يحاور الزميل عبده وازن الشاعر محمود درويش في كتابه "محمود درويش الغريب يقع على نفسه"، (دار رياض الريّس) حواراً طويلاً يمهّد له بمقدمة من أربعة فصول تقرأ بعض أعمال الشاعر الجديدة وتحلل عناصرها الشعرية. لا يمكن قراءة أعمال درويش الشعرية الممتدة على نحو أربعين سنة ولا تزال، خارج مسيرته الحياتية مذ خرج من الأراضي المحتلة عام 1971 وحتى عودته اليها بعد إقامة السلطة الفلسطينية، حيث يعيش متنقلاً بين عمان ورام الله. كذلك لا يمكن قراءتها خارج التطور الشعري للقصائد بين مرحلة وأخرى، إيقاعا وتفعيلة ومبنى ومعنى، دون سبر غور التحولات التي طرأت، بناء على مراحل العمر والمكان والزمان، وهذا ما حاول وازن إيضاحه في هذا الحوار. التقط وازن تطوراً في شعر درويش وصفه بالخروج عن التفعيلة في قصائده الحديثة التي حلل بعضها. ولم ينف درويش أسلوبه الإيقاعي الجديد الذي لا يلغي التفعيلة، لكنه يبدّل في استعمالها وفي دورها الإيقاعي باحثاً عن إيقاعات مبتكرة تجسدها كل قصيدة بنفسها. وهو يقول "مفتاحي لكتابة القصيدة هو الإيقاع" و"ابني القصيدة بناء هندسياً كي يكون لها قوام". الإيقاع والتفعيلة والقافية الداخلية تدفع درويش إلى رفض كتابة قصيدة النثر، رغم انها معترف بها عربياً وعالمياً، فهو يكتب النثر خارج القصيدة ولا يكتب قصيدة النثر. كتابة القصيدة عند درويش تعبر من الحدس حيث تتشكل الصور الرؤيوية الغامضة، يرفدها إيقاع يحدد مسار القصيدة "والإيقاع هو الذي يقودني إلى الكتابة، وإذا لم يكن هناك من إيقاع ومهما كانت عندي أفكار او حدوس او صور فهي ما لم تتحول إلى ذبذبات موسيقية لا استطيع ان اكتب". ثم هناك الفكر والتاريخ والمعرفة والواقع التي مجتمعة "تقود عمل القصيدة"، مبنيةً على اللغة. يلتمس وازن انعطافة شعرية في بضع قصائد جديدة لدرويش محللاً مواقع التجديد فيها، مستخلصاً انتقال الشاعر "من شعر القضية إلى قضية الشعر ومن حماسة المقاومة إلى سحر التمرد ومن وهج السياسة إلى غموض السياسي". ان الشاعر المبدع والجماهيري في آن واحد يمكنه ان يتطور مع قرائه، ينتقل معهم من مرحلة إلى أخرى، ليس جميعاً، فالبعض يتوقف عند مرحلة معينة، كما قد يقف الشاعر أيضا عند محطة معينة يراوح شعره فيها فلا يتطور. لكن لا يمكن أن يكون الشاعر جاحداً لجمهور أعطاه الشهرة حين كان التواصل بينهما مطّرداً. خصوصاً القصائد التي تصبح جزءاً من قضية وذاكرة جماعية. ولا يجوز ان يوصف محمود درويش بالجحود لقرائه ومتلقيه - لأنه يرفض كلمة جمهور – لكنه يجحد قصائده الأولى التي كتبها في بداياته بعنوان "عصافير بلا أجنحة" فيسقطها من أعماله. يصفه وازن بأنه شاعر جماهيري ونخبوي في آن واحد، يسعى للارتقاء بجمهوره إلى شعره. يقول درويش: "لا انظر إلى ماضيَّ الشعري برضى، لكنه لما تطور لولا التراكم الشعري الكبير على مدى سنوات طويلة، ان الشعر يتطور بتطور مراحل العمر"، ويضيف: "لو أتيح لي ان احذف لحذفت نصف أعمالي". يكتشف وازن مواءمة بين شعر درويش وشعر نشيد الأناشيد في رسم خريطة الأرض وخريطة الجسد في جمالية تمزج الاثنين معاً، كذلك يستخلص من الكاماسوترا فن العشق في الانتظار، ففيه عمق العاشق الحقيقي ومرتجاه. وينتهي إلى "طوق الحمامة" لإبن حزم الأندلسي مستحضراً "معجزات الحب الإنساني". وبذلك يعبر من أقصى الحدود العربية في الشرق إلى أقصاها في الغرب وما بينهما، حيث تتوسط فلسطين بجسدها الجميل ذاكرته وحياته وحبه الأبدي ومحبوبته المبجلة. وفي هذا الإطار انتقل درويش بالمرأة من تمثيلها الأرض – الأم، أي الصورة الطوباوية للمرأة، إلى صورة الحبيبة الفعلية وليست الشعرية فقط. صورة العشق الوجداني والوجودي في آن. كما يلاحظ وازن ان المنفى مستمر في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة ارض في فلسطين، فوجوده لم يغيّر شعوره بالمنفى المستمر معه من ماضيه إلى مستقبله، "من أنا دون منفى"، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش في غيبوبة تعرض لها يخيفان الشاعر، إنما موته الشعري إذا حصل هو الأقسى، لذلك يواجه الموت الحقيقي بالموت الشعري، أي يواجه الموت الواقعي بالحياة الشعرية. لكن يبدو ان الموت الشعري لا يخيف درويش فهو يواجهه "جاعلاً منه الوجه الآخر للشعر واللغة"، لأن شعره ولد على مراحل وتطور مدى العمر خلافاً لشعر طرفة بن العبد ورامبو. وهنا نطرح سؤالاً يستحق دراسة، هل يستطيع الشاعر ان يكتب بعد الستين؟ كم هم هؤلاء الشعراء؟ ما هي قيمة شعرهم مقارنة بشعر الشباب؟ ان الشعر هو انتماء درويش الاول والأخير، أما اللغة فهي حاضره ومستقبله، ولعل ما أورده وازن عن قصيدة "جدارية" يعكس صورة الشاعر المرحلية، اذ يقول: "ان فيها بعضاً من الملحمية الأليفة او الذاتية. فهي لا تحاور العالم الا عبر الذات ولا تستحضر أشياء الحياة الا عبر الموت. لا جماعة هنا ولا وطن ولا منفى جغرافياً ولا خريطة بل ذات غريبة في عالم غريب "وأنا" مفردة تقاسي العزلة والألم وذاكرة تستعيد الماضي في صور تلتمع كالسراب. السفر هو في الداخل والمنفى في الداخل أيضا. أما العودة التي يطمح اليها الشاعر فهي عودة إلى اللغة "في أقاصي الهديل" وليست عودة إلى "البلد" أو الأهل أو الحبيبة، الإقامة تصبح إقامة في اللغة ويصبح السكن "سكناً شعرياً" كما يقول هايدغر". النهار- 29- 8- 2006 جوزف باسيل |
2006-09-03
محمود درويش كما يرى نفسه وكما يراه عبده وازن
Labels:
حوار
Subscribe to:
Post Comments (Atom)
No comments:
Post a Comment