينتها ، وتربط شعرها بفراشةٍ فضيةٍ .

ذيل الحصان يُداعبُ النمش المبعثر

كرذاذ ضوءٍ فوق الرخام الأنثوي

تعيد ريتا زر القميص إلى القميص الخردلي ... أأنتَ لي ؟

لَكِ ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيَّ ،

لي ماضٍ أراه الآن يولدُ في غيابك

من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب

لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة

لي رغوة الصابون

والعسل المملح

والندى

والزنجبيل

ولكَ الأيائل ،إن أردت ، لك الأيائل والسهول

ولك الأغاني ،إن أردت، لك الأغاني والذهول

إني ولدت لكي أحبك

فرساً تُرقِّصُ غابةً ، وتشق في المرجان غيابك

ووُلدتُ سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك

خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك

إني ولدت لكي أحبك

وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك

ووجدت حراس المدينة يُطعمون النار حُبك

وإني ولدت لكي أحبك

ريتا تكسر جوز أيامي ، فتتسع الحقول

لي هذه الأرض الصغيرة في غرفة في شارعٍ

في الطابق الأرضي من مبنى على جبلٍ

يطل على هواء البحر . لي قمرٌ نبيذيٌ ولي حجر صقيل

لي حصة من مشهد الموج المسافر في الغيوم ، وحصة

من سِفرِ تكوين البداية و سِفرِ أيوب ، ومن عيد الحصاد

وحصة مما ملكتُ ، وحصة من خبز أمي

لي حصة من سوسن الوديان في أشعار عشاق قدامى

لي حصة من حكمة العشاق : يعشقُ وجهَ قاتلهِ القتيلُ

لو تعبرين النهر يا ريتا

وأين النهر ، قالت ...

قُلتُ فيكِ وفيَّ نهرٌ واحد

وأنا أسيل دماً وذاكرةً أسيلُ

لم يترك الحراس لي باباً لأدخل فاتكأت على الأفق

ونظرت تحت

نظرت فوق

نظرت حول

فلم أجد

أفقاً لأنظر ، لم أجد في الضوء إلا نظرتي

ترتد نحوي . قلت عودي مرةً أخرى إلي ، فقد أرى

أحداً يحاول أن يرى أفقاً يرممه رسول

برسالة من لفظتين صغيرتين : أنا ، وأنتِ

فرحٌ صغيرٌ في سريرٍ ضيقٍ ... فرحٌ ضئيل

لم يقتلونا بعد ، يا ريتا ، ويا ريتا .. ثقيل

هذا الشتاء وبارد

.... ريتا تغني وحدها

لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها

قرب البحيرة وحدها ، تبكي طفولتي البعيدة بعدها

في كل أمسية تنام ضفيرتي الصغيرة عندها

أمي ، كسرت طفولتي وخرجت إمرأةً تُربِّي نهدها

بفم الحبيب . تدور ريتا حول ريتا وحدها :

لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى

في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول

عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل

لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول

وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة

تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟

خذني إلى أرض البعيدة

خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء

وكسرت خزف النهار على حديد النافذة

وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة

ورمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل

ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل

2006-09-03

محمود درويش كما يرى نفسه وكما يراه عبده وازن

يحاور الزميل عبده وازن الشاعر محمود درويش في كتابه "محمود درويش الغريب يقع على نفسه"، (دار رياض الريّس) حواراً طويلاً يمهّد له بمقدمة من أربعة فصول تقرأ بعض أعمال الشاعر الجديدة وتحلل عناصرها الشعرية.

لا يمكن قراءة أعمال درويش الشعرية الممتدة على نحو أربعين سنة ولا تزال، خارج مسيرته الحياتية مذ خرج من الأراضي المحتلة عام 1971 وحتى عودته اليها بعد إقامة السلطة الفلسطينية، حيث يعيش متنقلاً بين عمان ورام الله. كذلك لا يمكن قراءتها خارج التطور الشعري للقصائد بين مرحلة وأخرى، إيقاعا وتفعيلة ومبنى ومعنى، دون سبر غور التحولات التي طرأت، بناء على مراحل العمر والمكان والزمان، وهذا ما حاول وازن إيضاحه في هذا الحوار.

التقط وازن تطوراً في شعر درويش وصفه بالخروج عن التفعيلة في قصائده الحديثة التي حلل بعضها. ولم ينف درويش أسلوبه الإيقاعي الجديد الذي لا يلغي التفعيلة، لكنه يبدّل في استعمالها وفي دورها الإيقاعي باحثاً عن إيقاعات مبتكرة تجسدها كل قصيدة بنفسها. وهو يقول "مفتاحي لكتابة القصيدة هو الإيقاع" و"ابني القصيدة بناء هندسياً كي يكون لها قوام". الإيقاع والتفعيلة والقافية الداخلية تدفع درويش إلى رفض كتابة قصيدة النثر، رغم انها معترف بها عربياً وعالمياً، فهو يكتب النثر خارج القصيدة ولا يكتب قصيدة النثر.

كتابة القصيدة عند درويش تعبر من الحدس حيث تتشكل الصور الرؤيوية الغامضة، يرفدها إيقاع يحدد مسار القصيدة "والإيقاع هو الذي يقودني إلى الكتابة، وإذا لم يكن هناك من إيقاع ومهما كانت عندي أفكار او حدوس او صور فهي ما لم تتحول إلى ذبذبات موسيقية لا استطيع ان اكتب". ثم هناك الفكر والتاريخ والمعرفة والواقع التي مجتمعة "تقود عمل القصيدة"، مبنيةً على اللغة.

يلتمس وازن انعطافة شعرية في بضع قصائد جديدة لدرويش محللاً مواقع التجديد فيها، مستخلصاً انتقال الشاعر "من شعر القضية إلى قضية الشعر ومن حماسة المقاومة إلى سحر التمرد ومن وهج السياسة إلى غموض السياسي".

ان الشاعر المبدع والجماهيري في آن واحد يمكنه ان يتطور مع قرائه، ينتقل معهم من مرحلة إلى أخرى، ليس جميعاً، فالبعض يتوقف عند مرحلة معينة، كما قد يقف الشاعر أيضا عند محطة معينة يراوح شعره فيها فلا يتطور.

لكن لا يمكن أن يكون الشاعر جاحداً لجمهور أعطاه الشهرة حين كان التواصل بينهما مطّرداً. خصوصاً القصائد التي تصبح جزءاً من قضية وذاكرة جماعية. ولا يجوز ان يوصف محمود درويش بالجحود لقرائه ومتلقيه - لأنه يرفض كلمة جمهور – لكنه يجحد قصائده الأولى التي كتبها في بداياته بعنوان "عصافير بلا أجنحة" فيسقطها من أعماله. يصفه وازن بأنه شاعر جماهيري ونخبوي في آن واحد، يسعى للارتقاء بجمهوره إلى شعره. يقول درويش: "لا انظر إلى ماضيَّ الشعري برضى، لكنه لما تطور لولا التراكم الشعري الكبير على مدى سنوات طويلة، ان الشعر يتطور بتطور مراحل العمر"، ويضيف: "لو أتيح لي ان احذف لحذفت نصف أعمالي".

يكتشف وازن مواءمة بين شعر درويش وشعر نشيد الأناشيد في رسم خريطة الأرض وخريطة الجسد في جمالية تمزج الاثنين معاً، كذلك يستخلص من الكاماسوترا فن العشق في الانتظار، ففيه عمق العاشق الحقيقي ومرتجاه. وينتهي إلى "طوق الحمامة" لإبن حزم الأندلسي مستحضراً "معجزات الحب الإنساني". وبذلك يعبر من أقصى الحدود العربية في الشرق إلى أقصاها في الغرب وما بينهما، حيث تتوسط فلسطين بجسدها الجميل ذاكرته وحياته وحبه الأبدي ومحبوبته المبجلة. وفي هذا الإطار انتقل درويش بالمرأة من تمثيلها الأرض – الأم، أي الصورة الطوباوية للمرأة، إلى صورة الحبيبة الفعلية وليست الشعرية فقط. صورة العشق الوجداني والوجودي في آن.

كما يلاحظ وازن ان المنفى مستمر في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة ارض في فلسطين، فوجوده لم يغيّر شعوره بالمنفى المستمر معه من ماضيه إلى مستقبله، "من أنا دون منفى"، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش في غيبوبة تعرض لها يخيفان الشاعر، إنما موته الشعري إذا حصل هو الأقسى، لذلك يواجه الموت الحقيقي بالموت الشعري، أي يواجه الموت الواقعي بالحياة الشعرية.

لكن يبدو ان الموت الشعري لا يخيف درويش فهو يواجهه "جاعلاً منه الوجه الآخر للشعر واللغة"، لأن شعره ولد على مراحل وتطور مدى العمر خلافاً لشعر طرفة بن العبد ورامبو. وهنا نطرح سؤالاً يستحق دراسة، هل يستطيع الشاعر ان يكتب بعد الستين؟ كم هم هؤلاء الشعراء؟ ما هي قيمة شعرهم مقارنة بشعر الشباب؟

ان الشعر هو انتماء درويش الاول والأخير، أما اللغة فهي حاضره ومستقبله، ولعل ما أورده وازن عن قصيدة "جدارية" يعكس صورة الشاعر المرحلية، اذ يقول: "ان فيها بعضاً من الملحمية الأليفة او الذاتية. فهي لا تحاور العالم الا عبر الذات ولا تستحضر أشياء الحياة الا عبر الموت. لا جماعة هنا ولا وطن ولا منفى جغرافياً ولا خريطة بل ذات غريبة في عالم غريب "وأنا" مفردة تقاسي العزلة والألم وذاكرة تستعيد الماضي في صور تلتمع كالسراب. السفر هو في الداخل والمنفى في الداخل أيضا. أما العودة التي يطمح اليها الشاعر فهي عودة إلى اللغة "في أقاصي الهديل" وليست عودة إلى "البلد" أو الأهل أو الحبيبة، الإقامة تصبح إقامة في اللغة ويصبح السكن "سكناً شعرياً" كما يقول هايدغر".

النهار- 29- 8- 2006

جوزف باسيل
(لبنان)

في اربعين محمد الماغوط

في أمسية غياب كهذه، وفي المكان هذا، كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب علي اسم الراحل ممدوح عدوان. لم يحضر محمد الماغوط كاملا، لعجز عكازه عن اسناد جبل. لكنه حضر صورة شاحبة وصوتا متهدجا ليذكٌرنا بأن للوداع بقية.ذهبنا اليه في صباح اليوم التالي. كانت العاصفة مسترخية علي أريكة، تشرب وتضحك وتدخن وتعانق زوارها. كانت العاصفة مرحة فرحة بما تبقي فيها من هواء وضيوف، ولا تأسف علي ما فعلت باللغة وبالنظام الشعري. فهي لا تعرٌّف الا من آثارها عندما تهدأ. هدأ الماغوط ونظر الي آثاره برضا الفاتح المرهق. قلنا له وقال لنا ما يقول العارفون بأن اللقاء وداع. وضحكنا كثيرا لنخفي خوفا أثاره فينا انكبابه علي ترتيب الموعد القاسي مع سلامه الداخلي، فمثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.لكنه لم يكن حزينا ولا خائفا مما يتربص به. وضّع الماضي كله علي المائدة، ووزع علي كل واحد منا حصته من الذكريات والمودة، قرأ لنا ما يدون من خواطر يومية عاجلة، فهو في سباق مع معلوم يشاغله بالطرق علي فولاذ المجهول. وحياني بقصيدة، فخجلت، وقلت في نفسي: لماذا لم يصدٌِقني من قبل؟وهو، الذي لا يحب الإعلام، ابتهج بوصول فريق اذاعي، ربما ليعلن وصيته الأخيرة علي الملأ: أوصيكم بالحب... فهذا الغاضب من كل شيء لم يغضب إلا لأن الحب في هذا العالم قد نضب. ولم يغضب الا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف. ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين. ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية، بمعناها الشخصي والعام، ما زالت مستعصية علي العرب والعاربة والمستعربة... والإعراب!فوجئنا بصحافي يسألنا بلا رحمة: هل جئتم الي الماغوط لحضور جنازة مبكرة؟ تحسس كل واحد منا قلبه وتلعثم، الا هو، هو النسر الوحيد في ذروته، ملتفا بكبرياء الأعالي وبمصاهرة البعيد. لم يكن سؤال الموت سؤاله ما دام يكتب... ففي كل كتابة ابداعية نصر صغير علي الموت، وهزيمة صغري أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! وكنا نعلم اننا جئنا للقائه لنتدرب علي وداعه.رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرٌاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن الا علي شعريته وحريته، وعلي قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدي صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجما دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماض لا يمضي وغد لا يصل. كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!رأي الماغوط الهاوية فخاف. خاف بشجاعة المقاوم. فنظر الي الأفق بعيون الشاعر الطائر، فخاف ثانية، وقاوم الخوف برؤيا الشاعر الحالم، فماذا علي الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرة لانتمائه الي الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟لكن هذا الخائف علي عفوية الحياة، وعلي العلاقة السرية بين الأشياء والكلمات، رأي الخوف كما تجري المواد الأولية لبناء الكابوس، فقاومه بحرية الكلمات في تحرير صاحبها وقارئها، وقاومه بالتخلي عن حنين اللغة الي ماضي أطلالها وقصورها معا، وبفروسية من لا يملك شيئا ليخسره، وأكاد أقول: بمغامرة يأسه اشتق الأمل لغيره، فأخاف ما يخيفه، كما تجخيف الملحمة الشعرية الموت المتربص بأبطالها وقرائها الخالدين. لقد أخافت لغة الماغوط الساخنة الساخرة الجميع من فرط قوة الهشاشة في أعشابها، ومن فرط دفاعها عن حق الوردة في حماية خصائصها.وهو فضيحة شعرنا. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه الي وحدات ايقاعية تقليدية المرجعية، وتبحث عن موقع جديد لقيلولة القافية: في آخر السطر أم في أوله... في منتصف المقطع أم في مقعد علي الرصيف، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر علي الشعر في مكان آخر. كان يتشظي ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد الي لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي الي حواسه وهي تملي علي لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله الي معرفة الشعر... هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتي.انقضٌّ علي المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ولا شعرا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا علي اعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر علي حال، لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الي الشك بيقينها الجامد.لم يختلف اثنان علي شاعرية الماغوط، لا التقليدي ولا الحداثي، ولا من يود القفز الي ما بعد الحداثة. حجتهم هي ان الماغوط استثناء، استثناء لا يجدرج في سياق الخلاف حول الخيارات الشعرية. لكنها حجة قد تكون مخاتلة، فما هي قيمة الشاعر إذا لم يكن استثناء دائما وخروجا عن السائد والمألوف؟ لذلك، فنحن لا نستطيع ان نحب قصيدة الماغوط ونرفض قصيدة النثر التي كان أحد مؤسسيها الأكثر موهبة. وإذا كانت تعاني من شيوع الفوضي والركاكة وتشابه الرمال، علي ايدي الكثيرين من كتابها، فإن قصيدة الوزن تعاني ايضا من هذه الأعراض، الأزمة إذا ليست أزمة الخيار الشعري، بل هي أزمة الموهبة، أزمة الذات الكاتبة. فنحن القراء لا نبحث في القصيدة إلا عن الشعر، عن تحقق الشعرية في القصيدة.سر الماغوط هو سر الموهبة الفطرية. لقد عثر علي كنوز الشعر في طين الحياة. جعل من تجربته في السجن تجربة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية، وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئا علي الأحياء. وهو الآن في غيابه، أقل موتا منا، وأكثر منا حياة !ألقيت هذه الكلمة في حفل تأبين الشاعر الماغوط في دمشق

2006-07-28

عندما يذهب الشهداء الى النوم

عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو

وأحرسهم من هواة الرِّثاء

أقول لهم

تُصبحون على وطن

من سحابٍ ومن شجرٍ

من سراب وماء

أهنئُهُم بالسلامةِ من حادثِ المُستحيل

ومن قيمة المذبح الفائضة

وأسرقُ وقتَا لكي يسرقوني من الوقتِ

هل كُلُنا شهداء؟

وأهمس

يا أصدقائي اتركوا حائطاَ واحداً

لحبال الغسيل

اتركوا ليلةًَ للغناء

اُعلِّق أسماءكم أين شئتم فناموا قليلاً

وناموا على سلم الكرمة الحامضة

لأحرس أحلامكم من خناجر حُراسكم

وانقلاب الكتاب على الأنبياء

وكونوا نشيد الذي لا نشيد له

عندما تذهبون إلى النوم هذا المساء

أقول لكم

تصبحون على وطنٍ

حمّلوه على فرس راكضه

وأهمس

يا أصدقائي لن تصبحوا مثلنا

حبل مشنقةٍ غامضه

2006-06-17

عن الوطن والمنفى

لما تنته الطريق بعد كي أعلن عن بداية الرحلة

كل طريق توصلني إلى بداية أخرى، والخروج مثل الدخول مشرّع على المجهول

كنت في السادسة من عمري عندما رحلت نحو ما لم أكن أعرف. في ذلك اليوم، إنتصر جيش عصري على طفولة لم تكن تعرف من الغرب بعد إلا عطر البحر المالح وذهب الغروب فوق حقول القمح. دافعنا وقتها عن العلاقة الهادئة السرمدية التي تربط الفلاحين الطيبين بالأرض الوحيدة التي عرفوها، الأرض التي ولدوا عليها

لم تتحول السكك والمحاريث إلى سيوف إلا في قصص الأنبياء. أما سككنا نحن فتكسّرت أمام طائرات ودبابات الغرباء الذين شرّعوا بهذه الطريقة حكاية حنينهم الطويل إلى "أرض الميعاد". لقد تغذّى الكتاب على القوة وكانت القوة بحاجة إلى كتاب

منذ اليوم الأول رافق الصراع من أجل الأرض غزو للماضي وللرموز. ولبست صورة داود درع جليات، وأمسكت صورة جليات بنقّيفة (مقلاع) داود. ولكن الطفل الذي كنته لم يكن بحاجة إلى من يقص عليه التاريخ كي يعرف طريق الأقدار المجهولة التي دشنت هذه الليلة الرحبة الممتدة بين قرية جليلية وشمال مضاء بقمر بدوي معلق فوق الجبال.

في هذا اليوم، اقتُلع شعب من حاضره الحميم، وفُصل بينه وبين خبزه الطازج كي يتردّى في ماضٍ آت. هناك، في جنوب لبنان، نُصبت لنا خيم هشّة وتغيرت أسماؤنا. ختمونا بنفس الختم فأضعنا تمايزنا وأصبحنا كلنا "لاجئين"
- ما هو اللاجيء يا أبي؟
- لا شيء، لا شيء، لن تفهم ...
- ماذا يعني أن تكون لاجئاً يا جدي؟ أريد أن أعرف ...
- أن تكون لاجئاً يعني أن لا تكون طفلاً من الآن فصاعداً ...

لم أعد طفلاً منذ قليل. منذ أن استطعت تمييز الحقيقة من الحلم، ومنذ أن قدرت على التفريق بين ما يحدث وبين ما حدث منذ سويعات. هل يتحطم الوقت مثل الزجاج ؟

لم أعد طفلاً منذ أن عرفت بأن مخيمات اللاجئين في لبنان هي الحقيقة وأن فلسطين، من الآن فصاعداً، سوف تسكن الحلم.

لم أعد طفلاً منذ أن جرحني ناي الحنين، منذ أن كان القمر يكبر فوق أغصان الشجر وأنا تسكنني رسائل العتمة؛ رسائل إلى البيت المربع وشجرة التوت العالية والحصان العصبي والحمام البري والآبار ... رسائل إلى خلايا النحل التي كان عسلها يجرحني إلى دربي العشب اللذين يقودان إلى المدرسة وإلى الكنيسة...

- هل وضعنا هذا سوف يطول يا جدي ؟
لم أتعلم كلمة "منفى" إلا عندما صارت مرادفاتي أكثر ثراء، فكلمة العودة هي الخبز اليومي للغتنا؛ عودة إلى المكان، عودة إلى الزمان، عودة من المتنقل المتحرك إلى الثابت، وعودة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل في آن. عودة من الاستثناء إلى القاعدة، من خلية في سجن إلى بيت من حجر. هكذا أصبحت فلسطين كل ما لم تكن؛ فردوساً مفتوحاً حتى ذلك اليوم الذي تسللنا فيه إلى داخلها من جديد.

يومذاك وجدنا بأن البلدوزارات الإسرائيلية كانت قد محت آثارنا فلم نعثر على أي شيء من ماضينا. حضورنا أصبح منذها جزءاً من آثار الرومان. حرمت علينا الزيارة واكتشف الطفل "أدوات الغياب العتيدة" وطريقاً مشرعاً نحو الجحيم، فهذا كل ما بقي من فردوسه المفقود.

............................

لم تكن بي حاجة لأن يقصّوا علي تاريخي.
لقد عادت المخرجة "سيمون بيطون" إلى مسقط رأسي بعد 50 سنة كي تصوّر بئري الأولى وأول روافد لغتي، فاصطدمت برفض القاطنين الجدد للمكان وسجلت هذا الحوار مع المسؤول عن المستعمرة الإسرائيلية:
- هنا ولد الشاعر ...
- وأنا أيضاً ولدت هنا ... عندما جاء أبي إلى هنا لم يجد إلا الأنقاض. أقمنا أولاً في الخيام ثم في بيوت حقيرة. لقد عملت طيلة عشرين سنة قبل أن أستطيع بناء هذا المنزل. فهل تريدينني أن أعطيه له؟
- أريد أن أصوّر الأنقاض فقط، ما تبقى من بيته. إنه بعمر أبيك، أولا تخجل من أن ترد هكذا ؟
- لا تكوني ساذجة. إنه يطالب بحق العودة.
- هل تخاف من أن يحصل على حق العودة ؟
- نعم ...
- ويطردك كما طردته؟
- أنا لم أطرد أحداً ... لقد أتو بنا في سيارات نقل كبيرة ثم أنزلونا هنا وتركونا لأنفسنا.
- ولكن من هو هذا "الدرويش"؟
- رجل يكتب حول هذا المكان... حول التينات البرية هذه ... حول هذه الأشجار وهذه البئر.
- أي بئر؟
- هناك 8 آبار في البلدة ... كم كان عمره ؟
- 6 سنوات ...
- والكنيسة، هل كتب عن الكنيسة ؟ .... كان هنا كنيسة ولكنها دمرت. وحدها المدرسة تركوها كي تأوي إليها الأبقار والعجول.
- حولتم المدرسة إسطبلاً ؟
- ولم لا؟
- صحيح، بعد كل ما جرى، لم لا ؟!!! ... كان لديهم حصان أيضاً ، ولكن ... هل أشجار الفاكهة ما زالت هنا؟
- طبعاً ... عندما كنا صغاراً كنا نأكل من ثمارها ... تيناً وتوتاً وكل ما خلق الله .. هذه الأشجار هي طفولتي!!!
- وطفولته هو أيضاً ...

هذه الأرض لم تكن صحراء إذاًَ، ولم تكن خالية من السكان. هناك طفل يولد في مهد طفل آخر. يشرب حليبه، يأكل توته وتينه، ويعيش مكانه مرتعداً من عودته دون ندم يذكر، ثم يقول لنفسه بأن هذه الجرائم التي ارتكبها الآخرون هي أيضاً من صنع القضاء والقدر. هل يستطيع مكان واحد أن يتسع لحياة مشتركة؟ هل يستطيع حلمان أن يتحركا بحرية تحت نفس السماء؟ هل يستطيعان ذلك دون أن يكون على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً محروماً من الوطن والمنفى لأنه عندما لا يكون هنا فهو ليس هناك أيضاً ؟
مات جدي كمداً وهو يرى الآخرين يعيشون حياته. مات وهو يتأمل الأرض التي سقاها يوماً دموع جسده وهو ينتوي أن يخلفها لأولاده من بعده. رائحة الجغرافيا المهشمة فوق حطام الزمان قتلته، فحق العودة من رصيف على شارع إلى رصيف على شارع آخر يقتضي ألفي سنة من الغياب؛ هذا هو الشرط كي تنتسب الأسطورة إلى الحداثة.
بالنسبة لي، سعيت نحو التآخي بين الشعوب، عبر حوار مفتوح في غرفة السجن مع سجّان لا يتخلى عن قناعته بغيابي.

- من تحرس إذاً ؟
- نفسي القلقة.
- ما الذي يقلقك أيها السيد الطيب ؟
- شبح يطاردني ويصبح أكثر حضوراً في كل مرة أنتصر بها عليه.
- لا شك بأن الشبح هو آثار الضحية على الأرض.
- ليس هناك من ضحايا غيري، أنا هو الضحية.
- ولكنك القوي القادر والسجّان. لماذا إذاً تنازع الضحية المكان؟
- كي أبرّر أفعالي ... كي أكون على حق دائماً. كي أصل مرتبة القداسة وكي أفرّ من النوم.
- لماذا تسجنني إذاً ؟ هل تظن بانني الشبح ؟
- ليس بالضبط، ولكنك تحمل اسمه ...

لعل الشعر مثل الحلم، لا يكذب ولكنه لا يقول الحقيقة. لعل الشعر، هذا الجنون الذي يشير إلى العناصر الأولية، ليس إلا ذاكرة الأسماء. لعله ليس لعبة بريئة إلا للذي يضع وجوده في المتراس خلف المكان المصادر والذاكرة المصادرة والتاريخ والأسطورة. لا، الشعر ليس لعبة بريئة لأنه يدل على كائن يجب ألا يكون موجوداً، ولكن المنفى يكبر أيضاً مثل الأعشاب البرية في ظل أشجار الزيتون. على العصفور إذاً أن يحقق اللقاء بين السماء البعيدة وأرض طردت منها فضائلها السماوية. نادرة هي البقاع التي تتمتع بوفر في الجمال كذلك الذي تبوح به أرضنا، أرضنا غير القادرة على إحداث القطيعة الضرورية بين الحقيقة والأسطورة. ليس من حجر هنا، ليس من شجرة لا تحكي تاريخ المواجهة بين المكان والزمن، وإحساسي بعدم رسوخ قدم الغريب يتزايد كلما تزايد الجمال ورسخت قدمه وكنت أنا الحاضر والغائب؛ نصف مواطن ولاجيء كامل.
أبذر شوارع حيفا على خاصرة الكرمل بين الأرض والبحر وأتشوق لحرية لا تتيحها لي سوى القصيدة التي سوف يسجنوني من أجلها.

عشر سنوات ... عشر سنوات لا أستطيع بها الخروج من حيفا. ومنذ سنة 1967، منذ أن اتسعت رقعة الاحتلال الاسرائيلي أكثر، فرضوا علي عدم مبارحة غرفتي من غروب الشمس حتى مشرقها، وتسجيل حضوري في قسم الشرطة كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر.

صادروا ليالي ولم يبقوا بها من خصوصية. كانت الشرطة تقرع بابي في أي وقت تريد كي تتأكد من تواجدي في البيت. لكني لم أكن حاضراً، لقد كنت مجبراً حقاً أن أمضي تدريجياً إلى المنفى منذ أن تداخلت حدود الوطن والغياب في ضباب الشعور. كنت أعلم بأن اللغة قادرة على أن تبني ما تهدم وأن تجمع ما تفرق. وليس من شك بأن "هنا" الشعر، في مرحلة نضجها بين الأفق والسلاسل، كانت بحاجة لتوسيع البعيد.

المسافة بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي لم تكن مرئية. كانت جزءاً من الصورة عندما كان معنى الوطن أصغر من حجمه. وفي المنفى الخارجي استوعبت كم كنت قريباً من البعيد، كم كان "هناك" "هنا".

لم يعد ثمة شيء فردي، فكل شيء يشير إلى المجموع وليس هناك من مجموع، فكل شيء ينحو نحو الحميمية. امتدت رحلتي على طرقات متعددة حملتها على أكتافي مراراً، وهويتي الممنوعة التي تمردت على أي تقليص "للمنفى والعودة" ،كانت في أزمة. لم نعد نعلم من منا الذي هاجر، نحن أم الوطن. والوطن الذي اختار مسكنه فينا رأى صورته تتطور مع نضوج عكسه الذي يخاصمه. كل شيء يُفسّر بعكسه، والنرجس المجروح سوف ينبت بكثرة وعفوية فوق جوانب الطريق.
أخذت اللغة مكان الحقيقة، ورحلت القصيدة في البحث عن أسطورتها عبر تراث الإنسانية، واندمج "المنفى" في أدب التيه، لا ليعطي نار المأساة الشخصية مشروعية ولكن كي يلحق بالإنساني. وهنا لاحقنا الإسرائيليون بزعمهم أنهم وحدهم المنفيون العائدون بينما الفلسطينيون الذين لاقوا مزابل الأرض العربية لا يعانون من منفى. هكذا حُرمت الضحية مرة أخرى من اسمها.

كانت الضحية الوحيدة تمتلك حق خلق ضحيتها الخاصة وأوجد المنفىّ الوحيد منفيّه الخاص.
سوف أجد الفرصة بعد ربع قرن كي أشاهد جزءاً من وطني. غزّة التي لا أعرفها إلا من خلال قصائد "معين بسيسو" الذي صنع منها جنته.
الطريق التي توصل إلى غزّة عبر الصحراء تُغرق المسافر في وحدة لا يقطعها بين الفينة والفينة إلا بعض النباتات الصحراوية، وشجر النخيل الملتهب، ونصب تذكاري مصنوع من هيكل دبّابة، والبحر عن يسارك.

أحاسيسي في ذلك اليوم تنقلت بين البرود العقلاني والارتباك الذي يدرك الفرق بين الطريق وبين هدف الطريق. في العريش أصبح النخل بستاناً على حين غرة، فعرفت بأنني أقترب من هذا المجهول الذي تمنيت أن يبقى مجهولاً. حينها بدأ قلبي يفلت من عقلي وقلت: لنسارع، لنسارع كي نصل قبل المغيب.

- صبراً، صبراً ... أجابني وزير الثقافة ورفيقي في الرحلة. صبراً، الوطن على قاب قوسين أو أدنى، والوطن ليس شيئاً غير خفق فؤادك وتوجساتك.

قلت: لعله ليس إلا هذه الليلة التي يحضّر فيها الحلم نفسه كي يتحقق .

لا أحلم بشيء. هنا تبدأ فلسطين الجديدة. حاجز إسرائيلي، سيارة "جيب" عسكرية، علم وجندي يسأل السائق بعربية رخوة: من تقلّ؟
- وزير وشاعر.

أحاذر أن أنظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرحة العائدين. كشافات المستوطنات الضوئية واستحكامات الجنود على جانبي الطريق تحرقني، وعندما أعلن عن دهشتي للبتر الجغرافي والخلط الذي يعتور صورة المكان، ينتظر تساؤلاتي جواب حاضر جاهز يقول: غزة وأريحا أولاً، نحن ما زلنا في أول الطريق، في بداية الأمل.

لم يكن مسموحاً لي أن أذهب إلى أريحا، فهل كان لي أن أحلم برؤية الجليل، هويتي الشخصية، من جديد ؟
- "يشترط الإسرائيليون عليك لزيارة الجليل شروطاً أخجل من أن أذكرها لك"
هذا ما قاله لي صديقي الكاتب " إميل حبيبي " الذي لم يكن يعلم بأنه سوف يقضي بعد سنتين، وبأن دفنه سوف يعطيني فرصة حزينة لفرحة قصيرة في ربوع فلسطين. يومها أعطوني تصريحاً بالإقامة ثلاثة أيام كي أؤبن صديقي الراحل وألاقي بيت أمي. يومها أكلتني نار العودة وقلت: من هنا خرجت وإلى هنا أعود. ثم رأيت كيف يستطيع الإنسان أن يولد مرة ثانية، وكان المكان قصيدتي.

لم يكن ينقصني شيئاً في نوبة هذه الولادة الجديدة كي أحقق موتي الموعود. ولكني كنت أعلم بأن الحقيقة التي تعرّت من الأسطورة ما تزال بحاجة للماضي وبأن التحرر من الأسطورة ما يزال بحاجة للمستقبل. أما الحاضر فلم يكن إلا زيارة قصيرة يعود بعدها الزائر كي يرحل نحو توازنه الصعب بين منفى مكره عليه ووطن بأمس الحاجة إليه. هنا لا يعارض المنفى الوطن، ولا يكون الوطن عكس المنفى.

لم أعد بعد، والطريق لما تنته بعد كي أعلن عن بداية الرحلة ....

________________________
- المصدر: مقال كتبه الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" لمجلة
GEO الفرنسية. عدد 243 أيارمايو

أم محمود درويش تتحدث لـ الشرق الاوسط عن ابنها الأغلى وتغنيه شعراً


تحولت قصيدة «أحنّ إلى خبز أمي» التي كتبها محمود درويش من وراء قضبان سجنه الإسرائيلي عام 1965 إلى واحدة من أشهر القصائد العربية الحديثة، بعد أن غناها مارسيل خليفة ورددها ملايين العرب من المحيط إلى الخليج. وبسبب شهرة هذه القصيدة بات الجميع يسأل عن والدة محمود درويش وأخبارها، في ما يكتفي الشاعر الخفر بطمأنة قرائه على حال ملهمته، بكلمات مقتضبة. «الشرق الأوسط» زارت هذه الوالدة التسعينية في بيتها، وحاورتها بعد أربعين سنة من الصمت.
قطعت والدة محمود درويش، على نفسها وعداً بالصمت دام أربعين سنة، رفضت خلالها اجراء أي حديث صحافي. لكنها وافقت بعد محاولات، على التحدث الينا، شارحة: «شو بدي احكيلك. ما ضل عندي نِفْس للحكي. طلعة محمود مش هوينة عليّ؟ الله بيعلم، بشكي أمري لله. نصيبه انه يعيش بهديك البلاد. 37 سنة في الغربة»، تقول بصوتها الهادئ تارة والغاضب تارة أخرى.
بلغت التسعين من العمر. الزمن بأحداثه الدراماتيكية حفر أخاديد على وجنتيها وترك اثره بعض الشيء على صحتها. لكنها مثل الصبايا تصر بعناد على استقلاليتها والاعتماد على نفسها، ترفض بشدة اية مساعدة قد يعرضها ابناؤها او بناتها. تعيش في بيت مستقل، بناءً على رغبتها، في قرية «جديدة الجليلية» الى جانب بيوت اولادها. عندما وصلنا للقائها كانت «مشمرة» ثيابها، وقد انهت للتو أعمالها المنزلية، في يوم شتائي مشمس. أردنا مقابلتها لنتعرف على الجانب الانساني من شخصية ابنها محمود، أو لنتعرف عليها كأم لشاعر كبير، لا بد كان لها دور كبير في بناء شخصيته، فوجدنا أنفسنا إزاء أم صبور، شاعرة ومربية لجيل من المبدعين. ما زالت تتمتع بذاكرة خصيبة، وتسهب في الحديث عن «محمود الغالي»، هكذا تصفه، «كل عمره يحب الحرية. الدنيا ما كانت واسعته. ترك البيت وهو في الثأمنة عشرة من العمر ليسكن في حيفا. اسرائيل منعته من مغادرة حيفا من مغيب الشمس حتى شروقها، لكنه ما قاطعني. كان يصل إلي في النهار، يقول لي: يما جاي بس أشوفك. دقائق معدودة ويرجع لحيفا. بعدين ما تحمل العيشة هون. ترك من دون ما يخبرنا انه رايح ومش راجع. عرفنا بعدين من الاذاعة ان جمال عبد الناصر استقبله في مصر».
تكلمت بألم شديد، كما لو ان محمود غادرها للتو. فالحديث عن هذا الغياب يحرك فيها جرحا نازفا. فنضطر الى الانتقال لموضوع آخر، عنها هي. ونكتشف انها تجيد الغناء الفلكلوري وتؤلف الكثير منه. سنوات طويلة رددت الأغاني في الأفراح العائلية، وفي كل عرس كانت هناك أبيات، تخصصها لمحمود. تروي لنا انه في حفل زفاف حفيدها البكر اتصل محمود ليهنئهم، وصادف ذلك وقت الزفة، فتركت خط الهاتف مفتوحاً، لتغني له على مسمعه ومسمع الحاضرين:
«محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكّة يا قمر ضاوي ع الدرب
اطلع ع الخطاب يا قوي القلب
أضرب بسيفك وعليّ مشانق ع الدرب».
«في كل عرس بغني له وفي كل مناسبة نبكي لأنه مش معنا» تضيف. ولكي تنقشع غيمة الحزن، تغير ابنتها وكنتاها اللواتي حضرن اللقاء، الموضوع قائلات: «هل عرفت الآن من أين موهبة الشعر التي يمتلكها محمود؟ انها من والدته. وعندما نسألها من أين تعرف كل هذا فتجيب مازحة: «من حليب أمي».
محمود هو الثاني بين ثمانية أشقاء. اخوه البكر أحمد، يكتب القصة والشعر، والأصغر منه زكي يكتب القصة. الاثنان يحظيان باحترام كبير في الساحة الأدبية المحلية. والشقيق الأصغر، نصوحي، نشر عدة خواطر ونظم عدة قصائد. عائلة حميمية، لكن غياب محمود عنها يترك آلاما شديدة لديها خاصة وانه يحتاج في كل مرة الى تصريح من اسرائيل لزيارتها. فالشاعر الذي يستطيع ان يلف العالم، لا يمكنه عبور الحاجز العسكري من رام الله، ليصل الى والدته وأشقائه في الجليل.
زيارته الاولى الى عائلته جاءت بعد 28 عاماً من قراره مغادرة الوطن والانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. حضوره جاء بعد اتفاقيات اوسلو، وكان بمثابة عرس حضره آلاف من فلسطيني 48. بعدها كل المحاولات للحصول على تصريح لمحمود فشلت، لكن الموافقة جاءت أخيرا بعد ست سنوات من زيارته الاولى بسبب مرض شقيقه، وقد اضطرت العائلة الى ارفاق تقارير طبية من المستشفى الذي يعالج فيه ابنهم مع طلب التصريح بالزيارة.
لكن كيف تعيش العائلة شهرة ابنها؟ الشقيق الأكبر أحمد يجيبنا: «نحن اناس عاديون. اسم محمود يؤثر علينا، لكن ليس بالشكل الذي يتوقعه الناس. نحن عائلة طبيعتها الخجل والتواضع. فأنا وشقيقي زكي نكتب الأدب لكننا لا نبحث عن الأضواء. كنت مدير المدرسة الثانوية في جديدة لسنوات طويلة، اصدرت كتابين، وقريباً سيصدر لي ثالث عن خروجنا من «البروة»، لكن عندما أعّرف بنفسي أكتفي بلقب المربي. هكذا ايضاً اخي زكي».
لم توجه والدة محمود درويش كلمة عتاب واحدة له، فهي مؤمنة ان هذه مشيئة الله: «الذي يعلم بحالي.. ع العيد والله بسكر قلبي، بصير مثل الفحمة. لأنه شو هالعيد اللي ما منشوف فيه ولادنا؟ فمحمود لم يكن معنا 70 عيداً». عندما تطلق سجيتها للحديث عنه لا تذكره إلا بالخير، تتكلم عن جرأته وحبه لوطنه ورفضه للظلم، عن اعتزازها به: «أنا لمن بشوف قديش ناس بتحبو برفع راسي فيه». وتخبرنا الأم أن بذور الشعر عند محمود ظهرت وهو في العاشرة. فعندما حضر الى قرية دير الأسد، وفد من ضباط الجيش الاسرائيلي، وفي مقدمتهم الحاكم العسكري «يتفقدون أمر الرعية»، ويتفحصون مدى اخلاصها للدولة العبرية، كالعادة، استقبلهم المختار بالترحاب والنفاق ومعه مجموعة من شعراء الزجل الذين رحبوا بحضرة القائمقام قائلين: «احنا بحضرة القائمقام زدنا عدالة».
الفتى محمود كان واقفاً يراقب الحدث، لكنه لم يسكت ورد على الزجال من بين الجموع، بكلمات على نفس البحر والقافية قائلاً: «احنا بحضرة القائم مقام زدنا همالة». وقعت هذه الكلمات كالصاعقة، وبدا المختار محرجاً أمام الحضور، مبرراً لهم: «هذا الفتى ليس من قريتنا انما هو لاجئ»، وأمر بجلبه حتى يعتذر. لكن الحاكم العسكري استخدم ذكاءه واعترض، فيما كان الصغير محمود يفر من المكان، وقد غمره الأهل بالحب والإعجاب، واصبح أشهر فتى في المنطقة. لكن ما فعله محمود، كلف والده الفصل من عمله، في وقت كان ايجاد عمل فرصة نادرة.
عندما يحدثنا الابن البكر للعائلة أحمد درويش عن والدته، يذكر بأن لها شخصية قوية جداً «لكنها اصبحت تحترف الحزن منذ أن هجرنا قريتنا «البروة ». فهناك العائلة كانت ميسورة. التشرد والخروج لم يكن سهلاً عليها، وقد ترك في نفسها جرحا عميقا. اضافة الى ذلك فان اثنين من ابنائها يعيشان في الغربة وهي بشوق دائم لهما. اما هي فعندما تحدثنا عن «البروة»، تتحدث بغضب، ملقية باللوم على القيادات التي كانت السبب. عندما سالناها هل تزورين «البروة»؟ أجابت بنفس الحدة: «ولا بدي ازورها. اللي قدنا ميت مرة نسيوها. راحت البيوت وراحت الأرض وما حدا طلع بايده اشي. ناس بقيت وناس تشردت وماتت غريبة بلاد. حدا بغدر يفوت ينقب بيت عشب من ارضه هناك؟ واليهود بيعمروا فيها بيوت. لو انا بقينا مش كان أحسن؟ كان بعدنا قاعدين ببيوتنا وباراضينا».
أم أحمد ما زالت مشردة عن قريتها، تعيش مع أولادها في قرية جديدة القريبة. بيتها يقع على طرف البلدة، بمحاذاة الشارع الرئيسي، وكأنا بها تقف على قارعة الطريق تنتظر العودة الى البروة. بيت متواضع وأنيق. حوله قطعة أرض مرعية بعناية شديدة. رغم مسحة الحزن التي لا تفارق أم أحمد، كانت آثار الفرحة التي غمرتها في عيد الأضحى الأخير، بادية على محياها. فقد زارها محمود، بعد غياب زاد عن خمس سنوات. السلطات الاسرائيلية سمحت له بذلك.
«محمود انهى المدرسة الثانوية في دير الأسد وراح سكن بحيفا «تقول والدته. «هاي رغبته، وما بيطلع بايدي اشي». في حيفا مارس نشاطه الوطني والسياسي الذي كلفه السجن والتعذيب عدة مرات، وفرض الاقامة الاجبارية وزيارات الشرطة الليلية، التي انجبت المزيد من القصائد التي طبعت في أذهان الكثيرين وكانت انطلاقته كأحد أبرز شعراء المقاومة. عندما تلتقي والدته، من السهل عليك ان تعرف، لماذا كتب لها محمود قصيدته الشهيرة «أحنّ الى خبز أمي» من داخل جدران سجنه سنة 1965. وهنا تروي لنا ام احمد كيف تصرف محمود في احدى المرات، حين حضر رجال الشرطة لاعتقاله في ساعات الصباح الباكر. عندما طلبوا منه مرافقتهم قال لهم: لا استطيع قبل ان اشرب القهوة واستحم فعليكم الانتظار. وهكذا كان.
ولد محمود درويش وثلاثة من اخوته في قرية «البروة». ويوم اقترب الجيش الاسرائيلي من القرية طلبت القيادة العربية من السكان المغادرة لفترة قصيرة، بينما تقضي على الكيان اليهودي الغريب. وبدأت رحلة العذاب والتشرد. توجهت العائلة مع اولادها، أكبرهم ست سنوات واصغرهم 4 أشهر، بينهم محمود، لتعبر الحدود وتصل الى قرية «رميش» في لبنان وواصلوا الطريق مشياً الى «بنت جبيل» حتى حطت العائلة في «جزين». بعد سنة من المحاولات نجحت العائلة في العودة الى فلسطين، فوجدوا بلدتهم وقد افرغت من سكانها. الأمر الذي اضطرهم للعيش في دير الأسد 15 عاماً. بعدها استقرت العائلة في قرية «جديدة» على بعد كيلومترات من القرية الأم التي بني فوق اراضيها كيبوتس «احيهود» ليمحي اسم «البروة» عن الخريطة.
الأخ أحمد يحدثنا ان محمود نظم الشعر والقاه وهو في الابتدائية، احدى قصائدة كانت عن معلمه للغة العربية، الشاعر المرحوم شكيب جهشان. أحمد يعزو ذلك الى اهتمام عائلة والديه قبل 48 بما يدور في المنطقة. «جدي لوالدي كان عنده مضافة في «البروة» يحضر اليها الكثير من الناس، يتحدثون في السياسة والصراع اليهودي ـ العربي. وجدي لأمي كان زعيماً في الدامون له مكانته. لقد نشأنا في بيئة مختلفة. كل الوقت كان جدي يحثنا على قراءة الصحف والمطالعة، ربما هذا احد أسباب ميولنا الثقافية».
* قصيدة درويش عن أمه
أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي!
خذيني، إذا عدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي .. بخصلة شَعر ..
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبكْ ..
عساني أصيرُ إلهًا
إلهًا أصيرُ ..
إذا ما لمستُ قرارة قلبك !
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقودًا بتنور ناركْ ..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدتُ الوقوفََ
بدون صلاة نهارك
هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشارك
صغار العصافير
درب الرجوع .. لعُش انتظارِك !
نقلا عن موقع جريدة الشرق الاوسط

2006-05-29

سنة محمود درويش في فرنسا شعراً وموسيقى

طوال سنة، بدءاً من فصل الشتاء وانتهاء بالخريف المقبل تحيي باريس ومدينة الهافر الفرنسية احتفالاً بالشاعر محمود درويش بعنوان "فصل شعري"، وقد بدأ قبل أيام. والاحتفال تنظمه ثلاث مؤسسات: إذاعة "فرانس كولتور" ودار "أكت سود" ومجلة "Les Inrockuptibles".

الليلة الأولى كانت في مدينة الهافر عبارة عن قراءة شعرية في مسرح "لو فولكان" بين محمود درويش والممثل ديديان ساندر، بالعربية والفرنسية، وبثتها إذاعة "فرانس كولتوV" مباشرة. وامتلأت القاعة التي تتسع لـ 1200 شخص بجمهور فرنسي أصغى الى قصائد درويش بالصوتين العربي والفرنسي.

الليلة الثانية كان عنوانها "ليل بابل الشعري" وشارك فيها نحو ستين شخصاً من الجمهور قرأوا قصائد مترجمة لمحمود درويش وقصائد لشعراء سمّاهم درويش نفسه وهم الأقرب الى قلبه ومنهم: سان جون بيرس، يانيس ريتسوس، بابلو نيرودا، أوجينيو مونتالي،وليم بتلر ييتس وفدريكو غارسيا لوركا. وقرئت قصائد هؤلاء الشعراء بلغاتهم الأم. وقدّم بعض الحاضرين قصائد كتبوها للمناسبة، مهداة الى الشاعر درويش. وقدم البعض أغنيات ومقطوعات موسيقية. وامتدت الأمسية من السابعة مساء الى الثانية عشرة ليلاً. وتخلل الأمسية حفل موسيقي أحياه موريس المديوني.

وتكررت الأمسية نفسها في الليلة الثالثة وأدت المغنية دومنيك دوفال قصيدة "أحد عشر كوكباً" بالفرنسية على موسيقى الجاز التي وضعها فيليب لا كاريير.

أما في باريس فأحيا درويش أمسية في "ريد هول" في جامعة كاليفورنيا - باريس وقرأ بالمشاركة مع الممثل ديديان ساندر مختارات من شعره بالعربية والفرنسية. وأعقب القراءات حوار مفتوح مع الجمهور.

وفي أيار (مايو) المقبل تقدم قصيدة "جدارية" في عرض مسرحي من إخراج وسام أرباش مع ممثلين فرنسيين في مسرح "لوفولكان" (الهافر) ثم تنتقل الى باريس لتقدم على الأرجح في مسرح "الأوديون".

وتقام خلال الشهر نفسه أمسيات شعرية أخرى عنوان إحداها "شاعر طروادي" وهي تنطلق من قصائد للشاعر درويش بالفرنسية يخرجها ألان ميليانتي. ومن الأمسيات واحدة بعنوان "يطير الحمام ويحطّ الحمام" مع مقاطع من "نشيد الأناشيد"، مع موسيقى وضعها الموسيقار رودولف بيرغر. وتغني خلال الأمسية دومنيك دوفال قصيدة "خطبة الهندي الأحمر الأخيرة".

وتتوالى الأمسيات لاحقاً خلال الخريف المقبل ومنها: أمسية موسيقية يحييها الفنان مارسيل خليفة ويقدم فيها مقطوعات مستوحاة من شعر درويش في مناسبة مرور ثلاثين سنة على التجربة المشتركة بين الشاعر والموسيقار المغني، أمسية يقرأ فيها درويش قصائد للشاعر العربي الكبير المتنبي بالعربية ويرافقه ممثل يقرأ القصائد نفسها بالفرنسية، أمسية يحييها "الثلاثي جبران" وهي فرقة فلسطينية شهيرة، وأمسية للمغنية المغربية عائشة رضوان.

وفي مناسبة صدور ديوان "لا تعتذر عمّا فعلت" لدرويش بالفرنسية عن دار "أكت سود" في ترجمة الياس صنبر احتفى الإعلام بالشاعر وكتبت عن الديوان مقالات عدة. وأجرت مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتوار" حواراً معه وكذلك صحيفة "لوموند" مخصصة له صفحة كاملة في العدد المزدوج الأحد - الاثنين الفائتين.

هنا مقتطفات من حوار درويش مع "لوموند"وقد أجرته سيلفان سيبيل.

عن رأيه في مسألة الرسوم الكاريكاتورية التي نشرتها إحدى الصحف الدنماركية يقول: "هذا جنون يملأني أسى. في البداية، كاريكاتور النبي محمّد (صلى الله عليه وسلم) وعلى رأسه قنبلة عوضاً عن العمامة أمر مهين. يجب حماية حرية الصحافة ولكن ليس حقّ الإهانة. إذ لا يمكن إهانة معتقدات الآخرين بلا طائل. ففي فرنسا، الصحافة حرة، ولكن توجد قوانين تعاقب التعبير العلني عن العنصرية. وفي الجو العالمي الخانق الذي نعيش فيه، يجب احترام رفض المسلمين لرسم تصوّرات للنبي محمد. وفي الوقت عينه، المشكلة هي أنّ الرأي العربي والمسلم لا يشكّل فرقاً بين الشعوب في تنوّعها والحكومات. فهو يرى كلّ شيء في كتلة واحدة. والتحجّج برسم لحرق السفارات جنون أيضاً. فمن الجهتين، تتنافس قوى لمفاقمة صدام الهويّات. سيمرّ ذلك يوماً ما، إنها مرحلة موقتة. لكن بانتظار ذلك، تسيطر هذه القوى".

وعن قضية "حماس" التي وصلت الى السلطة يقول: "لنقرّ أولاً أن تغيير نظام الحكم جرى في طريقة ديموقراطية جداً. وهذا أمر إيجابي في العادات السياسية في المجتمع الفلسطيني. وبحلول ذلك، تحمّل إسرائيل مسؤولية كبيرة. فقد نشرت مناخاً من عدم الشرعية للسلطة الفلسطينية مهدّ الطريق لـ "حماس". فضلاً عن سياستها التي تجعل الحياة الفلسطينية اليومية غير ممكنة. وساهم تجاهل السلطة في توليد مناخ ضار، ما دفع بالكثيرين إلى التفكير قائلين: "لماذا لا نجرّب طريقاً أخرى؟ لا يمكن أن يكون الوضع أسوأ." كان التصويت لـ "حماس" اعتراضياً بقدر ما كان دينياً. والآن علينا العيش مع هذه التجربة. ولكن لا يمكنني إخفاء مخاوفي، فقد أعلن مسؤولون من "حماس" عن نيّتهم في "إعادة تشكيل المجتمع على قاعدة إسلامية." حين ندافع عن فلسطين علمانية تعددية، لا يمكننا أن نقلق سوى في شأن حقوق المرأة والشباب والحريات الفردية، من دون أن ننسى المكّون المسيحي. آمل أن تنظّم حماس القاعدة التي أوصلتها إلى السلطة وتحترمها، هذه القاعدة التي كانت دوافعها بالإجمال اعتراضية. من ناحية أخرى، سيخدم ذلك كتبرير لأحاديتهم. ولكن إن نووا الحفاظ على مجموعات مستوطناتهم وإعطاءنا بعض القرى كرماً منهم، فهذا يعني أنّهم لا يريدون السلام. وهذا لن ينفع، إلى أن يستوعبوا الواقع: السبيل الوحيد هي بإنهاء الاحتلال".

وعن تردده في التطرّق الى السياسة يقول درويش: "إنّني أعيش في الحيرة. لا أرفض الكلام في السياسة، ولكن أرفض كل التأكيدات في حاضر مضطرب إلى هذا الحدّ. فأنا لست أكيداً من نظرتي الخاصة. أنا أدمج التعقيد في عملي كشاعر، فكلّ شاعر أو حتى كل كاتب من العالم الثالث يقول إنّه لا يهتمّ بالمجتمع أو السياسة هو كاذب. لست كاذباً حتى الآن. أما للفلسطينيين فالسياسة أمر وجودي، لكن الشعر أكثر حنكة، إذ يسمح بالدوران بين احتمالات عدة. فهو يرتكز على الاستعارة والإيقاع والاهتمام بالرؤية خلف المظاهر. لكن الشعراء لا يديرون العالم، وهذا أفضل، فالفوضى التي يدخلونها قد تكون أسوأ من فوضى السياسيين".

وتسأله: "في كتابكم الأخير الذي ظهر بالفرنسية، تكتب: "أنا ما سأكون عليه غداً". هذا شعر مفاجئ من شاعر يعتمد عدم التغيّر"، ويرد: "على العكس، فالحاضر يخنقنا ويمزّق الهويّات. لهذا لن أجد نفسي الحقيقية قبل الغد، حين أتمكّن من قول شيء آخر أو كتابته. فالهوية ليست إرثاً بل تكوين. فهي تكوّننا ونكوّنها باستمرار، ولن نعرفها إلاّ غداً. أنا هويّتي متعدّدة ومختلفة. أنا غائب اليوم وسأكون حاضراً غداً. أحاول تنمية الأمل كما ننمّي الطفل، لكي أكون ما أريده وليس ما يريدونني أن أكون"

الحياة

16/02/06



نقلا عن موقع جهة الشعر

2006-05-28

أربعة عناوين شخصية

( 1 ) متر مربع في السجن

هو البابُ، ما خلفه جنَّةُ القلب. أشياؤنا

- كُلُّ شيء لنا - تتماهى. وبابٌ هو الباب،

بابُ الكنايةِ، باب الحكاية. بابٌ يُهذِّب أيلولَ.

بابٌ يعيد الحقولَ إلى أوَّل القمحِ.

لا بابَ للبابِ لكنني أستطيع الدخول إلى خارجي

عاشقًا ما أراهُ وما لا أراهُ.

أفي الأرض هذا الدلالُ وهذا الجمالُ ولا بابَ للبابِ?

زنزانتي لا تضيء سوى داخلي..

وسلامٌ عليَّ، سلامٌ على حائط الصوتِ.

ألَّفْتُ عشرَ قصائدَ في مدْح حريتي ههنا أو هناك.

أُحبُّ فُتاتَ السماءِ التي تتسلل من كُوَّة السجن مترًا من الضوء تسبح فيه الخيول،

وأشياءَ أمِّي الصغيرة..

رائحةَ البُنِّ في ثوبها حين تفتح باب النهار لسرب الدجاجِ.

أُحبُّ الطبيعةَ بين الخريفِ وبين الشتاءِ،

وأبناءَ سجَّانِنا، والمجلاَّت فوق الرصيف البعيدِ.

وألَّفْتُ عشرين أُغنيةً في هجاء المكان الذي لا مكان لنا فيهِ.

حُرّيتي: أن أكونَ كما لا يريدون لي أن أكونَ.

وحريتي: أنْ أوسِّع زنزانتي: أن أُواصل أغنيةَ البابِ:

بابٌ هو البابُ: لا بابَ للبابِ

لكنني أستطيع الخروج إلى داخلي، إلخ.. إلخ..

( 2 ) مقعدٌ في قطار

مناديلُ ليست لنا.

عاشقاتُ الثواني الأخيرةِ.

ضوءُ المحطة.

وردٌ يُضَلِّل قلبًا يُفَتِّش عن معطفٍ للحنانِ.

دموعٌ تخونُ الرصيفَ. أساطيرُ ليست لنا.

من هنا سافروا، هل لنا من هناك لنفرحَ عند الوصول?

زنابقُ ليست لنا كي نُقَبِّل خط الحديد.

نسافر بحثًا عن الصِّفْر

لكننا لا نحبُّ القطارات حين تكون المحطات منفى جديدًا.

مصابيحُ ليستْ لنا كي نرى حُبَّنا واقفًا في انتظار الدخانِ.

قطارٌ سريعٌ يَقُصُّ البحيراتِ.

في كُل جيبٍ مفاتيحُ بيتٍ وصورةُ عائلةٍ.

كُلُّ أهلِ القطارِ يعودون للأهلِ، لكننا لا نعودُ إلى أي بيتٍ.

نسافرُ بحثًا عن الصفرْ كي نستعيد صواب الفراش.

نوافذُ ليستْ لنا، والسلامُ علينا بكُلِّ اللغات.

تُرى، كانت الأرضُ أوضحَ حين ركبنا الخيولَ القديمةَ?

أين الخيول، وأين عذارى الأغاني، وأين أغاني الطبيعة فينا?

بعيدٌ أنا عن بعيديَ.

ما أبعد الحبّ! تصطادنا الفتياتُ السريعاتُ مثل لصوصِ البضائعِ.

ننسى العناوين فوقَ زجاج القطاراتِ.

نحن الذين نحبُّ لعشر دقائقَ لا نستطيع الرجوعَ إلى أي بيتٍ دخلناه.

لا نستطيع عبور الصدى مرتين.

( 3 ) حجرة العناية الفائقة

تدورُ بيَ الريحُ حين تضيقُ بيَ الأرضُ.

لا بُدَّ لي أن أطيرَ وأن ألجُمَ الريحَ،

لكنني آدميٌّ.. شعرتُ بمليون نايٍ يُمَزِّقُ صدري.

تصبَّبْتُ ثلجًا وشاهدتُ قبري على راحتيَّ.

تبعثرتُ فوق السرير.

تقيَّأتُ.

غبتُ قليلاً عن الوعي.

متُّ.

وصحتُ قبيل الوفاة القصيرةِ:

إني أحبُّكِ، هل أدخل الموت من قدميكِ?

ومتُّ.. ومتُّ تمامًا،

فما أهدأ الموت لولا بكاؤك!

ما أهدأ الموتَ لولا يداكِ اللتان تدقّان صدري لأرجع من حيث متُّ.

أحبك قبل الوفاةِ، وبعد الوفاةِ،

وبينهما لم أُشاهد سوى وجه أمي.

هو القلب ضلَّ قليلاً وعادَ، سألتُ الحبيبة:

في أيِّ قلبٍ أُصبتُ? فمالتْ عليه وغطَّتْ سؤإلى بدمعتها.

أيها القلب.. يا أيها القلبُ كيف كذبت عليَّ وأوقعتني عن صهيلي?

لدينا كثير من الوقت، يا قلب، فاصمُدْ

ليأتيك من أرض بلقيس هدهدْ.

بعثنا الرسائل.

قطعنا ثلاثين بحرًا وستين ساحلْ

وما زال في العمر وقتٌ لنشرُدْ.

ويا أيها القلب، كيف كذبتَ على فرسٍ لا تملُّ الرياحَ.

تمهَّل لنكملَ هذا العناقَ الأخيرَ ونسجُدْ.

تمهَّل.. تمهَّلْ لأعرفَ إن كنتَ قلبي أم صوتَها وهي تصرخ:

خُذني.

( 4 ) غرفة في فندق

سلامٌ على الحب يوم يجيءُ،

ويوم يموتُ، ويومَ يُغَيِّرُ أصحابَهُ في الفنادِقِ!

هل يخسرُ الحبُّ شيئًا? سنشربُ قهوتنا في مساءِ الحديقةِ.

نروي أحاديثَ غربتنا في العشاءِ.

ونمضي إلى حجْرةٍ كي نتابع بحث الغريبين عن ليلةٍ من حنانٍ، [إلخ.. إلخ..].

سننسى بقايا كلام على مقعدين،

سننسى سجائرنا، ثم يأتي سوانا ليكمل سهرتنا والدخان.

سننسى قليلاً من النوم فوق الوسادة.

يأتي سوانا ويرقد في نومنا، [إلخ.. إلخ..]

كيف كُنَّا نُصَدِّقُ أجسادَنا في الفنادقِ?

كيف نُصَدِّقُ أَسرارنَا في الفنادق?

يأتي سوانا، يُتابع صرختنا في الظلام الذي وَحَّدَ الجسدينْ،

[إلخ.. إلخ..] ولسنا سوى رَقمين ينامان فوقَ السرير

المشاع المشاع، يقولان ما قاله عابرانِ على الحبِّ قبل قليلٍ.

ويأتي الوداعُ سريعًا سريعًا.

أما كان هذا اللقاء سريعًا لننسى الذين يحبوننا في فنادق أخرى?

أما قلتِ هذا الكلام الإباحيَّ يومًا لغيري?

أما قلتُ هذا الكلام الإباحيَّ يومًا لغيرك في فندقٍ آخر أو هنا فوق هذا السريرِ?

سنمشي الخطى ذاتها كي يجيءَ سوانا ويمشي الخطى ذاتها.. [إلخ.. إلخ..].

( * ) من ديوان ( هي أغنية ، هي أغنية ) ، 1986.