الآن وأنت مسجّـَـى على صوتك. ونحن من حولك، رجوع الصدى من أقاصيك إليك.
الآن لا نأخذك إلى أي منفى، ولا تأخذنا إلى أي وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة، وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.
كان لي موعد معك، هنا في ناصرة البشارة والإشارة، فانتعلتُ قلبي وحملت هواجسي في يدي: هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟! أم سيعلمني السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء. كنت العناق البعيد. أما كان في وسعي أن أجد الإثنين، دليلي وسبيلي؟! أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب! على إيقاظ القلب من سكرته: لا تحلم بما لا تستحق. فليس هذا اللقاء سوى وداع.
مَــن يودِّع مَــن، أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة، لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين. وتعرف أن الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي لا تجد ذاتها، إلاّ إذا امتلأت بخارجها. وكم كابدت في هذه الرحلة. كم كابدت كي تجد الأدب هناك في تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال. فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد. وحيدًا في زحامك ومزدحمًا في وحدتك. ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من غير سوء. هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة يجري الحوار بين الواقعي والخرافي، بين الزمني والروحي، بين النسبي والمطلق، بين الزائل والدائم، بين الحق والباطل، بين الحرب والسلام. وهنا.. هنا البداية وهنا النهاية.
باقٍ في حيفا، حيًّا وحيًّا.
باقٍ في حيفا، هو الإسم الذي سمّــيت به إسمك. لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل. ولا كي تحدِّد الفارق بين الباقي في منفى هويّته، وبين العائد إلى هويّة منفاه. بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار، ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في حاجة إلى تأكيده، إلاّ لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم. حين صار في وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر، أن تضع الماضي على مائدة التساؤل، لتملي عليك روايتها: حجرًا في مواجهة بشر.
لم يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي تحفره في قطعة من رخام وفي الذاكرة الجماعية:
باقٍ حيث ولد في المكان الذي واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة، وبلا قطيعة، بين الأرض وتاريخها ولغتها. وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض. ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات، لتصبح الأرض التي غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام.
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين، بعدما تعرض شعبها الفلسطيني إلى المصير التراجيدي المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية، وحقه في الإستقلال. وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي إحتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق، على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل، باليقين وبالشك معًا، فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يعبر عن دَينه لك، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهويّة، بطريقة وحيدة هي البقاء والدفاع عن حقِّهم في المساواة. وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية، الوطنية والقومية التي لا وجود لهم بدونها.
فطوبى لك أيها المعلم الذي جعل الحنين فاكهة، وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول.
كم أنت يا حبيبي، كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة. في كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك. وفي كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ يتبّدل قبل أن يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر. تاريخ ينقض علينا كقطار عشوائي، فماذا تفعل في انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي بقدر ما كانت حجتك في وجه هذا العبث، وطريقة في اختيار برج للرصد، ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا.
إذا كنّــا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لسانًا بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضًا يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا، ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتَّر إلاّ لينسجم بين السياسي والأدبي. لا، لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك. تلك كانت حسرتك الأخيرة، أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية. فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي وابن ذاتك. وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر. وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها. وفيك من المساحات والأصوات، فيك من تقاطع الطرق وحوادثها، فيك من البطل والضحيّة والشاهد، فيك من الأنا والجماعة والآخر، ما كان يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية، لأنك أنت، أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً واحدًا: هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى، وهل هزيمة الأداة هي موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة، الحرية والعدل والسلام، فإن شعبك بأسره، شعبك العربي وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر، وأصدقاءه الأوفياء، أصدقاءك، من قوى السلام في هذه البلاد وفي العالم، يزدادون وفاءً لفكرتك فتلك هي وصية الحُــر للحُــر، وتلك هي هوية وجودنا الإنساني المشترك على أرض المعاني الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية. أرض السلام العطشى إلى السلام.
فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلاً معك وإليك، إلى هناك، إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا. واغفر لنا يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك. إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين.
حيفا، 3 أيار 1996
الآن لا نأخذك إلى أي منفى، ولا تأخذنا إلى أي وطن. ففي هذه الأرض من المعاني والجروح ما يجعل الإنسان قديسًا منذ لحظة الولادة، وشهيدًا حيًّا مضرّجًا بشقائق النعمان من الوريد إلى الوريد.
كان لي موعد معك، هنا في ناصرة البشارة والإشارة، فانتعلتُ قلبي وحملت هواجسي في يدي: هل أصل هذه المرَّة إلى جنة الجحيم هذه؟! أم سيعلمني السراب ثانية أن للأرض أرضًا أُخرى قريبة منها وبعيدة؟ ولم تكن أنت ذريعة للنداء. كنت العناق البعيد. أما كان في وسعي أن أجد الإثنين، دليلي وسبيلي؟! أم أن المصائر اعتادت على لعبة الحضور والغياب! على إيقاظ القلب من سكرته: لا تحلم بما لا تستحق. فليس هذا اللقاء سوى وداع.
مَــن يودِّع مَــن، أيها الساحر الساخر من كل شيء؟ ومن وقفتي هذه بالذات؟ فهأنذا أراك تغمز المشهد بنظرتك الشقيّــة، لا لشيء إلا لأنك تعرف نفسك وتعرفنا واحدًا واحدًا منذ أقدم الفاتحين حتى آخر العائدين. وتعرف أن الذات، لا الموضوع، هي ما يجعل المرء يركض من المهد إلى اللّحد بحثًا عن ذاته التي لا تجد ذاتها، إلاّ إذا امتلأت بخارجها. وكم كابدت في هذه الرحلة. كم كابدت كي تجد الأدب هناك في تلك المنطقة المتوتِّرة من السؤال. فكنت كما تريد أن تكون وكما لا تريد. وحيدًا في زحامك ومزدحمًا في وحدتك. ولكن حدود الكون كانت واضحة فيك من غير سوء. هنا على هذه الأرض القديمة الصغيرة يجري الحوار بين الواقعي والخرافي، بين الزمني والروحي، بين النسبي والمطلق، بين الزائل والدائم، بين الحق والباطل، بين الحرب والسلام. وهنا.. هنا البداية وهنا النهاية.
باقٍ في حيفا، حيًّا وحيًّا.
باقٍ في حيفا، هو الإسم الذي سمّــيت به إسمك. لا لتميِّز بين صعود الجبل وبين هبوط الجبل. ولا كي تحدِّد الفارق بين الباقي في منفى هويّته، وبين العائد إلى هويّة منفاه. بل لتفعل فعلتك الخاصة بالأسفار، ولتحفر فوق المخطوطات ما لست في حاجة إلى تأكيده، إلاّ لمواجهة زمن طال فيه الشك شرعية الأُم. حين صار في وسع القوة الواثقة من امتلاك الحاضر، أن تضع الماضي على مائدة التساؤل، لتملي عليك روايتها: حجرًا في مواجهة بشر.
لم يرتكب شعبك من خطيئة سوى إسم هذه الهوية الذي تحفره في قطعة من رخام وفي الذاكرة الجماعية:
باقٍ حيث ولد في المكان الذي واصل فيه سليقة العلاقة العضوية المستمرَّة، وبلا قطيعة، بين الأرض وتاريخها ولغتها. وتابع فيه الإصغاء المرهف بخشوع ومحبَّة إلى كلام السماء إلى الأرض. ليعيش حياته البسيطة قنوعًا بحصته من الماء والهواء والضوء وتبدُّل الفصول والغزوات، لتصبح الأرض التي غابت عنها طبيعتها أرض التعدُّدية والتسامح والسلام.
لقد شاءت طبيعة التطور التاريخي في تقاطع المصائر الإنسانية أن تجعل هذه الأرض المقدسة بلدًا لشعبين، بعدما تعرض شعبها الفلسطيني إلى المصير التراجيدي المعاصر وبذل تضحيات تفوق طاقة البشر لتثبيت هويته الوطنية، وحقه في الإستقلال. وكنت أنت منذ البداية وحتى هذه اللحظة، أحد المنابر المتحرِّكة الأقوى والأعلى، الداعية إلى سلام الشعوب بحق الشعوب. السلام القائم على العدل والمساواة ونفي إحتكار الله والأرض، للوصول إلى المصالحة التاريخية الحقيقية بين الشعبين، مع قيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.
والآن وأنت مسجّــى على هذا المفترق، على لون هذا الغسق الداكن مدمى بالأمل وبخيبة الأمل، باليقين وبالشك معًا، فإن أكثر من جيل واحد من الباقين هنا يعبر عن دَينه لك، للطريقة التي حللت بها جدلية التوتُّر الوجودي والثقافي بين الجنسية والهويّة، بطريقة وحيدة هي البقاء والدفاع عن حقِّهم في المساواة. وإمداد عناصر الهوية بمكوناتها الثقافية، الوطنية والقومية التي لا وجود لهم بدونها.
فطوبى لك أيها المعلم الذي جعل الحنين فاكهة، وسيّـَـج الحيرة بزهرة القندول.
كم أنت يا حبيبي، كم فيك من تناقض هو أحد مرايا تناقضاتنا التي تكسر اللغة من فرط نزوع المأساة إلى ارتداء قناع الملهاة. في كل واحد منّــا واحد منك ونحن جميعًا فيك. وفي كل لحظة من زماننا أكثر من تاريخ يتبّدل قبل أن يمنحنا فرصة للتكيّـُـف أو فرصة للتذكُّــر. تاريخ ينقض علينا كقطار عشوائي، فماذا تفعل في انتحار الرحمة؟ لم تكن السخرية خيارك الأدبي بقدر ما كانت حجتك في وجه هذا العبث، وطريقة في اختيار برج للرصد، ونقطة للوقوف على قدم المساواة مع الخصم ومع القدر معًا.
إذا كنّــا نلعب، فتلك هي شروط اللعبة، لسانًا بلسان، لا طائرة ضد طائر. وفي هذه المنطقة أيضًا يتبطّــن المعنى معنى ثانيًا، ويلجأ الفرد إلى ذاته ساخرًا من عبء رسالتها فيخف الحمل الثقيل من أجل الإنتقال إلى حمل أثقل، في صحراء الإيقاع الذي لا يتوتَّر إلاّ لينسجم بين السياسي والأدبي. لا، لن تستطيع العودة إلى الوراء لإجراء التعديل المبتغى على مصيرك. تلك كانت حسرتك الأخيرة، أن تتخلى عن السياسة منذ البداية لتكون أديبًا منذ البداية. فأنت من أنت إبن شرطك التاريخي وابن ذاتك. وليس من شيم هذه البلاد أن ترحم أبناءها ليكونوا عاديين كسائر البشر. وليس من شيمها أيضًا أن تأذن للضحية بلوم نفسها. وفيك من المساحات والأصوات، فيك من تقاطع الطرق وحوادثها، فيك من البطل والضحيّة والشاهد، فيك من الأنا والجماعة والآخر، ما كان يُــعجِــز الفرد فيك عن أن تكون الراوية، لأنك أنت، أنت الرواية المفتوحة على الجهات كلّها والمفارقات كلّها والأسئلة كلّها ما عدا سؤالاً واحدًا: هل إنتصار الإطار هو هزيمة المعنى، وهل هزيمة الأداة هي موت الفكرة؟
والآن وأنت مسجّــى على فكرتك ذات الأقانيم الثلاثة، الحرية والعدل والسلام، فإن شعبك بأسره، شعبك العربي وأشقاءه من آخر الصحراء حتى آخر البحر، وأصدقاءه الأوفياء، أصدقاءك، من قوى السلام في هذه البلاد وفي العالم، يزدادون وفاءً لفكرتك فتلك هي وصية الحُــر للحُــر، وتلك هي هوية وجودنا الإنساني المشترك على أرض المعاني الإنسانية العريقة والتعدُّدية الثقافية والدينية والقومية. أرض السلام العطشى إلى السلام.
فانهض معنا يا أبا سلام لنمضي قليلاً معك وإليك، إلى هناك، إلى حيث تريد أن تنام حارسًا دائمًا لتلفُّــت القلب إلى حيفا. واغفر لنا يا معلِّمنا ما صنعت بنا وبنفسك. إغفر لنا أننا سنعود بعد قليل إلى أنفسنا ناقصين.
حيفا، 3 أيار 1996
نقلا عن موقع