2007-01-20

في تأبين الكاتب الراحل اميل حبيبي

الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك‮. ‬ونحن من حولك،‮ ‬رجوع الصدى من أقاصيك إليك‮.‬
الآن لا نأخذك إلى أي‮ ‬منفى،‮ ‬ولا تأخذنا إلى أي‮ ‬وطن‮. ‬ففي‮ ‬هذه الأرض من المعاني‮ ‬والجروح ما‮ ‬يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة،‮ ‬وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد‮.‬
كان لي‮ ‬موعد معك،‮ ‬هنا في‮ ‬ناصرة البشارة والإشارة،‮ ‬فانتعلتُ‮ ‬قلبي‮ ‬وحملت هواجسي‮ ‬في‮ ‬يدي‮: ‬هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟‮! ‬أم سيعلمني‮ ‬السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء‮. ‬كنت العناق البعيد‮. ‬أما كان في‮ ‬وسعي‮ ‬أن أجد الإثنين،‮ ‬دليلي‮ ‬وسبيلي؟‮! ‬أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب‮! ‬على إيقاظ القلب من سكرته‮: ‬لا تحلم بما لا تستحق‮. ‬فليس هذا اللقاء سوى وداع‮.‬
مَــن‮ ‬يودِّع مَــن،‮ ‬أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي‮ ‬هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة،‮ ‬لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين‮. ‬وتعرف أن الذات،‮ ‬لا الموضوع،‮ ‬هي‮ ‬ما‮ ‬يجعل المرء‮ ‬يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي‮ ‬لا تجد ذاتها،‮ ‬إلاّ‮ ‬إذا امتلأت بخارجها‮. ‬وكم كابدت في‮ ‬هذه الرحلة‮. ‬كم كابدت كي‮ ‬تجد الأدب هناك في‮ ‬تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال‮. ‬فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد‮. ‬وحيدًا في‮ ‬زحامك ومزدحمًا في‮ ‬وحدتك‮. ‬ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من‮ ‬غير سوء‮. ‬هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة‮ ‬يجري‮ ‬الحوار بين الواقعي‮ ‬والخرافي،‮ ‬بين الزمني‮ ‬والروحي،‮ ‬بين النسبي‮ ‬والمطلق،‮ ‬بين الزائل والدائم،‮ ‬بين الحق والباطل،‮ ‬بين الحرب والسلام‮. ‬وهنا‮.. ‬هنا البداية وهنا النهاية‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬حيًّا وحيًّا‮.‬
باقٍ‮ ‬في‮ ‬حيفا،‮ ‬هو الإسم الذي‮ ‬سمّــيت به إسمك‮. ‬لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل‮. ‬ولا كي‮ ‬تحدِّد الفارق بين الباقي‮ ‬في‮ ‬منفى هويّته،‮ ‬وبين العائد إلى هويّة منفاه‮. ‬بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار،‮ ‬ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في‮ ‬حاجة إلى تأكيده،‮ ‬إلاّ‮ ‬لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم‮. ‬حين صار في‮ ‬وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر،‮ ‬أن تضع الماضي‮ ‬على مائدة التساؤل،‮ ‬لتملي‮ ‬عليك روايتها‮: ‬حجرًا في‮ ‬مواجهة بشر‮.‬
لم‮ ‬يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي‮ ‬تحفره في‮ ‬قطعة من رخام وفي‮ ‬الذاكرة الجماعية‮:‬
باقٍ‮ ‬حيث ولد في‮ ‬المكان الذي‮ ‬واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة،‮ ‬وبلا قطيعة،‮ ‬بين الأرض وتاريخها ولغتها‮. ‬وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض‮. ‬ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات،‮ ‬لتصبح الأرض التي‮ ‬غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام‮.‬
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي‮ ‬في‮ ‬تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين،‮ ‬بعدما تعرض شعبها الفلسطيني‮ ‬إلى المصير التراجيدي‮ ‬المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية،‮ ‬وحقه في‮ ‬الإستقلال‮. ‬وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة،‮ ‬أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى،‮ ‬الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب‮. ‬السلام القائم على العدل والمساواة ونفي‮ ‬إحتكار الله والأرض،‮ ‬للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين،‮ ‬مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس‮.‬
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق،‮ ‬على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل،‮ ‬باليقين وبالشك معًا،‮ ‬فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا‮ ‬يعبر عن دَينه لك،‮ ‬للطريقة التي‮ ‬حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي‮ ‬والثقافي‮ ‬بين الجنسية والهويّة،‮ ‬بطريقة وحيدة هي‮ ‬البقاء والدفاع عن حقِّهم في‮ ‬المساواة‮. ‬وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية،‮ ‬الوطنية والقومية التي‮ ‬لا وجود لهم بدونها‮.‬
فطوبى لك أيها المعلم الذي‮ ‬جعل الحنين فاكهة،‮ ‬وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول‮.‬
كم أنت‮ ‬يا حبيبي،‮ ‬كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي‮ ‬تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة‮. ‬في‮ ‬كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك‮. ‬وفي‮ ‬كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ‮ ‬يتبّدل قبل أن‮ ‬يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر‮. ‬تاريخ‮ ‬ينقض علينا كقطار عشوائي،‮ ‬فماذا تفعل في‮ ‬انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي‮ ‬بقدر ما كانت حجتك في‮ ‬وجه هذا العبث،‮ ‬وطريقة في‮ ‬اختيار برج للرصد،‮ ‬ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا‮.‬
إذا كنّــا نلعب،‮ ‬فتلك هي‮ ‬شروط اللعبة،‮ ‬لسانًا بلسان،‮ ‬لا طائرة ضد طائر‮. ‬وفي‮ ‬هذه المنطقة أيضًا‮ ‬يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا،‮ ‬ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل،‮ ‬في‮ ‬صحراء الإيقاع الذي‮ ‬لا‮ ‬يتوتَّر إلاّ‮ ‬لينسجم بين السياسي‮ ‬والأدبي‮. ‬لا،‮ ‬لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك‮. ‬تلك كانت حسرتك الأخيرة،‮ ‬أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية‮. ‬فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي‮ ‬وابن ذاتك‮. ‬وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر‮. ‬وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها‮. ‬وفيك من المساحات والأصوات،‮ ‬فيك من تقاطع الطرق وحوادثها،‮ ‬فيك من البطل والضحيّة والشاهد،‮ ‬فيك من الأنا والجماعة والآخر،‮ ‬ما كان‮ ‬يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية،‮ ‬لأنك أنت،‮ ‬أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً‮ ‬واحدًا‮: ‬هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى،‮ ‬وهل هزيمة الأداة هي‮ ‬موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة،‮ ‬الحرية والعدل والسلام،‮ ‬فإن شعبك بأسره،‮ ‬شعبك العربي‮ ‬وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر،‮ ‬وأصدقاءه الأوفياء،‮ ‬أصدقاءك،‮ ‬من قوى السلام في‮ ‬هذه البلاد وفي‮ ‬العالم،‮ ‬يزدادون وفاءً‮ ‬لفكرتك فتلك هي‮ ‬وصية الحُــر للحُــر،‮ ‬وتلك هي‮ ‬هوية وجودنا الإنساني‮ ‬المشترك على أرض المعاني‮ ‬الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية‮. ‬أرض السلام العطشى إلى السلام‮.‬
فانهض معنا‮ ‬يا أبا سلام لنمضي‮ ‬قليلاً‮ ‬معك وإليك،‮ ‬إلى هناك،‮ ‬إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا‮. ‬واغفر لنا‮ ‬يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك‮. ‬إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين‮.‬
حيفا،‮ 3 ‬أيار 1996 ‬
نقلا عن موقع