2006-09-13

شتاء ريتا الطويل

ريتا ترتب ليل غرفتنا : قليل هذا النبيذ

وهذه الأزهار أكبر من سريري

فافتح لها الشباك كي يتعطر الليل الجميل

ضع ههُنا قمراً على الكرسيَّ

ضع فوق البحيرةَ

حول منديلي ليرتفع النخيل أعلى وأعلى

هل لبست سواي ؟ هل سكنتك إمرأةٌ

لتجهش كلما التفّت على جذعي فُروعُكَ ؟

حُكَّ لي قدمي وحُكَّ دَمي لنعرف ما

تخلفه العواصفُ والسُّيولُ

منِّي ومنك ...

تنامُ ريتا في حديقةِ جسمها

توتُ السياجِ على أظافرها يُضيءُ

الملحَ في جسدي . أُ حبُّكِ .

نام عصفوران تحت يديَّ...

نامت موجةُ القمح النبيل على تنفسها البطيء

و وردةُ حمراء نامت في الممر

ونام ليلُ لا يطول

والبحر نام أمام نافذتي على إيقاع ريتا

يعلو ويهبط في أشعة صدرها العاري

فنامي بيني وبينك

لا تغطي عَتمَة الذهب العميقة بيننا

نامي يداً حول الصدى

ويداً تبعثرُ عزلة الغابات

نامي بين القميص الفستقي ومقعد الليمون

نامي فرساً على رايات ليلة عرسها ...

هدأ الصهيلُ

هدأت خلايا النحل في دمنا

فهل كانت هنا ريتا

وهل كنا معا ؟

.... ريتا سترحلُ بعد ساعاتٍ وتتركُ ظلها

زنزانةٌ بيضاء . أين سنلتقي ؟

سألَت يديها ، فالتَفَتُّ إلى البعيد

البحر خلف الباب ، والصحراء خلف البحر

قبلني على شفتي قالت .

قُلتَ : يا ريتا أأرحلُ من جديد

مادام لي عنبٌ وذاكرةٌ ، وتتركني الفصول

بين الإشارة والعبارة هاجسا ً ؟

ماذا تقول ؟

لا شيء يا ريتا ، أقلدُ فارساً في أُغنية

عن لعنة الحب المحاصر بالمرايا ...

عَنّي ؟

وعن حلمين فوق وسادةٍ يتقاطعان ويهربان

فواحدٌ يستل سكيناً وآخرُ يُودعُ الناي الوصايا

لا أدرك المعنى ، تقول

و لا أنا ، لغتي شظايا

كغياب إمرأةٍ عن المعنى ،

وتنتحرُ الخيولُ في آخر الميدان ...

ريتا تحتسي شاي الصباح

وتقشر التفاحة الأولى بعشر زنابقٍ

وتقول لي :

لا تقرأ الآن الجريدة ، فالطبول هي الطبول

والحرب ليست مهنتي . وأنا أنا . هل أنتَ أنتْ ؟

أنا هو

هو من رآكِ غزالةً ترمي لآلئها عليه

هو من رأى شهواتهِ تجري وراءكِ كالغدير

هو من رآنا تائهين توحدا فوق السرير

وتباعدا كتحية الغرباء في الميناء

يأخذنا الرحيل في ريحه ورقاً

أمام فنادق الغرباء

مثل رسائلٍ قرئت على عجل

أتأخُذني معك ؟

فأكون خاتم قلبك الحافي ، أتأخُذني معك

فأكون ثوبك في بلاد أنجبتك ... لتصرعك

وأكون تابوتا من النعناع يحمل مصرعك

وتكون لي حياً وميتاً

ضاع يا ريتا الدليل

والحب مثل الموت وعدٌ لا يرد .. ولا يزولُ

.... ريتا تُعدُّ لي النهار

حجلاً تجمع حول كعب حذائها العالي :

صباحُ الخير يا ريتا

وغيماً أزرقاً للياسمينة تحت إبطيها :

صباحُ الخير يا ريتا

وفاكهةً لضوء الفجر: يا ريتا صباح الخير

يا ريتا أعيديني إلى جسدي لتهدأ لحظةً

إبرُ الصنوبر في دمي المهجور بعدك ِ .

كلما عانقتُ برجَ العاجِ فرت من يديَّ يمامتان ..

قالت : سأرجع عندما تتبدل الأيام والأحلام

يا ريتا طويل هذا الشتاء ، ونحن نحن

فلا تقولي ما أقول أنا هي

هيَ من رأتكَ معلقاً فوق السياج ، فأنزلتك وضمدتك

وبدمعها غسلتك ، انتشرت بسوسنها عليك

ومررت بين سيوف اخوتها ولعنة أمها وأنا هيَ

هل أنتَ أنتْ ؟

... تقوم ريتا عن ركبتي

تزور زينتها ، وتربط شعرها بفراشةٍ فضيةٍ .

ذيل الحصان يُداعبُ النمش المبعثر

كرذاذ ضوءٍ فوق الرخام الأنثوي

تعيد ريتا زر القميص إلى القميص الخردلي ... أأنتَ لي ؟

لَكِ ، لو تركت الباب مفتوحاً على ماضيَّ ،

لي ماضٍ أراه الآن يولدُ في غيابك

من صرير الوقت في مفتاح هذا الباب

لي ماض أراه الآن يجلس قربنا كالطاولة

لي رغوة الصابون

والعسل المملح

والندى

والزنجبيل

ولكَ الأيائل ،إن أردت ، لك الأيائل والسهول

ولك الأغاني ،إن أردت، لك الأغاني والذهول

إني ولدت لكي أحبك

فرساً تُرقِّصُ غابةً ، وتشق في المرجان غيابك

ووُلدتُ سيدةً لسيدها ، فخذني كي أصبك

خمراً نهائياً لأشفي منك فيك ، وهات قلبك

إني ولدت لكي أحبك

وتركت أمي في المزامير القديمة تلعن الدنيا وشعبك

ووجدت حراس المدينة يُطعمون النار حُبك

وإني ولدت لكي أحبك

ريتا تكسر جوز أيامي ، فتتسع الحقول

لي هذه الأرض الصغيرة في غرفة في شارعٍ

في الطابق الأرضي من مبنى على جبلٍ

يطل على هواء البحر . لي قمرٌ نبيذيٌ ولي حجر صقيل

لي حصة من مشهد الموج المسافر في الغيوم ، وحصة

من سِفرِ تكوين البداية و سِفرِ أيوب ، ومن عيد الحصاد

وحصة مما ملكتُ ، وحصة من خبز أمي

لي حصة من سوسن الوديان في أشعار عشاق قدامى

لي حصة من حكمة العشاق : يعشقُ وجهَ قاتلهِ القتيلُ

لو تعبرين النهر يا ريتا

وأين النهر ، قالت ...

قُلتُ فيكِ وفيَّ نهرٌ واحد

وأنا أسيل دماً وذاكرةً أسيلُ

لم يترك الحراس لي باباً لأدخل فاتكأت على الأفق

ونظرت تحت

نظرت فوق

نظرت حول

فلم أجد

أفقاً لأنظر ، لم أجد في الضوء إلا نظرتي

ترتد نحوي . قلت عودي مرةً أخرى إلي ، فقد أرى

أحداً يحاول أن يرى أفقاً يرممه رسول

برسالة من لفظتين صغيرتين : أنا ، وأنتِ

فرحٌ صغيرٌ في سريرٍ ضيقٍ ... فرحٌ ضئيل

لم يقتلونا بعد ، يا ريتا ، ويا ريتا .. ثقيل

هذا الشتاء وبارد

.... ريتا تغني وحدها

لبريد غربتها الشمالي البعيد : تركتُ أمي وحدها

قرب البحيرة وحدها ، تبكي طفولتي البعيدة بعدها

في كل أمسية تنام ضفيرتي الصغيرة عندها

أمي ، كسرت طفولتي وخرجت إمرأةً تُربِّي نهدها

بفم الحبيب . تدور ريتا حول ريتا وحدها :

لا أرض للجسدين في جسد ، ولا منفى لمنفى

في هذه الغرف الصغيرة ، والخروج هو الدخول

عبثا نغني بين هاويتين ، فلنرحل ليتضح السبيل

لا أستطيع ، ولا أنا ، كانت تقول ولا تقول

وتهدئ الأفراس في دمها : أمن أرض بعيدة

تأتي السنونو ، يا غريب ويا حبيب ، إلى حديقتك الوحيدة ؟

خذني إلى أرض البعيدة

خذني إلى الأرض البعيدة ، أجهشت ريتا : طويل هذا الشتاء

وكسرت خزف النهار على حديد النافذة

وضعت مسدسها الصغير على مسودة القصيدة

ورمت جواربها على الكرسي فانكسر الهديل

ومضت إلى المجهول حافيةً ، وأدركني الرحيل

2006-09-03

محمود درويش كما يرى نفسه وكما يراه عبده وازن

يحاور الزميل عبده وازن الشاعر محمود درويش في كتابه "محمود درويش الغريب يقع على نفسه"، (دار رياض الريّس) حواراً طويلاً يمهّد له بمقدمة من أربعة فصول تقرأ بعض أعمال الشاعر الجديدة وتحلل عناصرها الشعرية.

لا يمكن قراءة أعمال درويش الشعرية الممتدة على نحو أربعين سنة ولا تزال، خارج مسيرته الحياتية مذ خرج من الأراضي المحتلة عام 1971 وحتى عودته اليها بعد إقامة السلطة الفلسطينية، حيث يعيش متنقلاً بين عمان ورام الله. كذلك لا يمكن قراءتها خارج التطور الشعري للقصائد بين مرحلة وأخرى، إيقاعا وتفعيلة ومبنى ومعنى، دون سبر غور التحولات التي طرأت، بناء على مراحل العمر والمكان والزمان، وهذا ما حاول وازن إيضاحه في هذا الحوار.

التقط وازن تطوراً في شعر درويش وصفه بالخروج عن التفعيلة في قصائده الحديثة التي حلل بعضها. ولم ينف درويش أسلوبه الإيقاعي الجديد الذي لا يلغي التفعيلة، لكنه يبدّل في استعمالها وفي دورها الإيقاعي باحثاً عن إيقاعات مبتكرة تجسدها كل قصيدة بنفسها. وهو يقول "مفتاحي لكتابة القصيدة هو الإيقاع" و"ابني القصيدة بناء هندسياً كي يكون لها قوام". الإيقاع والتفعيلة والقافية الداخلية تدفع درويش إلى رفض كتابة قصيدة النثر، رغم انها معترف بها عربياً وعالمياً، فهو يكتب النثر خارج القصيدة ولا يكتب قصيدة النثر.

كتابة القصيدة عند درويش تعبر من الحدس حيث تتشكل الصور الرؤيوية الغامضة، يرفدها إيقاع يحدد مسار القصيدة "والإيقاع هو الذي يقودني إلى الكتابة، وإذا لم يكن هناك من إيقاع ومهما كانت عندي أفكار او حدوس او صور فهي ما لم تتحول إلى ذبذبات موسيقية لا استطيع ان اكتب". ثم هناك الفكر والتاريخ والمعرفة والواقع التي مجتمعة "تقود عمل القصيدة"، مبنيةً على اللغة.

يلتمس وازن انعطافة شعرية في بضع قصائد جديدة لدرويش محللاً مواقع التجديد فيها، مستخلصاً انتقال الشاعر "من شعر القضية إلى قضية الشعر ومن حماسة المقاومة إلى سحر التمرد ومن وهج السياسة إلى غموض السياسي".

ان الشاعر المبدع والجماهيري في آن واحد يمكنه ان يتطور مع قرائه، ينتقل معهم من مرحلة إلى أخرى، ليس جميعاً، فالبعض يتوقف عند مرحلة معينة، كما قد يقف الشاعر أيضا عند محطة معينة يراوح شعره فيها فلا يتطور.

لكن لا يمكن أن يكون الشاعر جاحداً لجمهور أعطاه الشهرة حين كان التواصل بينهما مطّرداً. خصوصاً القصائد التي تصبح جزءاً من قضية وذاكرة جماعية. ولا يجوز ان يوصف محمود درويش بالجحود لقرائه ومتلقيه - لأنه يرفض كلمة جمهور – لكنه يجحد قصائده الأولى التي كتبها في بداياته بعنوان "عصافير بلا أجنحة" فيسقطها من أعماله. يصفه وازن بأنه شاعر جماهيري ونخبوي في آن واحد، يسعى للارتقاء بجمهوره إلى شعره. يقول درويش: "لا انظر إلى ماضيَّ الشعري برضى، لكنه لما تطور لولا التراكم الشعري الكبير على مدى سنوات طويلة، ان الشعر يتطور بتطور مراحل العمر"، ويضيف: "لو أتيح لي ان احذف لحذفت نصف أعمالي".

يكتشف وازن مواءمة بين شعر درويش وشعر نشيد الأناشيد في رسم خريطة الأرض وخريطة الجسد في جمالية تمزج الاثنين معاً، كذلك يستخلص من الكاماسوترا فن العشق في الانتظار، ففيه عمق العاشق الحقيقي ومرتجاه. وينتهي إلى "طوق الحمامة" لإبن حزم الأندلسي مستحضراً "معجزات الحب الإنساني". وبذلك يعبر من أقصى الحدود العربية في الشرق إلى أقصاها في الغرب وما بينهما، حيث تتوسط فلسطين بجسدها الجميل ذاكرته وحياته وحبه الأبدي ومحبوبته المبجلة. وفي هذا الإطار انتقل درويش بالمرأة من تمثيلها الأرض – الأم، أي الصورة الطوباوية للمرأة، إلى صورة الحبيبة الفعلية وليست الشعرية فقط. صورة العشق الوجداني والوجودي في آن.

كما يلاحظ وازن ان المنفى مستمر في ذات درويش، حتى لو وجد نفسه على قطعة ارض في فلسطين، فوجوده لم يغيّر شعوره بالمنفى المستمر معه من ماضيه إلى مستقبله، "من أنا دون منفى"، لكن لا المنفى ولا الموت الذي واجهه درويش في غيبوبة تعرض لها يخيفان الشاعر، إنما موته الشعري إذا حصل هو الأقسى، لذلك يواجه الموت الحقيقي بالموت الشعري، أي يواجه الموت الواقعي بالحياة الشعرية.

لكن يبدو ان الموت الشعري لا يخيف درويش فهو يواجهه "جاعلاً منه الوجه الآخر للشعر واللغة"، لأن شعره ولد على مراحل وتطور مدى العمر خلافاً لشعر طرفة بن العبد ورامبو. وهنا نطرح سؤالاً يستحق دراسة، هل يستطيع الشاعر ان يكتب بعد الستين؟ كم هم هؤلاء الشعراء؟ ما هي قيمة شعرهم مقارنة بشعر الشباب؟

ان الشعر هو انتماء درويش الاول والأخير، أما اللغة فهي حاضره ومستقبله، ولعل ما أورده وازن عن قصيدة "جدارية" يعكس صورة الشاعر المرحلية، اذ يقول: "ان فيها بعضاً من الملحمية الأليفة او الذاتية. فهي لا تحاور العالم الا عبر الذات ولا تستحضر أشياء الحياة الا عبر الموت. لا جماعة هنا ولا وطن ولا منفى جغرافياً ولا خريطة بل ذات غريبة في عالم غريب "وأنا" مفردة تقاسي العزلة والألم وذاكرة تستعيد الماضي في صور تلتمع كالسراب. السفر هو في الداخل والمنفى في الداخل أيضا. أما العودة التي يطمح اليها الشاعر فهي عودة إلى اللغة "في أقاصي الهديل" وليست عودة إلى "البلد" أو الأهل أو الحبيبة، الإقامة تصبح إقامة في اللغة ويصبح السكن "سكناً شعرياً" كما يقول هايدغر".

النهار- 29- 8- 2006

جوزف باسيل
(لبنان)

في اربعين محمد الماغوط

في أمسية غياب كهذه، وفي المكان هذا، كنا في العام الماضي ننثر ورد الحب علي اسم الراحل ممدوح عدوان. لم يحضر محمد الماغوط كاملا، لعجز عكازه عن اسناد جبل. لكنه حضر صورة شاحبة وصوتا متهدجا ليذكٌرنا بأن للوداع بقية.ذهبنا اليه في صباح اليوم التالي. كانت العاصفة مسترخية علي أريكة، تشرب وتضحك وتدخن وتعانق زوارها. كانت العاصفة مرحة فرحة بما تبقي فيها من هواء وضيوف، ولا تأسف علي ما فعلت باللغة وبالنظام الشعري. فهي لا تعرٌّف الا من آثارها عندما تهدأ. هدأ الماغوط ونظر الي آثاره برضا الفاتح المرهق. قلنا له وقال لنا ما يقول العارفون بأن اللقاء وداع. وضحكنا كثيرا لنخفي خوفا أثاره فينا انكبابه علي ترتيب الموعد القاسي مع سلامه الداخلي، فمثل هذا المحارب لا تليق به السكينة.لكنه لم يكن حزينا ولا خائفا مما يتربص به. وضّع الماضي كله علي المائدة، ووزع علي كل واحد منا حصته من الذكريات والمودة، قرأ لنا ما يدون من خواطر يومية عاجلة، فهو في سباق مع معلوم يشاغله بالطرق علي فولاذ المجهول. وحياني بقصيدة، فخجلت، وقلت في نفسي: لماذا لم يصدٌِقني من قبل؟وهو، الذي لا يحب الإعلام، ابتهج بوصول فريق اذاعي، ربما ليعلن وصيته الأخيرة علي الملأ: أوصيكم بالحب... فهذا الغاضب من كل شيء لم يغضب إلا لأن الحب في هذا العالم قد نضب. ولم يغضب الا لأن زنزانة هذا العالم ما زالت تتسع لسجين رأي مختلف. ولأن أرصفة هذا العالم ما زالت تزدحم بالفقراء والمشردين. ولم يغضب إلا لأن لفظة الحرية، بمعناها الشخصي والعام، ما زالت مستعصية علي العرب والعاربة والمستعربة... والإعراب!فوجئنا بصحافي يسألنا بلا رحمة: هل جئتم الي الماغوط لحضور جنازة مبكرة؟ تحسس كل واحد منا قلبه وتلعثم، الا هو، هو النسر الوحيد في ذروته، ملتفا بكبرياء الأعالي وبمصاهرة البعيد. لم يكن سؤال الموت سؤاله ما دام يكتب... ففي كل كتابة ابداعية نصر صغير علي الموت، وهزيمة صغري أمام إغواء الحياة التي تقول للشاعر: هذا لا يكفي، فما زالت القصيدة ناقصة! وكنا نعلم اننا جئنا للقائه لنتدرب علي وداعه.رحل الماغوط، ونقص الشعر. لكنه لم يأخذ شعره معه كما فعل الكثيرون من مجايليه الذين صانوا سلطتهم الشعرية في حياتهم بحرٌاس النقد والأحزاب. فهذا الوحيد الخالي من أية حراسة نظرية وتنظيم إعلامي، لم يراهن الا علي شعريته وحريته، وعلي قارئه المجهول الذي وجد في قصيدته صدي صوته وملامح صورته، بعدما أقامت كلماته المكتوبة بالجمر جسر اللقاء بين الذات والموضوع، وبين الذات وما تزدحم به من آخرين.وهو، هو الذي جاء من الهامش واختار هامش الصعلوك، كان نجما دون أن يدري ويريد. فالنجومية هي ما يحيط بالاسم من فضائح. وشعره هو فضيحتنا العامة، فضيحة الزمن العربي الذي يهرب منه الحاضر كحفنة رمل في قبضة يد ترتجف خوفا من الحاكم ومن التاريخ. حاضر يقضمه ماض لا يمضي وغد لا يصل. كم أخشي القول ان الزمن الذي هجاه الماغوط ربما كان أفضل من الزمن الذي ودٌعه. فقد كنا ذاهبين، علي الأقل، الي موعد مرجأ مع أمل مخترع. لا بأس من أن يكون ماضينا أفضل من حاضرنا. ولكن الشقاء الكامل هو أن يكون حاضرنا أفضل من غدنا. يا لهاويتنا كم هي واسعة!رأي الماغوط الهاوية فخاف. خاف بشجاعة المقاوم. فنظر الي الأفق بعيون الشاعر الطائر، فخاف ثانية، وقاوم الخوف برؤيا الشاعر الحالم، فماذا علي الشاعر أن يفعل غير أن يخلص مرتين: مرة لانتمائه الي الواقع، ومرة لتجاوز الواقع بالخيال وبصناعة الجمال؟لكن هذا الخائف علي عفوية الحياة، وعلي العلاقة السرية بين الأشياء والكلمات، رأي الخوف كما تجري المواد الأولية لبناء الكابوس، فقاومه بحرية الكلمات في تحرير صاحبها وقارئها، وقاومه بالتخلي عن حنين اللغة الي ماضي أطلالها وقصورها معا، وبفروسية من لا يملك شيئا ليخسره، وأكاد أقول: بمغامرة يأسه اشتق الأمل لغيره، فأخاف ما يخيفه، كما تجخيف الملحمة الشعرية الموت المتربص بأبطالها وقرائها الخالدين. لقد أخافت لغة الماغوط الساخنة الساخرة الجميع من فرط قوة الهشاشة في أعشابها، ومن فرط دفاعها عن حق الوردة في حماية خصائصها.وهو فضيحة شعرنا. فعندما كانت الريادة الشعرية العربية تخوض معركتها حول الوزن، وتقطعه الي وحدات ايقاعية تقليدية المرجعية، وتبحث عن موقع جديد لقيلولة القافية: في آخر السطر أم في أوله... في منتصف المقطع أم في مقعد علي الرصيف، وتستنجد بالأساطير وتحار بين التصوير والتعبير، كان محمد الماغوط يعثر علي الشعر في مكان آخر. كان يتشظي ويجمع الشظايا بأصابع محترقة، ويسوق الأضداد الي لقاءات متوترة. كان يدرك العالم بحواسه، ويصغي الي حواسه وهي تملي علي لغته عفويتها المحنكة فتقول المدهش والمفاجئ. كانت حسيته المرهفة هي دليله الي معرفة الشعر... هذا الحدث الغامض الذي لا نعرف كيف يحدث ومتي.انقضٌّ علي المشهد الشعري بحياء عذراء وقوة طاغية، بلا نظرية وبلا وزن وقافية. جاء بنص ساخن ومختلف لا يسميه نثرا ولا شعرا، فشهق الجميع: هذا شعر. لأن قوة الشعرية فيه وغرائبية الصور المشعة فيه، وعناق الخاص والعام فيه، وفرادة الهامشي فيه، وخلوه من تقاليد النظم المتأصلة فينا، قد أرغمنا علي اعادة النظر في مفهوم الشعر الذي لا يستقر علي حال، لأن جدة الإبداع تدفع النظرية الي الشك بيقينها الجامد.لم يختلف اثنان علي شاعرية الماغوط، لا التقليدي ولا الحداثي، ولا من يود القفز الي ما بعد الحداثة. حجتهم هي ان الماغوط استثناء، استثناء لا يجدرج في سياق الخلاف حول الخيارات الشعرية. لكنها حجة قد تكون مخاتلة، فما هي قيمة الشاعر إذا لم يكن استثناء دائما وخروجا عن السائد والمألوف؟ لذلك، فنحن لا نستطيع ان نحب قصيدة الماغوط ونرفض قصيدة النثر التي كان أحد مؤسسيها الأكثر موهبة. وإذا كانت تعاني من شيوع الفوضي والركاكة وتشابه الرمال، علي ايدي الكثيرين من كتابها، فإن قصيدة الوزن تعاني ايضا من هذه الأعراض، الأزمة إذا ليست أزمة الخيار الشعري، بل هي أزمة الموهبة، أزمة الذات الكاتبة. فنحن القراء لا نبحث في القصيدة إلا عن الشعر، عن تحقق الشعرية في القصيدة.سر الماغوط هو سر الموهبة الفطرية. لقد عثر علي كنوز الشعر في طين الحياة. جعل من تجربته في السجن تجربة وجودية. وصاغ من قسوة البؤس والحرمان جماليات شعرية، وآلية دفاع شعري عن الحياة في وجه ما يجعلها عبئا علي الأحياء. وهو الآن في غيابه، أقل موتا منا، وأكثر منا حياة !ألقيت هذه الكلمة في حفل تأبين الشاعر الماغوط في دمشق