2006-06-17

أم محمود درويش تتحدث لـ الشرق الاوسط عن ابنها الأغلى وتغنيه شعراً


تحولت قصيدة «أحنّ إلى خبز أمي» التي كتبها محمود درويش من وراء قضبان سجنه الإسرائيلي عام 1965 إلى واحدة من أشهر القصائد العربية الحديثة، بعد أن غناها مارسيل خليفة ورددها ملايين العرب من المحيط إلى الخليج. وبسبب شهرة هذه القصيدة بات الجميع يسأل عن والدة محمود درويش وأخبارها، في ما يكتفي الشاعر الخفر بطمأنة قرائه على حال ملهمته، بكلمات مقتضبة. «الشرق الأوسط» زارت هذه الوالدة التسعينية في بيتها، وحاورتها بعد أربعين سنة من الصمت.
قطعت والدة محمود درويش، على نفسها وعداً بالصمت دام أربعين سنة، رفضت خلالها اجراء أي حديث صحافي. لكنها وافقت بعد محاولات، على التحدث الينا، شارحة: «شو بدي احكيلك. ما ضل عندي نِفْس للحكي. طلعة محمود مش هوينة عليّ؟ الله بيعلم، بشكي أمري لله. نصيبه انه يعيش بهديك البلاد. 37 سنة في الغربة»، تقول بصوتها الهادئ تارة والغاضب تارة أخرى.
بلغت التسعين من العمر. الزمن بأحداثه الدراماتيكية حفر أخاديد على وجنتيها وترك اثره بعض الشيء على صحتها. لكنها مثل الصبايا تصر بعناد على استقلاليتها والاعتماد على نفسها، ترفض بشدة اية مساعدة قد يعرضها ابناؤها او بناتها. تعيش في بيت مستقل، بناءً على رغبتها، في قرية «جديدة الجليلية» الى جانب بيوت اولادها. عندما وصلنا للقائها كانت «مشمرة» ثيابها، وقد انهت للتو أعمالها المنزلية، في يوم شتائي مشمس. أردنا مقابلتها لنتعرف على الجانب الانساني من شخصية ابنها محمود، أو لنتعرف عليها كأم لشاعر كبير، لا بد كان لها دور كبير في بناء شخصيته، فوجدنا أنفسنا إزاء أم صبور، شاعرة ومربية لجيل من المبدعين. ما زالت تتمتع بذاكرة خصيبة، وتسهب في الحديث عن «محمود الغالي»، هكذا تصفه، «كل عمره يحب الحرية. الدنيا ما كانت واسعته. ترك البيت وهو في الثأمنة عشرة من العمر ليسكن في حيفا. اسرائيل منعته من مغادرة حيفا من مغيب الشمس حتى شروقها، لكنه ما قاطعني. كان يصل إلي في النهار، يقول لي: يما جاي بس أشوفك. دقائق معدودة ويرجع لحيفا. بعدين ما تحمل العيشة هون. ترك من دون ما يخبرنا انه رايح ومش راجع. عرفنا بعدين من الاذاعة ان جمال عبد الناصر استقبله في مصر».
تكلمت بألم شديد، كما لو ان محمود غادرها للتو. فالحديث عن هذا الغياب يحرك فيها جرحا نازفا. فنضطر الى الانتقال لموضوع آخر، عنها هي. ونكتشف انها تجيد الغناء الفلكلوري وتؤلف الكثير منه. سنوات طويلة رددت الأغاني في الأفراح العائلية، وفي كل عرس كانت هناك أبيات، تخصصها لمحمود. تروي لنا انه في حفل زفاف حفيدها البكر اتصل محمود ليهنئهم، وصادف ذلك وقت الزفة، فتركت خط الهاتف مفتوحاً، لتغني له على مسمعه ومسمع الحاضرين:
«محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكّة يا قمر ضاوي ع الدرب
اطلع ع الخطاب يا قوي القلب
أضرب بسيفك وعليّ مشانق ع الدرب».
«في كل عرس بغني له وفي كل مناسبة نبكي لأنه مش معنا» تضيف. ولكي تنقشع غيمة الحزن، تغير ابنتها وكنتاها اللواتي حضرن اللقاء، الموضوع قائلات: «هل عرفت الآن من أين موهبة الشعر التي يمتلكها محمود؟ انها من والدته. وعندما نسألها من أين تعرف كل هذا فتجيب مازحة: «من حليب أمي».
محمود هو الثاني بين ثمانية أشقاء. اخوه البكر أحمد، يكتب القصة والشعر، والأصغر منه زكي يكتب القصة. الاثنان يحظيان باحترام كبير في الساحة الأدبية المحلية. والشقيق الأصغر، نصوحي، نشر عدة خواطر ونظم عدة قصائد. عائلة حميمية، لكن غياب محمود عنها يترك آلاما شديدة لديها خاصة وانه يحتاج في كل مرة الى تصريح من اسرائيل لزيارتها. فالشاعر الذي يستطيع ان يلف العالم، لا يمكنه عبور الحاجز العسكري من رام الله، ليصل الى والدته وأشقائه في الجليل.
زيارته الاولى الى عائلته جاءت بعد 28 عاماً من قراره مغادرة الوطن والانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. حضوره جاء بعد اتفاقيات اوسلو، وكان بمثابة عرس حضره آلاف من فلسطيني 48. بعدها كل المحاولات للحصول على تصريح لمحمود فشلت، لكن الموافقة جاءت أخيرا بعد ست سنوات من زيارته الاولى بسبب مرض شقيقه، وقد اضطرت العائلة الى ارفاق تقارير طبية من المستشفى الذي يعالج فيه ابنهم مع طلب التصريح بالزيارة.
لكن كيف تعيش العائلة شهرة ابنها؟ الشقيق الأكبر أحمد يجيبنا: «نحن اناس عاديون. اسم محمود يؤثر علينا، لكن ليس بالشكل الذي يتوقعه الناس. نحن عائلة طبيعتها الخجل والتواضع. فأنا وشقيقي زكي نكتب الأدب لكننا لا نبحث عن الأضواء. كنت مدير المدرسة الثانوية في جديدة لسنوات طويلة، اصدرت كتابين، وقريباً سيصدر لي ثالث عن خروجنا من «البروة»، لكن عندما أعّرف بنفسي أكتفي بلقب المربي. هكذا ايضاً اخي زكي».
لم توجه والدة محمود درويش كلمة عتاب واحدة له، فهي مؤمنة ان هذه مشيئة الله: «الذي يعلم بحالي.. ع العيد والله بسكر قلبي، بصير مثل الفحمة. لأنه شو هالعيد اللي ما منشوف فيه ولادنا؟ فمحمود لم يكن معنا 70 عيداً». عندما تطلق سجيتها للحديث عنه لا تذكره إلا بالخير، تتكلم عن جرأته وحبه لوطنه ورفضه للظلم، عن اعتزازها به: «أنا لمن بشوف قديش ناس بتحبو برفع راسي فيه». وتخبرنا الأم أن بذور الشعر عند محمود ظهرت وهو في العاشرة. فعندما حضر الى قرية دير الأسد، وفد من ضباط الجيش الاسرائيلي، وفي مقدمتهم الحاكم العسكري «يتفقدون أمر الرعية»، ويتفحصون مدى اخلاصها للدولة العبرية، كالعادة، استقبلهم المختار بالترحاب والنفاق ومعه مجموعة من شعراء الزجل الذين رحبوا بحضرة القائمقام قائلين: «احنا بحضرة القائمقام زدنا عدالة».
الفتى محمود كان واقفاً يراقب الحدث، لكنه لم يسكت ورد على الزجال من بين الجموع، بكلمات على نفس البحر والقافية قائلاً: «احنا بحضرة القائم مقام زدنا همالة». وقعت هذه الكلمات كالصاعقة، وبدا المختار محرجاً أمام الحضور، مبرراً لهم: «هذا الفتى ليس من قريتنا انما هو لاجئ»، وأمر بجلبه حتى يعتذر. لكن الحاكم العسكري استخدم ذكاءه واعترض، فيما كان الصغير محمود يفر من المكان، وقد غمره الأهل بالحب والإعجاب، واصبح أشهر فتى في المنطقة. لكن ما فعله محمود، كلف والده الفصل من عمله، في وقت كان ايجاد عمل فرصة نادرة.
عندما يحدثنا الابن البكر للعائلة أحمد درويش عن والدته، يذكر بأن لها شخصية قوية جداً «لكنها اصبحت تحترف الحزن منذ أن هجرنا قريتنا «البروة ». فهناك العائلة كانت ميسورة. التشرد والخروج لم يكن سهلاً عليها، وقد ترك في نفسها جرحا عميقا. اضافة الى ذلك فان اثنين من ابنائها يعيشان في الغربة وهي بشوق دائم لهما. اما هي فعندما تحدثنا عن «البروة»، تتحدث بغضب، ملقية باللوم على القيادات التي كانت السبب. عندما سالناها هل تزورين «البروة»؟ أجابت بنفس الحدة: «ولا بدي ازورها. اللي قدنا ميت مرة نسيوها. راحت البيوت وراحت الأرض وما حدا طلع بايده اشي. ناس بقيت وناس تشردت وماتت غريبة بلاد. حدا بغدر يفوت ينقب بيت عشب من ارضه هناك؟ واليهود بيعمروا فيها بيوت. لو انا بقينا مش كان أحسن؟ كان بعدنا قاعدين ببيوتنا وباراضينا».
أم أحمد ما زالت مشردة عن قريتها، تعيش مع أولادها في قرية جديدة القريبة. بيتها يقع على طرف البلدة، بمحاذاة الشارع الرئيسي، وكأنا بها تقف على قارعة الطريق تنتظر العودة الى البروة. بيت متواضع وأنيق. حوله قطعة أرض مرعية بعناية شديدة. رغم مسحة الحزن التي لا تفارق أم أحمد، كانت آثار الفرحة التي غمرتها في عيد الأضحى الأخير، بادية على محياها. فقد زارها محمود، بعد غياب زاد عن خمس سنوات. السلطات الاسرائيلية سمحت له بذلك.
«محمود انهى المدرسة الثانوية في دير الأسد وراح سكن بحيفا «تقول والدته. «هاي رغبته، وما بيطلع بايدي اشي». في حيفا مارس نشاطه الوطني والسياسي الذي كلفه السجن والتعذيب عدة مرات، وفرض الاقامة الاجبارية وزيارات الشرطة الليلية، التي انجبت المزيد من القصائد التي طبعت في أذهان الكثيرين وكانت انطلاقته كأحد أبرز شعراء المقاومة. عندما تلتقي والدته، من السهل عليك ان تعرف، لماذا كتب لها محمود قصيدته الشهيرة «أحنّ الى خبز أمي» من داخل جدران سجنه سنة 1965. وهنا تروي لنا ام احمد كيف تصرف محمود في احدى المرات، حين حضر رجال الشرطة لاعتقاله في ساعات الصباح الباكر. عندما طلبوا منه مرافقتهم قال لهم: لا استطيع قبل ان اشرب القهوة واستحم فعليكم الانتظار. وهكذا كان.
ولد محمود درويش وثلاثة من اخوته في قرية «البروة». ويوم اقترب الجيش الاسرائيلي من القرية طلبت القيادة العربية من السكان المغادرة لفترة قصيرة، بينما تقضي على الكيان اليهودي الغريب. وبدأت رحلة العذاب والتشرد. توجهت العائلة مع اولادها، أكبرهم ست سنوات واصغرهم 4 أشهر، بينهم محمود، لتعبر الحدود وتصل الى قرية «رميش» في لبنان وواصلوا الطريق مشياً الى «بنت جبيل» حتى حطت العائلة في «جزين». بعد سنة من المحاولات نجحت العائلة في العودة الى فلسطين، فوجدوا بلدتهم وقد افرغت من سكانها. الأمر الذي اضطرهم للعيش في دير الأسد 15 عاماً. بعدها استقرت العائلة في قرية «جديدة» على بعد كيلومترات من القرية الأم التي بني فوق اراضيها كيبوتس «احيهود» ليمحي اسم «البروة» عن الخريطة.
الأخ أحمد يحدثنا ان محمود نظم الشعر والقاه وهو في الابتدائية، احدى قصائدة كانت عن معلمه للغة العربية، الشاعر المرحوم شكيب جهشان. أحمد يعزو ذلك الى اهتمام عائلة والديه قبل 48 بما يدور في المنطقة. «جدي لوالدي كان عنده مضافة في «البروة» يحضر اليها الكثير من الناس، يتحدثون في السياسة والصراع اليهودي ـ العربي. وجدي لأمي كان زعيماً في الدامون له مكانته. لقد نشأنا في بيئة مختلفة. كل الوقت كان جدي يحثنا على قراءة الصحف والمطالعة، ربما هذا احد أسباب ميولنا الثقافية».
* قصيدة درويش عن أمه
أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي!
خذيني، إذا عدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي .. بخصلة شَعر ..
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبكْ ..
عساني أصيرُ إلهًا
إلهًا أصيرُ ..
إذا ما لمستُ قرارة قلبك !
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقودًا بتنور ناركْ ..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدتُ الوقوفََ
بدون صلاة نهارك
هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشارك
صغار العصافير
درب الرجوع .. لعُش انتظارِك !
نقلا عن موقع جريدة الشرق الاوسط

3 comments:

ق said...

هل من مزيد

marwa said...

كل الاحترام
ائع جدا
وما عسانا نقول ...رحمه الله وهي معه

marwa said...

كل الاحترام
ائع جدا
وما عسانا نقول ...رحمه الله وهي معه