إنه حديث عن الشعر، وليس أكثر بداهة من الكلام عن الشعر مع شاعر وخاصة إذا كان بوزن محمود درويش وحضوره وأثره العام، لكن الكثيرين يجدون دائما مع درويش سؤالا أحدث من الشعر وأكثر إلحاحا، ربما لأن الحدث الشعري الأهم موجود في دواوينه، ولأن الوجه الفلسطيني له أكثر استدرارا للكلام، والأرجح أن درويش الذي قال في شعره كل شيء عن الشعر وبملء حريته، بالطبع، شعر أن الكلام الطويل عن الشعر يقيده، فالتأمل في الشعر يظل عوداً على بدء وخيطاً في الظلام. لم يكتب درويش عن الشعر إلا قليلاً ولم يول للتنظير الشعري إلا قليلاً. لقد صنع شعره من دون أن يحير قراءه بمثال نظري وبدون أن يلتبس فيه الشاعر بالمفكر في الشعر. كفاه الالتباس الذي لا ينفك بين الشاعر والفلسطيني... الشاعر أولا بالتأكيد عند درويش، وما فعله هو أن يبقى الشعر أولا وتصدر عنه كل البطاقات الأخرى. لقد جعل فلسطينيته عنواناً آخر للشعر وحولها إلى ملحمته وميتافيزياه وإشكاله الأنطولوجي. لا يخسر الشعر بذلك، لكننا مع درويش نتكلم أيضاً سياسة رفيعة ونبيلة ومفعمة بقلب ووضع إنسانيين. قبل محمود درويش أن نتكلم عن الشعر وحده طوال ساعتين. تجربة خاضها باسترسال وطلاوة ولكن أيضا بتأن وتمعن، ولا أعرف إذا نجحنا في أن نترسم بياناً شعرياً لدرويش من هذا الحوار أم أن بيانه الفعلي موجود في قرابة 20 ديواناً. الزميلة الشاعرة عناية جابر حضرت المقابلة وتدخلت فيها
› آخر مرة التقينا فيها قلت لي أن الشاعر ينبغي أن لا يقرأ كثيراً من الشعر، وبهذا المعنى فإن الشعر ليس المصدر الأول لشعرك. هل تقرأ شعراً قبل الكتابة مثلاً؟
أقرأ دائماً. ولكن حين أكون منكباً على كتابة نصوص شعرية، وأنا من عادتي أن اكتب في الصباح، فإنني لا أقرأ قبل أن اكتب. أقرأ فقط ساعتين في الليل أو بعد الظهر، إذ مهما كانت الذاكرة محصنة من الاقتباس فأي قراءة قد تتغلغل في اللاوعي. أخاف أن تسقط مما قرأته أصداء في نصي الشعري... ومع أن كل النصوص هي كتابة على كتابة، فإن دخول ما ليس منك إليك يكون مباشراً إذا أنت قرأته قبل الكتابة مباشرة. لذلك لا أقرأ شعرا، بل موضوعات بعيدة كليا عن الشعر لكي لا يتداخل نصي مع النص القادم من مصدر آخر في لاوعيي. لكن مهما حمينا أنفسنا فإن كل نص لأي شاعر فيه نصوص لشعراء آخرين. الكتابة الشعرية كما قلت هي كتابة على كتابة. المهم أن تجد صوتك الخاص وتنفسك الخاص بعيدا عن هذه المؤثرات التي هي حتمية. لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشراً
› ما دمنا في القراءة، أتشعر بأن حساسيتك للشعر الذي تقرأه وانفعالك بهذا الشعر يقلان مع الزمن؟
هذا يتوقف على أي شعر أقرأ. إذا تكلمت بشكل عام عن الشعر العربي فالجواب نعم، حساسيتي تقل، وكذلك دهشتي، ذلك لأن تطلباتي تزيد، ولأن إنجاز الشعر العربي لا يقدم مفاجآت كبرى. هناك شيء من النمطية يكاد يسود كتابتنا الشعرية. الأمر يختلف عندما أقرأ شعراً أجنبياً وخاصة في شعر بدايات القرن العشرين. أجد دائما عند ذاك جهوزية للاندهاش والفرح بالعمل الشعري. أحس بأننا نحن العرب ذاهبون إلى مكان تركه الآخرون منذ قرن
› هل هناك بين الشعراء الأجانب الكبار من فقدت مع الزمن الانفعال بهم، وكانوا مدهشين لك ومؤثرين فيك خلال صباك؟
كنت أظن ذلك، حسبت أن علاقتي ببابلو نيرودا خفت، وكذلك علاقتي بناظم حكمت، لكني قرأت حكمت ونيرودا من جديد، فوجدت العكس وخاصة حكمت فهو مظلوم إذ صُور عند القارئ العربي على أنه شاعر سياسي مباشر وأن شعره لا يحمل إلا البعد النضالي
وأنت حين تدقق فستكتشف أن جماليات شعره تجعله قابلاً للقراءة في أي زمان. نيرودا لم يتعرض لهذا الاتهام، فقد بقيت له مكانته الشعرية وخاصة في شعر الحب، هو الذي اشتهر عند العرب كشاعر نضالي كانت عبقريته الشعرية أساساً هي في شعر الحب والنشيد الشعري
لوركا أيضا أثر بي كثيراً في فترة معينة ثم تراجعت علاقتي به، لكن أعود لقراءته فأجد أن غنائيته لا تزال تحركني، غرائبية صوره وسورياليتها ومفارقاتها وتبدل وظائف الحواس فيها. الشاعر الكبير يظل كبيراً. من ليس كبيراً يختفي. ماياكوفسكي لا أشعر بالرغبة في إعادة قراءته ولكني قرأت مؤخراً كتاباً عن سيرة حياته وأدركت إلى أي حد كان مسكوناً بالهاجس الشعري وبإجراء تفجيرات حقيقية في اللغة الروسية وبالإيقاع الشعري الروسي. هو بهذا المعنى بقي شاعراً كبيراً
مشكلتنا نحن العرب أننا وضعنا الشعراء تحت لافتات، كان على اليساريين أن يحبوا نيرودا وماياكوفسكي وعلى غير اليساريين أن يحبوا ت. اس. إليوت مثلاً، مع أن إليوت شاعر لا يستطيع أن ينجو من سحره وتأثيره أي يساري. الآن انتفى المقياس الأيديولوجي تماماً في علاقتنا بالنصوص الشعرية فأصبحنا أكثر حرية في قراءة النص، وكذلك أصبح النص أكثر حرية في اختراقنا. أي أصبح عندنا إلى حد ما قراءة بريئة أكثر منها وظيفية، فقد كنا نقرأ قراءة إلى حد ما قراءة غرضية لكي نخدم انحيازنا إلى مفهوم محدد للشعر. الشعر العظيم لا يتوقف عند هذه الحدود والحواجز الأيديولوجية
حساسيتي تتغير فعلاً من وقت إلى آخر، وليس لها علاقة بهذا الشاعر أو ذاك. كذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الشعر القديم. لم أكن أحب دائماً أن أقرأ المعري. أقرأه اليوم وأكتشف فيه شيئا غير الحكمة... علاقتي بأبي نواس هي كذلك. أبو نواس لا تتوقف أهميته على انه جدد في الموضوعات، هذا تعليم مدرسي، بل أهميته في كم هو شاعر، في كم غيّر في اللغة الشعرية وكسّر جهامتها وكلاسيكيتها بالمفهوم الزمني ذاك. أمتلك الآن حرية قراءة أكثر من السابق
علاقتي بالشعر الحديث تغيرت، فلي الآن نظرة مختلفة تجاه شعر ما يسمى بشعر الرواد الذي طالما احتفينا به، كثير منه لا أستطيع أن أقرأه اليوم. لا تطلب مني أن أسمي. معظمه حتى لا أستطيع أن أقرأه، وإذا قرأته أحاسب نفسي وأسألها ما الذي أعجبها من قبل فيه. عمري الشعري ومستوى تطور الشعر العربي الحديث سمحا يومذاك بأن تكون هذه النماذج هي الأفضل، لكن الآن وبعد مرور حوالي 50 سنة من الشعر العربي الحديث صار من حقنا أن نعيد النظر في كثير من شعر الرواد
البياتي مثلاً؟ أخبرتني مرة أن أحد الشعراء الأوائل الذين قرأتهم في فلسطين كان البياتي
في أحاديثي لا أسمي. لا أحب أن أدخل في مناوشات لأن رأي الشاعر بالشاعر ليس مقبولاً عندنا حتى الآن، السبب البسيط هو أن الشعراء شهّر بعضهم ببعض إلى حد أنهم فقدوا مصداقية إبداء الرأي في شعر بعضهم ببعض، فلكثرة ما هشّم بعضهم بعضاً وما كسّر بعضهم بعضاً، لا نصدق أن أحكامهم على بعضهم تصدر عن منطلقات فنية
›استطراداً أسألك، قلت إن الرواد بمعظمهم بعيدون حالياً عن ذائقتك، هل ترى أن جيل ما بعد الرواد كان أفضل بمعنى ما؟
أفضل أو ليس أفضل، هذا حكم قيمي. الأساس في الموضوع هو أن طموحهم الشعري أعلى ووعيهم الشعري أرقى ومعرفتهم الشعرية أغنى أيضاً. تمردهم على الرواد أعطى شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن يقينيات الرواد. في شعر الرواد كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها قد تكونان تقليديتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما الشعراء الذين بعدهم فإن نظرتهم للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية بالنسبة إلي هي كيف تعيد الحياة إلى اللغة على إيقاع زمنك الحديث، هذه بالنسبة إلي حداثتنا العليا الشعرية
› أي حداثة هذه، هل يمكن الكلام عن حداثة عربية؟
لست أتكلم عن حداثة عربية، الحداثة مفهوم شامل للمجتمع. عندنا تحققت الحداثة فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، لكن الحداثة هي إعادة النظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد، هذه لم تتحقق، لكن هل على الشعر أن ينتظر تحديث نفسه إلى أن تتم الحداثة بمعناها الشامل؟ نحن من دون حداثة غربية لا نعرف أن نناقش في الحداثة. ولا يمكن الحديث عن حداثة عربية بمعزل عن تأثرها بالحداثة الغربية. السؤال هو كيفية التأثر، هل هي نسخ، أم هضم واستيعاب
قتل المعنى
› هل ترى بناءً على ما سبق أن شعر الرواد كان شعر بيانات واقتراحات بينما الأجيال التالية كان مطلوباً منها أن تحقق إنجازات موضعية أكثر منها بيانات شاملة واقتراحات مبدئية....؟
بالتأكيد أوافق. وأضيف أيضاً أن شعر الرواد كان شعر تبشير بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها. كان هذا دورا تاريخيا مهما لأن الجيل الجديد لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد ومع القديم الخ... هكذا ورث حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني ومع المقدس. إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع تجربته ويغامر أكثر. جرأة المغامرة عند الجيل اللاحق كانت أعلى من الجيل الذي قبله لأن المناخ بات صالحا للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى
أما حكم القيمة على هذا الإنجاز، فلست أنا من يستطيع تقديمه
› أنت شخص كرّست نفسك للشعر تقريباً وقلما كتبت شيئا غير الشعر، وأنت من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر، هل تجد نفسك مع كل هذا النتاج الشعري الوفير أنك قد عبّرت عن نفسك أم لديك إحساس وقد يكون مفهوماً بأن كل ديوان جديد هو صمت إضافي؟
أحب أن أقول إني لم أدخل في كتابة التنظير والنقد الأدبي من منطلق أن من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً، الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته، ومع احترامي لشعراء كثيرين في العالم كانوا نقاداً كباراً وشعراء كباراً أيضا، بول فاليري وأوكتافيو باث، وكذلك ت. اس. إليوت ومونتالي الإيطالي... هناك نماذج كثيرة تكسر رأيي وتنقضه، لكني لم أدقق إلى أي حد كانوا بعيدين عن الانحياز إلى خيارهم الشعري، وإلا فلماذا تبنوه. الذي يتبنى مذهبا في الشعر عليه أن يقدم مرافعة نظرية للدفاع عنه وتأييد التيارات التي تدور حوله. في رأيي أيضاً أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه. أي إن الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته النقدية لشعره
سألتني عن النظر إلى الوراء. عندما أنظر إلى الوراء لا أنظر برضى أبداً وإلا لما تعبت إلى هذا الحد، أقدر على نقد ذاتي وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر، أقدر أيضاً على إعادة النظر في كل نص، ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي وهي حوالي عشرين كتاباً فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط. لكن لا أحد يتحكم في عمره، كل عمر له تعبيره وقدراته. قلقي أكثر من طمأنينتي، لست مطمئناً إلى ما فعلته وأحاول دائما الوصول إلى منطقة تشبه ما يسمى وهذه طبعاً تسمية مستحيلة الشعر الصافي. ليس هناك شعر صاف، ولكن علينا أن نصدق أنه موجود لكي نواصل البحث والكتابة عنه، أي إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. هذا المستقبل موجود أم غير موجود، لا أعرف، لكن يجب أن نصدق أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع، مع أن الشاعر، في الجهة الأخرى أو في التناقض الآخر، هو ابن عصره ولا يستطيع أن يؤجل كما قلت أمس لا الهنا ولا الآن إلى زمن آخر. هذه مهمة لا ندري كيف تتحقق. ربما يحصل ذلك بفضل قلق الشاعر وهجسه بخلق جماليات تصلح للقراءة في زمن آخر إذا أمكن، هناك اليوم شروط أوفى ليكون الشعر أصفى وأجمل (لا أريد أن أقول أنظف) وأقل توفيقية أي أقل هوميرية، إذ لم يعد هناك أي ضرورة للهوميرية. كتبت في ديواني الأخير أنه لو كان التلفزيون موجوداً في حرب طروادة لما كتب هوميروس الإلياذة، بل لكان كتب الأوذيسة. هناك مهمات يقوم بها علم الاجتماع وعلم التاريخ والصحافة والإعلام، كان الشاعر يُحمّل أعباءها، ونحن العرب حتى زمن قريب كنا نعتقد أن دور الشعر القديم ما زال موجوداً فينا فعلينا أن نكون مؤرخين ومناضلين وأنثروبولوجيين وعلماء أساطير لكي نكون شهوداً على زمن ما. علينا أن نعرف أن هذه مهمات لا يستطيع الشعر أن يقوم بها وحده، بل يجب أن تكون هناك حركة ثقافية كاملة تقوم بهذه المهمة
› هكذا نجد أنفسنا أمام مسألة مهمة وهي نظرة العرب للشعر التي ربما تحكمت جزئياً بالقصيدة الحديثة، أن تكون القصيدة شاملة، أن تكون ثقافة كاملة، أن تكون القصيدة رؤية وتاريخاً وفلسفة وشعراً وبرنامجاً نظرياً ورأياً في الشعر...
نعم صحيح.
›لم يؤرق هذا الشعراء الشبان الذين لم يكونوا يوماً أمام قصيدة بهاجس التأريخ لمرحلة أو وصف مرحلة أو الكتابة عن قضية... إطلاقاً
أتكلم عن مرحلة سبقت وضع الشعر الحالي. من حسنات الأصوات الجديدة في الشعر العربي أنها تشعر بأن عليها أن تكتب ذواتها الصغيرة، مشاكلها الصغيرة، هامشيتها.. الخ. بحثها عن المعنى مختلف في المفهوم القديم للمعنى. كان المعنى يسبق النص، الآن يتجلى المعنى من خلال البحث عنه في داخل النص. الفارق الحقيقي النوعي بين الشعر التقليدي والشعر الحديث هو الموقف من المعنى، لكن يجب ألا نسرف في قتل المعنى، بحيث يصبح الشعر الحديث كأنه لا معنى له إلا إنجاز اللامعنى، لأن التمرد على المعنى إلى هذا الحد هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته
في الهامشية معنى أيضاً
بالضبط، ولكن ينبغي ألا نتطرف. هناك حركة وقول وأحاديث وانعكاسات لرياح قادمة من مكان آخر تقول بأن الشعر الحديث يجب أن نبشر فيه بموت المعنى، وأن موت المعنى هو المعنى الحقيقي للوجود
› إذا توقفنا قليلاً عند المعنى، كما قلت في كلمتك أمس (في كوكتيل دار الريس) كنت معك ومع شار، الذي يقول إن فقدان المعنى لا يجوز أخلاقياً وليس شعرياً فقط. لا يجوز أن يتكلم الواحد بلا معنى ويتقصّد اللامعنى، ومع ذلك هل المسألة هي مسألة وجود معنى أم إمكانية استقبال معنى؟
إذا دققنا فلسفياً في الموضوع، فحياتنا المعاصرة تموت المعاني الكبرى فيها وتتساقط. لذلك يحاول الشعر أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي. أنا أميل أكثر إلى حقنا في العبثية واللعب، فهذا قد يكون الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى، أن نكون عبثيين أو لاعبين أو ساخرين، لا أن نرد على اللامعنى بلامعنى. أن نقدم لحياتنا معنى عبثياً فهذا معنى واختيار فكري. أن تكون عبثياً أو عدمياً، هو اختيار، قد يُحترم وقد لا يُحترم. هذا على كل حال بحث آخر. سؤالك عميق جداً، هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس عن الحركة حتى. إذا فهمنا أنه لا إمكانية لإنجاز معنى فمعناه أننا دخلنا في ما يشبه الموت المعنوي كلياً، وفي موت الإرادة وفي الموت الحسي أيضاً وربما في الموت الميتافيزيقي
› لننتقل إلى تعريف كالذي كان يقول إن الشعر كلام بالصور، لأي درجة يبقى هذا التعريف صحيحاً إذا قارنا الشعر بعلم الفلك، فأي عالم من الصور يبقى
منذ النصوص الشعرية الأولى التي كتبها الإنسان أو قالها شفهياً ودوّنها في ما بعد، وحتى الآن، لم نستطع أن نعثر على تعريف كامل وصالح لكل زمان للشعر، كان هناك اجتهاد بأن الشعر يُعرّف بنقيضه، لكن السؤال: ما هو نقيض الشعر؟ ما هو اللاشعر. كان يقال مجازاً إن نقيض الشعر هو النثر، وان الفرق بينهما هو أن الشعر يعتمد على الاستعارة، حسناً... لكن الاستعارة موجودة أيضاً في النثر. ثم كان يُقال إن الشعر يعتمد على التخييل، لكن التخييل أيضاً يمكن أن يكون موجوداً في النثر. ثم قيل إن الشعر يحدده الإيقاع، وشرطه الإيقاع، لكنْ للنثر أيضاً إيقاع. إذاً نحن بهذه التعريفات لا نبحث عن القصيدة بل عن تعريف للشعرية، أي إن الشعرية تعتمد على الاستعارة والتخييل والإيقاع... لذلك يجب أن نبحث كيف تتحقق الشعرية في القصيدة. أقول ذلك لنسهل الوصول إلى تعريف ما، كيف يمكن للشعرية أن تتحقق في القصيدة؟ أنا أعتقد أن ذلك يتحقق من خلال نظام بنائي إيقاعي، ولا أقول إن الشعرية في القصيدة أكثر شعرية منها في النثر، فقد تتحقق الشعرية في النثر أكثر مما تتحقق في القصيدة، لكن لنستطيع أن نقول إن هذا شعر، مجازاً، يجب أن نقول إن هذه الشعرية تحققت في القصيدة لأن بناءها ونظامها الإيقاعي هما هكذا. الصور طبعاً مكوّن أساسي، لكنها ليست كافية وحدها، فهي أيضاً مكوّن أساسي للنثر. الشعر نعرفه من خلال نظامه البنائي الإيقاعي، وكل شاعر يختار نظامه، فليس هناك نظام محدد مسبقاً، لدى أي ديوان لشاعر عليّ وأنا في هذا العمر الشعري أن أدرس وأفهم ما هو النظام الداخلي لشعره المتحقق في قصيدته. في الحالة العربية هناك إسراف في الصور، وهذا جاء في المرحلة الوسطى بين الشعراء الرواد والشعراء الحاليين الذين تكلمنا عن حسناتهم ولم نتكلم عن بعض عيوبهم وأهمها الإسراف في تكديس الصور المجانية بدون أن يكون لهذه الصورة الشعرية وظيفة جمالية ولا منطق بنائي أيضاً. الصور المجانية تثقل القصيدة وترهقها ونخرج بلا معنى معها. الصورة يجب أن تكون لها وظيفة يحددها الشاعر أو تخضع لمتطلبات بناء القصيدة وشكلها، وإلا فالصورة السينمائية أرقى. الصورة جزء من مكوّنات عدة في بناء القصيدة وليست مكوّناً أساسياً
الإيقاع والفكر
› هناك أمر أُهمل في القصيدة الحديثة، وأتصور أنه ينبغي أن نفكر بإعادة النظر فيه وهو الموضوع. هناك تصور يقول بأن القصيدة الحديثة بلا موضوع، وبفقدان الموضوع يصبح للقصيدة الحديثة موضوع واحد هو ذاتها، فالقصيدة تقول نفسها، وفي محل آخر تقول اللغة وتعيد قول نفسها
رأيي أن كلامنا السابق عن المعنى مرتبط بالموضوع، فغياب المعنى هو إحدى نتائج غياب الموضوع. أنا لا يهمني موضوع القصيدة، بل تهمني الكيفية التخييلية التي كُتب بها هذا الموضوع، لكن الموضوع هو جسد القصيدة. القصيدة بلا موضوع لا تكون هشة فقط بل مشغولة بالتحديق بنفسها
› هل كمّ التخييل إذن هو الذي يمكن أن يخلق الموضوع؟
لا، بل الكيفية
هناك أيضاً شعر جميل مع أن القصيدة ليس لها موضوع لكن فيها جماليات وإيقاعات تنسيك أنها بلا موضوع، وحينها تكون شبيهة أكثر بالموسيقى التجريدية
› إذا تجاوزنا مسألة الموضوع، هل يمكن للكلام أن يكون متماسكاً إن لم يكن منطلقاً على الأقل من بؤرة واحدة، هناك شعر منتشر، هناك كلام فلكي، ترى أنه لا يملك نقاط ارتكاز أو بؤراً ينطلق منها، ألا يجعلنا ذلك في المكان ذاته؟
نعم يبقينا في الموقع ذاته، وكما قلت فإنه يجعل القصيدة مشغولة بالتحديق بذاتها، بنرجسيتها، والقارئ يطلع منها لا أقول محايداً ولكن كأنه لم يكن فيها ولم يقرأها، لا هي اخترقته ولا اشترك هو في إعادة كتابتها. في الوقت نفسه أنا من التسامح بحيث لا مانع عندي أن يجرب البعض قصيدة لا موضوع لها إلا ذاتها. السؤال هو ما نتيجة هذا الجهد؟ لوحة تجريدية، قطعة موسيقية، هل يملك الشعر مقوّمات تجريدية حتى هذه الدرجة؟ أنا أشك، لأن الشعر يحتاج إلى ماء وتراب وعناصر هي التي تعطيه الحياة، ولا يستطيع أن يكون تجريدياً إلى هذا الحد لأن التجريد قد يوصل إلى حذف اللغة، وقد نصل حينها إلى ما يسمى <<شعر بياض>>. أنا أنحاز إلى موضوع، ومعنى، وبناء، وعناصر، تشكل قوام جسد شعري واضح، لكني لا أستطيع أن أرفض تجارب تسعى في منحى آخر. القصيدة منذ لحظة كتابتها الغامضة ذاهبة إلى مكان ما، وهناك فكر ما يقودها، قد تستقل عن هذا الفكر وتتمرد عليه وتأخذ فكراً آخر، لكن لا بد من أن تكون خاضعة لتصور مسبق عنها، بحيث لا تُترك حرة لتداعيات وثرثرات ومجانيات بلا نهاية لأن القصيدة فيها فكر ما، فكر شعر، يقودها، قد لا تنصاع له إلى حيث يريد، وهي قد تغير اتجاهه، لكن في البداية هناك بؤرة (كما سمّيتَها) يطلع منها إشعاع ما يحدد الاتجاه والتعديلات تحصل أثناء العملية. لا بد من خطة مسبقة، ليست عقلانية، عندي شيء أريد قوله وعندي إحساس أريد التعبير عنه، لست أكتب كتابة آلية، لست سريالياً، مع انه حتى السريالية والكتابة الآلية كانتا تقودان إلى شيء ما وليس إلى عبثية كاملة، والسريالية أثّرت في شعر غيرها أكثر مما أثرت في ذاتها. أما أن أمنح استقلالاً كاملاً للقلم والورقة ليشتغلا بدون تدخل مني، فأشك بأني سأصل بذلك إلى أي مكان
› في كتابتك لقصيدتك، هل تملك قبل الكتابة نقطة ما تنطلق منها؟
يكون لدي تصور ما، حالة ما، فكرة ما، أو موضوع ما، لكن شكل ما سأكتبه لا يكون واضحاً لي. كما قلت لك. لديّ رقابة على حركة القصيدة، وفي كثير من المرات تستقل القصيدة بحركتها، وهذا أفضل. إذ تقودني القصيدة أحيانا إلى معنى لم يكن خاطراً في بالي مسبقاً.
› لكن أليس للذاكرة دور هنا؟
طبعاً للذاكرة واللاوعي دور، فلا شيء يأتي من بياض، والذي يكتب هو جسد وعقل، لكن كيف تأتي الصورة من زمن بعيد جداً، لا نستطيع التحكم بمعرفة هذه الكيفية. حين أكتب يكون عندي تصور إما غامض أو واضح بأني أريد أن أقول شيئاً، قد يفلت من يدي، عندما يكون المعنى واضحاً تماماً وتكون القصيدة مرتبة في ذهني تكون النتيجة أسوأ. اللغة واللاوعي وتداخل الأزمنة تنتج قصيدة أفضل من قصيدة مخطط لها سلفاً. إنما أنا عندي تخطيط، وخاصة في المطوّلات. خطة تخضع طبعاً كما قلنا لتعديلات أثناء العملية لكن لا أشرع مرة في الكتابة وأنا لا أعرف ما سأكتب. أكتب أحياناً استمراراً لحلم ما، عندي دائماً إلى جانب سريري ورقة وقلم، أحياناً أحلم أني أكتب شيئاً أعتبره رائعاً، أحلامي ساذجة جداً، لكني أبدأ بالكتابة عندما يتحول كل هذا الذي أهجس به إلى إيقاع، ولا أكتب قبل أن يصبح إيقاعاً. ليست الفكرة ولا الصورة هما ما يجعلانني أكتب. حين تأخذ الفكرة والصورة إيقاعهما أعرف أنني بت قادراً على أن اكتب
تخريب اللغة
› أوكتافيو باث يقول إن الإيقاع ليس هو النغم فقط، بل هو إذا جاز التعبير الشكل الذي ينتظم القصيدة، ينتظمها لحناً وينتظمها فكرةً وينتظمها لغة
هذا شيء صحيح، كما قلت لك فالفكرة ليست كافية. الفكرة يجب أن تتحول إلى صورة، والصورة إلى إيقاع. صحيح ما يقوله باث، فالإيقاع جزء من التفكير. أعطيك دليلاً على ذلك من نفسي، فأنا لا أعرف أن أكتب قصيدة نثرية لأني لا أعرف أن أجد إيقاعاً نثرياً، لست متدرباً عليه، قد يكون في نثري الذي أعتبره نثراً لا قصيدة نثر شعرية أكثر وإيقاع أعلى، لكني لا أعرف أن أكتب قصيدة خارج الإيقاع والوزن، سأكتب حينها فكرة مجردة أو أضع صورة لذاتها. انه تدريبي النفسي وطريقة تنفسي إيقاعياً.... الإيقاع هنا ليس فقط ضبط الفكرة، إنه طريقة تنفس الشاعر، لذلك أقول دائماً إن الإيقاع ليس وزناً، فأنا أميز بين الوزن والإيقاع. الوزن هو أداة قياس، وإلا لكان الوزن الواحد ذا إيقاع واحد، الوزن الواحد الذي له إيقاع مختلف عند كل شاعر، لأن طريقة تنفس كل شاعر مختلفة عن الآخر. الإيقاع أعمق من أن يكون فقط ضبط وزن، بل إن طريقة تنفس كل شاعر في كل مرة تتغير. الإيقاع مكون ومايسترو للفكرة وطريقة تنفس أيضاً. وأنا لا أعرف أن أتكلم شعرياً إلا إيقاعاً ولا أعرف أن أبدع في الكتابة الشعرية إلا إذا دندنت بها، وأحياناً الإيقاع وحده يجعلني أكتب قصيدة. في كتابي الأخير تجربة لعبة إذ كتبت قصيدة كاملة ليس فيها أي فعل، كلها أسماء، واسمها <<هي جملة اسمية>>، لكني وجدت أن لها موضوعاً أيضاً. تمكني من الإيقاع جعلني أقدر على كتابة قصيدة كلها اسمية. قد أكتب قصيدة كلها أفعال، ربما أجرب كتابة قصيدة كلها حروف جر، وقد تصح. هذه الأمور بحاجة إلى تدريب وحب للغة وإيقاعيتها، ينبغي أن يكون عندك التباس بين اللعب والجد، أن تلعب إلى درجة بالغة الجدية، أو أن تكون جاداً إلى حد العبثية
› أود أن أسأل عما إن كانت اللغة بذاتها فقط استدعتك مرة إلى كتابة قصيدة ما تسميه أنت لعبة وقد يسمى توقيعاً أو تجويداً
لا جمالية شعرية من خارج اللغة. اللغة العربية غنية جداً والكلمة الواحدة تحمل معاني عدة وتكرارها وتغيير حركة واحدة فيها واحدة قد يخلقان معاني مضادة، كأن نقول مثلاً: عزف على البيانو أو عزف عن الشيء، هذه الامكانية تحرض أحيانا على رقص مجاني في القصيدة. جميل أن نرقص قليلاً، لا مشكلة في ذلك. اللغة بذاتها، إيقاعاتها وجماليتها واشتقاقاتها، ثم إننا نحن العرب، أي شاعر عربي أو أستاذ لغة عربية في الجامعة، إذا أجري له امتحان مفاجئ في معنى مفردة من صفحة تفتح عشوائيا من لسان العرب، فسيرسب. كل يوم نكتشف كم لغتنا متعددة وواسعة ولا نعرفها جيداً. فعندما يلم الشاعر بمعرفة لغوية جديدة يستهويه أن يلعب بها، مع أني لا أسرف في اللعب اللغوي
› هل برأيك أن الشعر هو اللغة الأقوى والأفصح؟
هناك رأي لا أعرف لمن هو، ربما لهايدغر، يقول بأن الشعر هو أساس اللغة وهو الذي يحمي اللغة لأنه بدأ شفهياً قبل نشوء اللغة. الشعراء وأصدقاء الشعراء من الفلاسفة يحبون أن يقولوا إن الشعر هو أرقى أشكال التعبير الإنساني. لا أعرف. ربما تكون الموسيقى أرقى
› أقصد في اللغة، هل الشعر أمتن صياغة لغوية؟
المفترض أن يكون كذلك، لكن إذا أردنا أن نحاكم حالتنا الشعرية نجد أن في شعر الشباب وخاصة لأن قصيدة النثر هونت عليهم الإحساس بالمسؤولية نقصاً في المعرفة اللغوية، هناك الكثير من القصائد أضعف من مقال متين. المفروض أن يكون النص الشعري أرقى الأشكال اللغوية. المفروض أن يكون هو ما يحمي اللغة ويجددها. من وظائف الشعر أن يعطي دائماً حياة جديدة للغة، هو الذي يجدد اللغة. لا تتجدد اللغة إلا على أيدي الشعراء، لكن ليس شعراءنا، ليس نحن. ذلك كان في الماضي، أما الآن فلا أعرف، ربما كان الشعراء يخربون اللغة. أنا أفهم التخريب الداخلي الواعي، تخريب النظام اللغوي أو هذا النسق اللغوي، لكن شرط أن يفعل ذلك شاعر كبير ولغوي كبير، أما التخريب الناجم عن جهل بحالة المبتدأ والخبر فهو غير مقبول
› يجذبني دائماً اسم المهلهل الذي هلهل الشعر، والذي أخذ قيمته الشعرية من جعله الشعر ضعيفاً لغوياً. الهلهلة هي شيء من الفوضى والركاكة، ولذلك توحي لي هذه الكلمة أحياناً بأن اللغة القوية هي النثر أحياناً وهي الأدب، الأدب الذي يبتعد عن المصادر الأولى للكلام، الشاعر مضطر لأن يبقى دائماً بمحاذاة هذه المصادر الأولى للكلام، أشعر تالياً بأن الشعر ربما ليس اللغة الأقوى، بل هو يجدد هلهلة اللغة أو ضعفها
لا، إذا كانت الهلهلة توصل إلى إحياء اللغة وتقريبها من الحياة واستيعاب عصرها الجديد فهذه تقوية للغة. نحن نتكلم عن مسألتين، عن اللغة والفصاحة. كان كل كلامك ضد الفصاحة، أبو نواس فعل ذلك، لكنه يتقن اللغة إتقاناً كاملاً ولديه معرفة رائعة بها. أنا أقبل الهلهلة من هؤلاء. إذا كانت الهلهلة تؤدي إلى إعادة الحياة أو إعادة الماء إلى عروق اللغة الجافة، فهذا برأيي تقوية للغة وليس إضعافاً لها. بأي معنى تقوي هذه الهلهلة اللغة؟ تحييها. أنا لا أستطيع أن أتكلم بلغة الجاهليين في القرن العشرين. الشعر الحديث، لذلك، أجرى هذه الهلهلة بمعنى أنه قرّب اللغة الفصيحة من اللغة المحكية أو لغة الحياة اليومية ومن وسائل الحياة المتداولة. مثلاً من ت. اس. إليوت أدخل اللهجات اللندنية الخاصة في نص كبير من روائع شعره. الهلهلة بهذا المعنى إعادة الحياة إلى لغة تصلبت شرايينها. ولذلك نحن لا نقبل الشعر العمودي
› في كتبك الأخيرة لا نجد إلا نادراً نهاية لكل بيت شعر، هناك نص متوالٍ متصل بحيث يمكن اعتبار كل النص بيتاً واحداً، هل انتهى تقسيم البيت. ما دمنا نتكلم عن عناصر الشعر؟
أظن أن البيت الشعري انتهى عندي منذ عشرين سنة، إلا إذا اقتضى قفل القصيدة أن يكون هناك بيت شعري. أنا أحب أن أمزج بين السردية والغنائية، امزج العناصر المشتركة بين الشعر والنثر. أحب أن يبدو نصي بصرياً كأنه نص نثري، ربما لا يصدق أحد إلى أي مدى أنا أحب النثر أكثر من الشعر، ولا أعرف لماذا يخاف الناس من كلمة النثر. النثر أرفع مستوى وأنبل. ثانياً، القصة التي أحكيها، تجربتي الحياتية التي أحكيها، ليست منظمة بحيث تعتمد على أبيات لها بدايات ونهايات. في كتابي الأخير وربما الذي قبله، القصيدة قد تُقرأ من أول كلمة إلى آخر كلمة على أساس أنها سطر واحد. أنا أرى أن هذا يعطي حيوية حركة وتصويراً لارتباك وفوضى ما منظمة في داخل بناء يبدو أنه فوضوي. أنا أرد على الفوضى الخارجية بفوضى بصرية لكن منظمة إيقاعياً. ثم أن نفسي الشعري طويل، أحب السطر الطويل، أحب الكرم في السطر الشعري. أتضايق كثيراً من شعر بلند الحيدري مثلاً لأن السطر عنده لا يتجاوز ثلاث كلمات مع أحرف الجر. لا أحب هذا البخل. قد يوحي مزجي بين السردية والغنائية، إلى حد ما، بنفس ملحمي، والنفس الملحمي يقتضي هذا السطر الطويل لأن القصيدة سطر واحد عملياً. هناك سطر وبيت شعري، لكن حجمه أو محتوياته قصيدة كاملة. هناك بعض قصائد تأخذ شكل الأغنية فيها سطور، لكني لا أحب تسكين آخر السطر الشعري، أحب أن يكون آخر السطر الشعري متحركاً، فإذا كتبت سطراً شعرياً وسكنت ثم كتبت بعده سطراً شعرياً فسيبدو هذا شعرا عموديا. أريد أن أوحي بتداخل الأشكال والمناخات وأحب أن أسترسل، ومع أن القصائد مقتضبة إلا أن السطر نفسه مسترسل وفيه جيشان داخلي
الأنا والآخر
› أثناء قراءتي الديوان الأخير لك فوجئت بأن القارئ، بقليل من الجهد، يستطيع أن يجد كأن هناك موضوعاً أساسياً أو لازمة كتابية متكررة، رأيت أن مرجعها وإن قيل انه أبو تمام، إلا انه قد يكون بورخيس، انه تعدد الأنا والتباس الأنا بالآخر، إلى أي حد يمكن القول أن احد مقومات <<لا أعتذر عما فعلت>> هو هنا، وكأنه يطرح إلى حد كبير سؤالاً دعنا نسمّه فلسفياً مؤقتاً؟
لمَ لا. ليس من عادتي أن أتكلم عن شعري، فلأفعل ذلك الآن على سبيل التجربة، الكتاب هو دفتر زيارة للذات وللمكان، لذلك وحتى لا يعرف القارئ إلى أين هو ذاهب وضعت هذا المفتاح، بيتاً لأبي تمام، توارد خواطر مع لوركا، <<لا أنا ولا البيت بيتي>> على لسان لوركا، بينما أبو تمام خاطب نفسه: <<لا أنت أنتِ ولا الديار ديارُ>>. هذه فعلاً رحلة بحث عن الأنا المنقسمة والموزعة. البحث عن المكان أسهل لأن المكان تغيّر بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى تغير في شكل المكان، هناك صورة بصرية (على الأقل) لا تحتاج إلى استقراء استشرافي ولا إلى بصيرة فالمكان تغيّر عياناً. الصعب هو علاقة تغير المكان بتغير الأنا، أو تغير الأنا وعلاقتها بتغير المكان. من الذي غيّر الآخر؟ هذا إشكال لم أجد له حلاً
سؤالك الثاني إشكالي أكثر من الأول. هناك آخران: الآخر الذي هو أنا، حين أقرأ نفسي من خارجها والآخر الذي هو الغريب، المختلف، الخصم، وهو موجود في مكاني بدلاً مني، التنقيب (اركيولوجيا) عن الذات، يصطدم بواقع، بحاضر، بتاريخ، بحروب، بتراكم ثقافات، بتعددية. إذن لا بد من الدخول في سجال فكري مع الآخر الذي احتل المكان لأنه يحمل نفس الدعوى التي أحملها أنا ويدّعي أن هذا مكانه وأنني أنا الغريب فيه، هو أيضاً في حيرة لأنه لا يجد نفسه. هناك اصطدام بحثين، اصطدام ذاتين تبحث كل منهما عن ذاتها في الآخر، لكن أنا أجرأ من الآخر في البحث عن نفسي فيه، هو لا يملك الجرأة الوجودية على أن يبحث عن نفسه فيّ لأنه ينكر وجودي، وإذا اعترف بأن فيه شيئاً مني يضع وجوده نفسه موضع تساؤل
› ما قلته كان تفسيراً لم يخطر على بالي، لكن بعد كلامك أكتشف شيئاً غريباً هو إلى أي حد قد يصبح الموضوع الفلسطيني قاعدة لما يتعداه، لما هو ميتافيزيقي وأنطولوجي، أثناء قراءتي الكتاب لم أفكر مرة بالفلسطيني بل كنت أفكر في متاهة الكون، في السؤال الأنطولوجي: من أنا ومن الآخر؟ وهل هناك أنا أصلاً؟
قدمت لي الآن أحسن إطراء سمعته في حياتي، بمعنى أنني إذا استطعت أن أنقل هذه الحالة الشخصية التي تبدو صغيرة إلى الفهم الأرقى والإنسان الأشمل فذلك يعني أني نجحت إلى حد ما في الوصول إلى ما تكلمنا عنه أثناء الحديث، أي إعطاء الشعر جماليات تمنحه إمكانية العيش لا في زمن آخر فحسب بل في وعي آخر أيضا. أنا سعيد جداً بقراءتك
› من امتيازك الشعري أن الغربة الفلسطينية تحولت إلى أوذيسة كونية، قدرتك على ملحمة فلسطينية وعلى خلق أسطورة حديثة... هنا السؤال الفلسطيني يتحول إلى سؤال ميتافيزيقي وجودي، وهذا يمنح الشعر ميزة ويجعل قراءته غير مشروطة بمعرفة الظرف الفلسطيني
حتى فلسطين ليست مذكورة في الديوان إلا مرة واحدة وعلى لسان ريتشاردز لا على لساني
› لكن عندي سؤال لا يتعلق بشعرك مباشرة بل بالشعر عامةً، واحد مثل ميشونيك يشكو من سطوة الفلسفة على الشعر الحالي، ويرى أن الفلسفة تؤذي الشعر. هذا رأي وهناك رأي آخر يرى أن إحدى مشاكل الشعر الحالي أن الشعر في الأساس تغنٍّ بالعالم وعندما يتحول إلى نقد للعالم يصبح عقيماً
الشعر الكبير لا بد من أن يخترقه فهم ما أو رؤية ما للكون والوجود، وهو ليس تعبيراً عن هموم شخصية وخاصة. السؤال هو كيف تتجلى المعرفة بكل أبعادها، المعرفة التاريخية والمعرفة الفلسفية... كيف تتجلى في النص الشعري. الخلاف ليس على أن يكون للقصيدة محمول ثقافي. رأيي أن النص الذي لا يحمل تاريخاً وثقافة هو نص هش، السؤال هو كيف تتجلى كل هذه المسائل، هل تتجلى تجلياً واضحاً، تجلّي مقولات، تجلّي اقتباسات، أم هي متغلغلة في النص وتتجلى عبر الحواس؟ في رأيي أن أي معرفة أو فكر لا يتجلى عبر الحواس يعاني مشكلة حقيقية. على الشاعر الذكي أن يكون جسدياً بمعنى حسي، المعرفة يجب أن تتجلى شعريا من خلال الحواس، لا من خلال الذهن والمقولات. الذهن موجود والمقولات موجودة والمعرفة موجودة، كلها موجودة كخلفيات، لكن كيف تدخل في النص وتتغلغل فيه، يجب ألا تكون مرئية وأن تحسن إخفاء مرجعياتها بحيث يطلع النص عند أول اصطدام بالسؤال ولا يبدو بحث البحث. يجب أن نميز بين النص الشعري والنص الفلسفي. قد يستعمل الشاعر جملة فلسفية، لا مشكلة، لكن على النص أن يمتصها. أنا منحاز إلى تجلي الفكر حسياً لا ذهنياً
› إذن ما رأيك بما يسمى <> أو القصيدة الضد لما يسمى القصيدة الموضوعية التي تفترض أن يكون الشعر خارج الغناء وخارج الذات؟
هناك أيضاً دعوة من ناقد ألماني إلى عدم البحث في الشعر عن الجماليات
والبحث عنها في أشكال فنية أخرى، إلى قصر الشعر على الموقف والسياسة. هذه كلها اجتهادات لبحث الشاعر عن حضوره ودوره، والأسئلة التي كان يبدو أنها انتهت منذ زمن تعود من جديد، ما الوظيفة الاجتماعية للشعر والشاعر. مسألة ضدية الشعر هي أيضا جزء من البحث، إلغاء الغنائية وإلغاء الإيقاع الخ... هذه تجارب مفتوحة وجميل أن تكون مفتوحة لكن في آخر الأمر نعود ونقرأ الشعر في الليل فلا نفتح هذه الكتب. ما زلنا نحن، وكل العالم، لا نحب أي شعر لا نسمعه. العين لا تكتفي بالقراءة. صديقك أوكتافيو باث يقول إنه لا شعر مكتوباً، الشعر كله شفهي أي مسموع، والمكتوب كله وهم. حتى العين عندما تقرأ الشعر تستبدل وظيفتها، تصبح مستمعة، فحين تقرأ نصاً شعرياً فإنك تدندن به وتستمع إلى إيقاعه. كل هذه التجارب الجميلة ضرورية بالنتيجة، لكن حين نعود ونقرأ الشعر فإننا نطلب أن نشعر بشيء من الطرب، (هذا الرأي يهزك) نطلب طرباً، نطلب موسيقى. لكن مفهوم الطرب يختلف هنا، حتى حين نتكلم عن الصمت ونستنطقه فإننا نستنطقه صوتياً. لذلك يبقى عندنا حنين دائم لأول الشعر الذي هو الغنائية، الإنشاد، الرقص، وحشة الكون أو هدوؤه، نريد دائماً شيئاً مسموعاً. لذلك لا أفهم حتى الآن الغضب العربي الحديث من الغنائية، لا أفهم تعريف الغنائية في الشعر العربي. في باقي الشعريات العالمية الغنائية هي ما ليس درامياً وما ليس ملحمياً، عندنا ربط ميكانيكي بين الغنائية والرومنطيقية، بين الغنائية والغناء والتطريب، مع ذلك فإنك لدى أكثر الشعراء حداثة في العالم حين تحب مقطعاً شعرياً لأحدهم تقرأه بصوت عال. عيناك لا تكتفيان بملامسة النص. في آخر الأمر أجد أن الموسيقى ثابت في الشعر، كما أصبح أيضاً شبه محرم عندنا هو العواطف، نحن العرب نربط بين الحداثة وإلغاء الإحساس. يقال إن العواطف شيء مائع. طبعاً هناك عواطف كثيرة مائعة، وت. اس. إليوت أحدث معادلاً موضوعياً، أما إلغاء العاطفة كلياً... فلا. قد تدعي القصيدة أنها من دون عواطف وهذا أرقى أشكال العواطف. الحسية والعواطف والإيقاع، هذه عناصر يجري البحث عن تجديد مفهومها لكن ليس إلغاءها. هناك إيقاعية جديدة، غنائية جديدة، وهناك أيضاً حسية جديدة، لكن لا تُلغى هذه العناصر الثلاثة إلغاءً كاملاً. طريقة التعبير عنها تتغير لحمايتها من الإرهاق، فأي شيء يتكرر يصبح مرهقاً، واللغة أيضاً تتعب. فما هو الآن حديث جداً وعظيم جداً يصبح بعد فترة تقليدياً. لذلك يحتاج الشعر دائماً إلى تجديد طريق توسّطه بهذه العناصر، طريقة تعبيره عنها، طريقة توظيفها في القصيدة. أما الاستغناء عنها... فلا أتصور موسيقى بلا نغم
› الموسيقى الحديثة بلا ميلودي... ولم ينصحوني بسماعها حتى في ألمانيا
أنا سمعتها، هناك موسيقي سويسري ألّف سيمفونية كاملة عن حالة حصار بهذه الطريقة، ودعاني إلى سماعها، وأثناء ذلك طلبت من الذي إلى جانبي أن يوقظني إذا نمت، وهو أيضاً طلب مني ذلك. كان هناك جمهور كبير، وأعيدت على المسرح ثلاث مرات. أحترم ذلك. يجب أن نكون ديمقراطيين فنقبل بكل هذه التجارب. لماذا لا نزال نقرأ شكسبير، ونقرأ المتنبي. كلما كان لدينا حنين إلى شيء قرأنا المتنبي أو أنشدنا أبياتاً منه. التمرد الصحي جداً يتم في جيل معين، وحين نبلغ سناً معينة نعود فنسخر من تمردنا، نتسامح مع ماضٍ تمردنا عليه
التصوف
› ألاحظ في شعرك أن احد المراجع المفترضة للقصيدة الحديثة وهو التصوف، لا يحضر في قصيدتك، مباشرة على الأقل، سواء في ذلك النص الصوفي أو النظام الصوفي أو المصطلح والقاموس الصوفيين
أنا شديد الإعجاب بالنثر الصوفي لا بالشعر الصوفي، وليس كل النثر، هناك نثر صوفي تتحقق فيه شعرية لم تتحقق في الشعر العربي، وأنا أعتقد أن بذور الحداثة الحقيقية في الشعر العربي موجودة في نصوص النثر الصوفي، لكن الصوفية منطقة مخاطرة بالنسبة إلي، مخاطرة لأنها تقترن بشيء من الدين، سواء في معانقته أو التمرد عليه، وأنا لا أحب دخول هذه المنطقة. ثانياً، من فرط ما تحولت ملامسة النص الصوفي في الشعر العربي الحديث إلى موضة أصبحت تقليدية، وأصبح التمرد عليها من شروط الحداثة الحقيقية. كتبت نصاً واحداً هو الهدهد على هامش منطق الطير، وطربت وأنا أبحث وأكتب... لكني لاحظت أن ذلك يأخذني إلى منطقة مغلقة، فهناك حلقة مفرغة يدور فيها النص ويصل إلى منطقة لا أحب دخولها، هي المنطقة الميتافيزيقية، أدخلها كاستعارات، كاستطرادات، كتأويلات لكن لا أدخلها كمنطقة عمل، لأني أخاف منها، وهي لا تعنيني كسلوك ولا كخيار فكري
› هل هذا يعني أن شعرك دائماً على الأرض؟
في شعري أرض، هناك شيئان يحملان النص الشعري: أرض وتاريخ. نصي الشعري محمول دائماً على أرض وتاريخ، حتى في الهدهد عدلت في نهاية منطق الطير، بحيث صار الهدهد يحن إلى الأرض التي انطلق منها. حاولت أن أدخل في المراتب المعرفية التي عند الصوفيين، ولكن عندما وصلت إلى أبعدها عدت بالطائر (الهدهد) إلى الأرض ورأى الأرض من فوق. تنتهي تلك القصيدة الطويلة بغناء راقص لجمالية الأرض، لأن اللغة تبدأ من الأرض
› ربما ترفض لشعرك أن يكون ثقافياً بالكامل، إن وجد مجازاً شعر ثقافي؟
بالمعنى الاصطلاحي لا أحب أن يكون الشعر ثقافياً
› في القصيدة الحديثة هناك رأي يستبعد وجود قاموس شعري خاص يرى أن الكلمات ليست شيئاً إلا داخل الجمل والعبارات، وأنه لا وجود لكلمات مستقلة وألفاظ مستقلة، لكننا نرى أحياناً أن هناك كلمات لها سحر خاص وأن هناك قاموساً خاصاً بكل شخص. هل تشعر بأن لك قاموساً خاصاً بك، كلمات تجتذبك أكثر، وكلمات تستدعيها أكثر؟
صحيح، لكني منذ سنوات بت أنتبه وألاحظ أن هناك كلمات ترد كثيراً عندي وحين ترد في النص أستبعدها. أكتبها ثم أحذفها، لأني لا أريد لقاموسي الشعري أن يكون له مفاتيح وكلمات محددة. صرت أتقصد استبعاد مفردات معينة ربما كانت ضرورية، لكني أستبعدها وأبحث عن غيرها حتى لو كانت بديلتها هجينة
الخسارة
› كشاعر فلسطيني، شعرك اقترن على نحو ما بالقضية الفلسطينية أو المسألة الفلسطينية، وكنا نتحدث قبل قليل عن ميزة هذا الشعر بنقله هذه المسألة لتكون أكثر كونية، لكن ما يهمني في الموضوع أنك كشاعر تبدو لي دائماً كشاعر مراثٍ، كشاعر رثاء، وبمعنى من المعاني إذا أردت شاعر تعزية، لا أطلب منك أن توافق على هذا القول، وإذا أردنا أن نستطرد في هذا الكلام، إلى أي حد أنت شاعر الهزيمة الفلسطينية أكثر منك شاعر الانتصار الفلسطيني؟
أتمنى أن يكون هناك شاعر آخر للانتصار الفلسطيني، أتمنى أن نصل إلى انتصار، وكما قلت لك في حديث منذ سنوات، أتمنى أن أكون شاعراً طروادياً. ليس الشاعر هو من يحدد الهزيمة أو النصر. من سوء حظي أنني لست شاعر الانتصار لسبب بسيط هو أننا لم ننتصر، وإذا انتصرنا فلست متأكداً من أنني سأكتب عن النصر، فلفرط ما أدمنت لغتي الشعرية الخسائر، أصبحت غير قادرة على أن تكتب نشيداً وطنياً منتصراً. ثانياً ليس هناك شاعر انتصار، والشعر دائماً حليف الخسائر الصغيرة والخيبات، وهو المتفرج المحايد على الجيوش الإمبراطورية. أعتقد أن صورة طفل يتفرج على جيش الاسكندر فيها شعر أكثر من جيش الاسكندر كله، أو أن العشب الذي ينبت على خوذ الجنود هو الشعر وليست الخوذ هي الشعر
لا أريد أن أفلسف المسألة، لكن لا أظن أني شاعر مراثٍ. أنا شاعر محاصر بالموت. قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء. الموت عندي ليس استعارة، ولست أنا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة. عندما كتبت الجدارية التي هي عن موت شخصي كان في نيتي أن أكتب عن الموت، حين قرأت القصيدة بعد كتابتها رأيتها قصيدة مديح للحياة. قد يجد بعض القراء عزاءً في شعري عن خسائر ما، لكن من الظلم أن تسميني شاعر عزاء
› لا تتخيل إطلاقاً أنها كلمة سلبية، المعزي أقرب الأشخاص إليّ
أحاول أن أحمي هذه الصورة بتمجيد أشياء صغيرة، أعشاب وصخور وزهرة لوز الخ... اكتشفت متأخراً أن الشعر لا يستطيع أن يحارب الحرب لا بأسلحتها ولا بلغتها، بل بنقيضها، نقيضها الهش، يحارب الحرب بالهشاشة الإنسانية، بنظرة الضحية في عيون الجلاد، من دون أن يفهم الجلاد ما تقول الضحية، بعشب متروك على الطريق، بأولاد يلعبون بالثلج... بالعناصر الإنسانية الصغيرة تستطيع أن تقدم صورة حياتية نقيضة للحرب لكنك لا تستطيع أن تقاتل الحرب بأسلحتها ولا بلغتها، والشعر أصلاً لا يستطيع أن يفعل ذلك الشعر الحديث لم يعد قادراً على فعل ذلك. هو يحارب بنقيض ذلك، أي بجماليات الحياة البسيطة، الصغيرة، الهادئة، غير المفكرة، البديهية... بالفطرة. ولا يستطيع أن يحارب بخطاب كبير. أظن أن هذا أكثر تأثيراً لأن اللغة الكبيرة انتحار. لغة الملاحم الكبرى والانتصارات الكبرى انتهت
لا أعرف إلى أي حد أنا مهزوم أو منتصر. ربما أنا منتصر باللغة الشعرية، ربما انتصاري هو الشعر، وهذا إن كان صحيحاً فهو تفوق حضاري وثقافي مهم. الإسرائيلي منتصر بالسلاح النووي والطائرات... أنا أعتبر نفسي منتصراً بالقصيدة. الطائرة تسقط أما القصيدة فلا تسقط إن كانت جميلة. الخطر هو أن يكتب شعر جميل لكن الشعراء الذين يكتبون شعرا جميلا ليسوا مع الحرب
الأزمة
› ألا ترى أن القصيدة العربية الآن في مشكلة. بداية لنتكلم عن قصيدة التفعيلة التي لا أرى أي شاعر شاب مهماً فيها، هل ترى مستقبلاً لقصيدة التفعيلة، وهذا الكلام ليس انتصارا لقصيدة النثر بل فقط لتقسيم السؤال
لست متأكداً من ذلك، لكن ما هو السبب هل هو التفعيلة أم الشاعر؟ إذا باشرنا قراءة إحصائية للشعر العربي الذي يُنشر نجد أن عدد القصائد الأجمل فيه هي بالصدفة مكتوبة بالنثر، وهي أكثر من القصائد المكتوبة بالعمودي أو التفعيلة. هذا إحصائياً، لكن كيف نستطيع أن نحول ذلك إلى حكم قيمي، لا أعرف. كيف نستنتج منه استنتاجاً نقدياً، لا أعرف. أعرف شعراء نثر كثيرين جيدين يعترفون بأنهم لا يعرفون الوزن، لكن أيضاً هناك من يكتبون التفعيلة... مثلاً عندنا في الشعر الفلسطيني غسان زقطان، رهاني الشعري كبير عليه، وهو يكتب تفعيلة
› أتكلم عن شبان جدد، عن شعراء في الثلاثينات من العمر
لا أعرف إلى أين سنصل بهذه الملاحظة، قصيدة التفعيلة عمرها ليس أكثر من ستين سنة، ومن الغريب أن تدخل في هذه الفترة الزمنية القصيرة في هذا المأزق.... لكن خصوم قصيدة النثر يقولون أيضا إن عمرها الزمني اقل وهي أيضاً تراجع نفسها... إذا أردنا أن نقيس أطوار الشعر العربي وننتقل من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر، فما هو الطور المقبل، هل تعود الدائرة أم ندخل في اللاكتابة؟ كيف نتكهن بمستقبل الكتابة الشعرية؟
لمَ لا تقول إن عندنا أزمة إنجاز إبداعي. هل الأزمة في خيار الشكل هذا أم عند الشاعر نفسه. لا أعرف كيف أشخص
› عندي إحساس بأننا في كل شيء وليس فقط في الشعر، نتجه كلنا نحو نموذج واحد، في الثقافة في الشعر وفي غير الشعر... تجد فجأة أن هناك اتجاهاً نحو التنميط أو نحو نمذجة سريعة جداً لكل شيء، لذلك أرى أن المشكلة مشكلة ثقافة وليست مشكلة إبداع، حتى الشعراء الذين يقعون في التنميط ليست عندهم مشكلة قيمة إبداعية إذا ما وجدوا أنفسهم أمام خيارات شعرية ثقافية أوسع
تتكلم عن نمذجة، لكننا الآن نعيش في الحقبة التاريخية نفسها كل تاريخ الشعر العربي. لا تزال هناك الآن قصيدة عمودية يكتبها مئات الشعراء، وهناك قصيدة تفعيلة يكتبها آلاف الشعراء، وهناك قصيدة نثر يكتبها عشرات آلاف الشعراء... هذه النماذج كلها تعيش في حقبة تاريخية واحدة. حتى ثقافياً كل واحد ينتمي إلى تاريخ مختلف. ليس عندنا مرجعية واحدة
› لا أتكلم عن مرجعية، نجد أنفسنا في كل نوع أمام قصيدتين أو ثلاث ويجري اللعب والشغل عليها بعد ذلك، والأمر نفسه قد يصح في قصيدة النثر. كثرة الشعراء لا تعني كثرة القصائد
كلما كثر الشعراء قلّ الشعر. في رأيي لكن من المبكر الجزم بأننا في مأزق. إذا قرأت في السنة عشر قصائد جميلة في شتى الخيارات، فإن الشعر بخير. خذ تاريخ الشعر العربي كله من الجاهليين حتى العموديين اليوم، كم شاعراً كبيراً تجد، عشرين شاعراً؟ لكن عشرات الآلاف كتبوا. حكمنا ينبغي ألا يكون كمياً. لكي يطلع شاعر كبير يجب أن يتوافر شعراء كثر
تجربتنا لم تصبح تراثا، ولم تدخل في حالة كلاسيكية بالمعنى النسبي حتى نحكم عليها. نحن لا نزال في خضم معركة التجديد. لا أريد أن أتسرع في إصدار أحكام
لا نجد أحدا من الشبان يملك بوضوح قصيدة أخرى
أتفق معك في ذلك، لأنهم دخلوا في نموذج محدد اسمه قصيدة النثر باعتباره آخر إنجاز شعري. أيضا هناك مشكلة ثقافية. المثال ليس أصليا، فأنا اسمع وأقرأ كثيرا في الصحافة العربية الأدبية تنظيرات من شعراء صغار، لا تعرف أصادرة هي من باريس أم من غزة أم من أسيوط، وكلها تتكلم عن الأوزان والإيقاعات في الشعر الفرنسي والشعر الإنكليزي بناءً على مقالات ونماذج مترجمة. حين يقرأون الشعر مترجماً والشعر يُترجم إلى العربية نثرا يظنون أن الأصل هو هكذا. هذه مشكلة تربوية
› لماذا لم تستمر قصيدة التفعيلة؟ لماذا لا نجد لها شعراء مستقبليين مثلا؟
لأنكم أرهبتموهم. لأنهم نشأوا على هذا النموذج السائد. هناك من الشعراء الجدد من لم يكن خيارهم ثقافياً، بل كان خياراً استسلامياً. لم يريدوا الدخول في متاهات العروض والأوزان الخ... هذه هي الموجة السائدة وهي المثال الذي يُحتذى، فقد تكون السهولة هي التي جعلت العدد الأكبر من الشباب يختارون هذا الشكل، لكن لو سألت ابن ال24 سنة لماذا تكتب يقول لك إن الوزن يضيق بي
يبقى السؤال الذي ليس لي جواب عنه، هو هل المأزق عميق وحقيقي، هل الخيار المقبل سيكون بمعالجة الأزمة من خلال تطوير الشكل نفسه، أم اختيار شكل آخر (وليس عندنا غير القديم). لا أرى خيارا رابعا لأنه ماذا بعد النثر؟ ماذا بعد العمودي والتفعيلي والنثري؟
› المفروض أن النثري والتفعيلي يستطيعان أن يعيشا مئات السنين لا العشرات فقط
إذا كان الأمر كذلك فالأزمة إذاً ليست أزمة الشكل بل أزمة الشعراء
طبعاً هي أزمة شعراء
الشكل ليس اداة انتهى استخدامها
› أسألك سؤالاً أخيراً. تقول في الجدارية: هزمتْك يا موتُ الفنونُ جميعها. إلى أي درجة هذا الكلام تبشيري؟ إلى أي درجة هو حقيقي بالنسبة إليك؟
هو ليس حقيقياً، بل خلق مبرر لاستمرار تناسي الموت، لاستمرار الإنسان في أن يعيش متجاوراً مع الموت لكن ناسياً إياه. لأنك إذا ذكرت الموت تتعطل الحياة وتتعطل حركتك وتطورك. هناك بحث عن مبرر للوجود هو الفن. فبالفن يسجل الإنسان حضوره ووهم خلوده. الخلود وهم طبعا، لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون وهم، ولا يستطيع أن يتصور أنه يمر هذا المرور السريع وتنتهي حياته. أمامه حلان: إما حل فني، أن يترك أثرا يعتقد أنه هزم به الموت، وهو فعلا هزم به موته الشخصي، وإما خيار ديني، مفاده أنه سيجد الحياة في العالم الآخر. لا خيار ثالثاً. إما أن تنتصر بترك أثر في الحياة تعتقد أنه هزم موتك الشخصي أو موتك البشري، أو أن تقبل وتنتظر الحياة الأبدية في الآخرة. أسأل نفسي: أيهما أقسى، الموت أم الأبدية؟
جريدة (السفير) 2003/11/21
حاوره عباس بيضون
› آخر مرة التقينا فيها قلت لي أن الشاعر ينبغي أن لا يقرأ كثيراً من الشعر، وبهذا المعنى فإن الشعر ليس المصدر الأول لشعرك. هل تقرأ شعراً قبل الكتابة مثلاً؟
أقرأ دائماً. ولكن حين أكون منكباً على كتابة نصوص شعرية، وأنا من عادتي أن اكتب في الصباح، فإنني لا أقرأ قبل أن اكتب. أقرأ فقط ساعتين في الليل أو بعد الظهر، إذ مهما كانت الذاكرة محصنة من الاقتباس فأي قراءة قد تتغلغل في اللاوعي. أخاف أن تسقط مما قرأته أصداء في نصي الشعري... ومع أن كل النصوص هي كتابة على كتابة، فإن دخول ما ليس منك إليك يكون مباشراً إذا أنت قرأته قبل الكتابة مباشرة. لذلك لا أقرأ شعرا، بل موضوعات بعيدة كليا عن الشعر لكي لا يتداخل نصي مع النص القادم من مصدر آخر في لاوعيي. لكن مهما حمينا أنفسنا فإن كل نص لأي شاعر فيه نصوص لشعراء آخرين. الكتابة الشعرية كما قلت هي كتابة على كتابة. المهم أن تجد صوتك الخاص وتنفسك الخاص بعيدا عن هذه المؤثرات التي هي حتمية. لا يوجد شعر بدون تأثر وتبادل. المهم أن لا يكون التداخل مباشراً
› ما دمنا في القراءة، أتشعر بأن حساسيتك للشعر الذي تقرأه وانفعالك بهذا الشعر يقلان مع الزمن؟
هذا يتوقف على أي شعر أقرأ. إذا تكلمت بشكل عام عن الشعر العربي فالجواب نعم، حساسيتي تقل، وكذلك دهشتي، ذلك لأن تطلباتي تزيد، ولأن إنجاز الشعر العربي لا يقدم مفاجآت كبرى. هناك شيء من النمطية يكاد يسود كتابتنا الشعرية. الأمر يختلف عندما أقرأ شعراً أجنبياً وخاصة في شعر بدايات القرن العشرين. أجد دائما عند ذاك جهوزية للاندهاش والفرح بالعمل الشعري. أحس بأننا نحن العرب ذاهبون إلى مكان تركه الآخرون منذ قرن
› هل هناك بين الشعراء الأجانب الكبار من فقدت مع الزمن الانفعال بهم، وكانوا مدهشين لك ومؤثرين فيك خلال صباك؟
كنت أظن ذلك، حسبت أن علاقتي ببابلو نيرودا خفت، وكذلك علاقتي بناظم حكمت، لكني قرأت حكمت ونيرودا من جديد، فوجدت العكس وخاصة حكمت فهو مظلوم إذ صُور عند القارئ العربي على أنه شاعر سياسي مباشر وأن شعره لا يحمل إلا البعد النضالي
وأنت حين تدقق فستكتشف أن جماليات شعره تجعله قابلاً للقراءة في أي زمان. نيرودا لم يتعرض لهذا الاتهام، فقد بقيت له مكانته الشعرية وخاصة في شعر الحب، هو الذي اشتهر عند العرب كشاعر نضالي كانت عبقريته الشعرية أساساً هي في شعر الحب والنشيد الشعري
لوركا أيضا أثر بي كثيراً في فترة معينة ثم تراجعت علاقتي به، لكن أعود لقراءته فأجد أن غنائيته لا تزال تحركني، غرائبية صوره وسورياليتها ومفارقاتها وتبدل وظائف الحواس فيها. الشاعر الكبير يظل كبيراً. من ليس كبيراً يختفي. ماياكوفسكي لا أشعر بالرغبة في إعادة قراءته ولكني قرأت مؤخراً كتاباً عن سيرة حياته وأدركت إلى أي حد كان مسكوناً بالهاجس الشعري وبإجراء تفجيرات حقيقية في اللغة الروسية وبالإيقاع الشعري الروسي. هو بهذا المعنى بقي شاعراً كبيراً
مشكلتنا نحن العرب أننا وضعنا الشعراء تحت لافتات، كان على اليساريين أن يحبوا نيرودا وماياكوفسكي وعلى غير اليساريين أن يحبوا ت. اس. إليوت مثلاً، مع أن إليوت شاعر لا يستطيع أن ينجو من سحره وتأثيره أي يساري. الآن انتفى المقياس الأيديولوجي تماماً في علاقتنا بالنصوص الشعرية فأصبحنا أكثر حرية في قراءة النص، وكذلك أصبح النص أكثر حرية في اختراقنا. أي أصبح عندنا إلى حد ما قراءة بريئة أكثر منها وظيفية، فقد كنا نقرأ قراءة إلى حد ما قراءة غرضية لكي نخدم انحيازنا إلى مفهوم محدد للشعر. الشعر العظيم لا يتوقف عند هذه الحدود والحواجز الأيديولوجية
حساسيتي تتغير فعلاً من وقت إلى آخر، وليس لها علاقة بهذا الشاعر أو ذاك. كذلك هو الأمر أيضاً بالنسبة إلى الشعر القديم. لم أكن أحب دائماً أن أقرأ المعري. أقرأه اليوم وأكتشف فيه شيئا غير الحكمة... علاقتي بأبي نواس هي كذلك. أبو نواس لا تتوقف أهميته على انه جدد في الموضوعات، هذا تعليم مدرسي، بل أهميته في كم هو شاعر، في كم غيّر في اللغة الشعرية وكسّر جهامتها وكلاسيكيتها بالمفهوم الزمني ذاك. أمتلك الآن حرية قراءة أكثر من السابق
علاقتي بالشعر الحديث تغيرت، فلي الآن نظرة مختلفة تجاه شعر ما يسمى بشعر الرواد الذي طالما احتفينا به، كثير منه لا أستطيع أن أقرأه اليوم. لا تطلب مني أن أسمي. معظمه حتى لا أستطيع أن أقرأه، وإذا قرأته أحاسب نفسي وأسألها ما الذي أعجبها من قبل فيه. عمري الشعري ومستوى تطور الشعر العربي الحديث سمحا يومذاك بأن تكون هذه النماذج هي الأفضل، لكن الآن وبعد مرور حوالي 50 سنة من الشعر العربي الحديث صار من حقنا أن نعيد النظر في كثير من شعر الرواد
البياتي مثلاً؟ أخبرتني مرة أن أحد الشعراء الأوائل الذين قرأتهم في فلسطين كان البياتي
في أحاديثي لا أسمي. لا أحب أن أدخل في مناوشات لأن رأي الشاعر بالشاعر ليس مقبولاً عندنا حتى الآن، السبب البسيط هو أن الشعراء شهّر بعضهم ببعض إلى حد أنهم فقدوا مصداقية إبداء الرأي في شعر بعضهم ببعض، فلكثرة ما هشّم بعضهم بعضاً وما كسّر بعضهم بعضاً، لا نصدق أن أحكامهم على بعضهم تصدر عن منطلقات فنية
›استطراداً أسألك، قلت إن الرواد بمعظمهم بعيدون حالياً عن ذائقتك، هل ترى أن جيل ما بعد الرواد كان أفضل بمعنى ما؟
أفضل أو ليس أفضل، هذا حكم قيمي. الأساس في الموضوع هو أن طموحهم الشعري أعلى ووعيهم الشعري أرقى ومعرفتهم الشعرية أغنى أيضاً. تمردهم على الرواد أعطى شحنة تجريبية تجديدية جعلت الشعر يطرح أسئلته بطريقة مختلفة عن يقينيات الرواد. في شعر الرواد كانت الحداثة تحدد بالقافية والوزن، لكن عقلية القصيدة وروحيتها قد تكونان تقليديتين جداً ومكتوبتين بوزن حديث، أما الشعراء الذين بعدهم فإن نظرتهم للحداثة مؤسسة على رؤية جديدة للعالم بما في ذلك النص الشعري وطريقة بنائه وطريقة استيعابه لعصره وطريقة إعادة الحياة إلى اللغة. الحداثة الشعرية بالنسبة إلي هي كيف تعيد الحياة إلى اللغة على إيقاع زمنك الحديث، هذه بالنسبة إلي حداثتنا العليا الشعرية
› أي حداثة هذه، هل يمكن الكلام عن حداثة عربية؟
لست أتكلم عن حداثة عربية، الحداثة مفهوم شامل للمجتمع. عندنا تحققت الحداثة فقط في الشعر وربما في وزارة الداخلية وأجهزة الأمن، لكن الحداثة هي إعادة النظر بالتراث والتاريخ ونقد الذات وفهم العالم الجديد، هذه لم تتحقق، لكن هل على الشعر أن ينتظر تحديث نفسه إلى أن تتم الحداثة بمعناها الشامل؟ نحن من دون حداثة غربية لا نعرف أن نناقش في الحداثة. ولا يمكن الحديث عن حداثة عربية بمعزل عن تأثرها بالحداثة الغربية. السؤال هو كيفية التأثر، هل هي نسخ، أم هضم واستيعاب
قتل المعنى
› هل ترى بناءً على ما سبق أن شعر الرواد كان شعر بيانات واقتراحات بينما الأجيال التالية كان مطلوباً منها أن تحقق إنجازات موضعية أكثر منها بيانات شاملة واقتراحات مبدئية....؟
بالتأكيد أوافق. وأضيف أيضاً أن شعر الرواد كان شعر تبشير بالحداثة أكثر منه تحقيقاً لها. كان هذا دورا تاريخيا مهما لأن الجيل الجديد لم يحتج إلى أن يبرهن على شرعيته ما دام هناك جيل سابق خاض هذه المعركة مع التقليد ومع القديم الخ... هكذا ورث حالة شعرية شرعية، ولم ينشغل بالصراع مع العمودي ولا بالصراع مع الديني ومع المقدس. إذ كانت الأرض ممهدة أكثر لأن يزرع تجربته ويغامر أكثر. جرأة المغامرة عند الجيل اللاحق كانت أعلى من الجيل الذي قبله لأن المناخ بات صالحا للتجربة وأصبح أي اقتراح شعري حديث مقبولاً عند الذائقة العامة، إلى حد الفوضى
أما حكم القيمة على هذا الإنجاز، فلست أنا من يستطيع تقديمه
› أنت شخص كرّست نفسك للشعر تقريباً وقلما كتبت شيئا غير الشعر، وأنت من الشعراء الذين كتبوا شعراً أكثر مما تكلموا عن الشعر وأكثر مما اشتغلوا بالتنظير للشعر، هل تجد نفسك مع كل هذا النتاج الشعري الوفير أنك قد عبّرت عن نفسك أم لديك إحساس وقد يكون مفهوماً بأن كل ديوان جديد هو صمت إضافي؟
أحب أن أقول إني لم أدخل في كتابة التنظير والنقد الأدبي من منطلق أن من الصعب على الشاعر ناقداً أن يكون عادلاً، الشاعر الذي يقدم نظرية شعرية، مهما ادعى الموضوعية أو القدرة على التعامل مع نصوص غيره، سيكون مشغولاً أكثر بالتنظير لتجربته، ومع احترامي لشعراء كثيرين في العالم كانوا نقاداً كباراً وشعراء كباراً أيضا، بول فاليري وأوكتافيو باث، وكذلك ت. اس. إليوت ومونتالي الإيطالي... هناك نماذج كثيرة تكسر رأيي وتنقضه، لكني لم أدقق إلى أي حد كانوا بعيدين عن الانحياز إلى خيارهم الشعري، وإلا فلماذا تبنوه. الذي يتبنى مذهبا في الشعر عليه أن يقدم مرافعة نظرية للدفاع عنه وتأييد التيارات التي تدور حوله. في رأيي أيضاً أن الشعر يقول نظريته أكثر مما تقول نظريته عنه. أي إن الشعر يقول عن الشعر أكثر مما تقول النظرية عن الشعر. الشعر هو الذي يقول ذاته، وعلى المنظر أو الناقد أن يستنبط المفهوم الشعري عند الشاعر من خلال قراءته النقدية لشعره
سألتني عن النظر إلى الوراء. عندما أنظر إلى الوراء لا أنظر برضى أبداً وإلا لما تعبت إلى هذا الحد، أقدر على نقد ذاتي وعلى اكتشاف ما ليس شعرياً في شعري أو هو لمصلحة خطاب آخر، أقدر أيضاً على إعادة النظر في كل نص، ولو أتيح لي الآن أن أعيد كتابة كتبي وهي حوالي عشرين كتاباً فقد لا أنشر منها سوى خمسة أو ستة فقط. لكن لا أحد يتحكم في عمره، كل عمر له تعبيره وقدراته. قلقي أكثر من طمأنينتي، لست مطمئناً إلى ما فعلته وأحاول دائما الوصول إلى منطقة تشبه ما يسمى وهذه طبعاً تسمية مستحيلة الشعر الصافي. ليس هناك شعر صاف، ولكن علينا أن نصدق أنه موجود لكي نواصل البحث والكتابة عنه، أي إعطاء النص الشعري قدرات جمالية تسمح له أن يحقق حياة أخرى في زمان آخر، ليكون ابن تاريخه، وليستقل في الوقت نفسه عن تاريخه وظرفه الاجتماعي، وينظر إلى مستقبل غير مرئي. هذا المستقبل موجود أم غير موجود، لا أعرف، لكن يجب أن نصدق أن الشعر يستطيع أن يتحرر مما ليس منه، وما ليس منه هو الراهن القابل للتبدل السريع، مع أن الشاعر، في الجهة الأخرى أو في التناقض الآخر، هو ابن عصره ولا يستطيع أن يؤجل كما قلت أمس لا الهنا ولا الآن إلى زمن آخر. هذه مهمة لا ندري كيف تتحقق. ربما يحصل ذلك بفضل قلق الشاعر وهجسه بخلق جماليات تصلح للقراءة في زمن آخر إذا أمكن، هناك اليوم شروط أوفى ليكون الشعر أصفى وأجمل (لا أريد أن أقول أنظف) وأقل توفيقية أي أقل هوميرية، إذ لم يعد هناك أي ضرورة للهوميرية. كتبت في ديواني الأخير أنه لو كان التلفزيون موجوداً في حرب طروادة لما كتب هوميروس الإلياذة، بل لكان كتب الأوذيسة. هناك مهمات يقوم بها علم الاجتماع وعلم التاريخ والصحافة والإعلام، كان الشاعر يُحمّل أعباءها، ونحن العرب حتى زمن قريب كنا نعتقد أن دور الشعر القديم ما زال موجوداً فينا فعلينا أن نكون مؤرخين ومناضلين وأنثروبولوجيين وعلماء أساطير لكي نكون شهوداً على زمن ما. علينا أن نعرف أن هذه مهمات لا يستطيع الشعر أن يقوم بها وحده، بل يجب أن تكون هناك حركة ثقافية كاملة تقوم بهذه المهمة
› هكذا نجد أنفسنا أمام مسألة مهمة وهي نظرة العرب للشعر التي ربما تحكمت جزئياً بالقصيدة الحديثة، أن تكون القصيدة شاملة، أن تكون ثقافة كاملة، أن تكون القصيدة رؤية وتاريخاً وفلسفة وشعراً وبرنامجاً نظرياً ورأياً في الشعر...
نعم صحيح.
›لم يؤرق هذا الشعراء الشبان الذين لم يكونوا يوماً أمام قصيدة بهاجس التأريخ لمرحلة أو وصف مرحلة أو الكتابة عن قضية... إطلاقاً
أتكلم عن مرحلة سبقت وضع الشعر الحالي. من حسنات الأصوات الجديدة في الشعر العربي أنها تشعر بأن عليها أن تكتب ذواتها الصغيرة، مشاكلها الصغيرة، هامشيتها.. الخ. بحثها عن المعنى مختلف في المفهوم القديم للمعنى. كان المعنى يسبق النص، الآن يتجلى المعنى من خلال البحث عنه في داخل النص. الفارق الحقيقي النوعي بين الشعر التقليدي والشعر الحديث هو الموقف من المعنى، لكن يجب ألا نسرف في قتل المعنى، بحيث يصبح الشعر الحديث كأنه لا معنى له إلا إنجاز اللامعنى، لأن التمرد على المعنى إلى هذا الحد هو تمرد على مفهوم حرية الإنسان ووجوده وإنسانيته
في الهامشية معنى أيضاً
بالضبط، ولكن ينبغي ألا نتطرف. هناك حركة وقول وأحاديث وانعكاسات لرياح قادمة من مكان آخر تقول بأن الشعر الحديث يجب أن نبشر فيه بموت المعنى، وأن موت المعنى هو المعنى الحقيقي للوجود
› إذا توقفنا قليلاً عند المعنى، كما قلت في كلمتك أمس (في كوكتيل دار الريس) كنت معك ومع شار، الذي يقول إن فقدان المعنى لا يجوز أخلاقياً وليس شعرياً فقط. لا يجوز أن يتكلم الواحد بلا معنى ويتقصّد اللامعنى، ومع ذلك هل المسألة هي مسألة وجود معنى أم إمكانية استقبال معنى؟
إذا دققنا فلسفياً في الموضوع، فحياتنا المعاصرة تموت المعاني الكبرى فيها وتتساقط. لذلك يحاول الشعر أن يقدم لا معنى مضاداً للامعنى الخارجي. أنا أميل أكثر إلى حقنا في العبثية واللعب، فهذا قد يكون الرد الجمالي الأفضل على الفوضى السائدة أو سقوط المعاني الكبرى، أن نكون عبثيين أو لاعبين أو ساخرين، لا أن نرد على اللامعنى بلامعنى. أن نقدم لحياتنا معنى عبثياً فهذا معنى واختيار فكري. أن تكون عبثياً أو عدمياً، هو اختيار، قد يُحترم وقد لا يُحترم. هذا على كل حال بحث آخر. سؤالك عميق جداً، هل هناك إمكانية معنى؟ يجب على الشعر أن يصدق أن هناك معنى، وكذلك على الإنسان أن يصدق، وإلا دخلنا في العدمية المطلقة، في اليأس عن الحركة حتى. إذا فهمنا أنه لا إمكانية لإنجاز معنى فمعناه أننا دخلنا في ما يشبه الموت المعنوي كلياً، وفي موت الإرادة وفي الموت الحسي أيضاً وربما في الموت الميتافيزيقي
› لننتقل إلى تعريف كالذي كان يقول إن الشعر كلام بالصور، لأي درجة يبقى هذا التعريف صحيحاً إذا قارنا الشعر بعلم الفلك، فأي عالم من الصور يبقى
منذ النصوص الشعرية الأولى التي كتبها الإنسان أو قالها شفهياً ودوّنها في ما بعد، وحتى الآن، لم نستطع أن نعثر على تعريف كامل وصالح لكل زمان للشعر، كان هناك اجتهاد بأن الشعر يُعرّف بنقيضه، لكن السؤال: ما هو نقيض الشعر؟ ما هو اللاشعر. كان يقال مجازاً إن نقيض الشعر هو النثر، وان الفرق بينهما هو أن الشعر يعتمد على الاستعارة، حسناً... لكن الاستعارة موجودة أيضاً في النثر. ثم كان يُقال إن الشعر يعتمد على التخييل، لكن التخييل أيضاً يمكن أن يكون موجوداً في النثر. ثم قيل إن الشعر يحدده الإيقاع، وشرطه الإيقاع، لكنْ للنثر أيضاً إيقاع. إذاً نحن بهذه التعريفات لا نبحث عن القصيدة بل عن تعريف للشعرية، أي إن الشعرية تعتمد على الاستعارة والتخييل والإيقاع... لذلك يجب أن نبحث كيف تتحقق الشعرية في القصيدة. أقول ذلك لنسهل الوصول إلى تعريف ما، كيف يمكن للشعرية أن تتحقق في القصيدة؟ أنا أعتقد أن ذلك يتحقق من خلال نظام بنائي إيقاعي، ولا أقول إن الشعرية في القصيدة أكثر شعرية منها في النثر، فقد تتحقق الشعرية في النثر أكثر مما تتحقق في القصيدة، لكن لنستطيع أن نقول إن هذا شعر، مجازاً، يجب أن نقول إن هذه الشعرية تحققت في القصيدة لأن بناءها ونظامها الإيقاعي هما هكذا. الصور طبعاً مكوّن أساسي، لكنها ليست كافية وحدها، فهي أيضاً مكوّن أساسي للنثر. الشعر نعرفه من خلال نظامه البنائي الإيقاعي، وكل شاعر يختار نظامه، فليس هناك نظام محدد مسبقاً، لدى أي ديوان لشاعر عليّ وأنا في هذا العمر الشعري أن أدرس وأفهم ما هو النظام الداخلي لشعره المتحقق في قصيدته. في الحالة العربية هناك إسراف في الصور، وهذا جاء في المرحلة الوسطى بين الشعراء الرواد والشعراء الحاليين الذين تكلمنا عن حسناتهم ولم نتكلم عن بعض عيوبهم وأهمها الإسراف في تكديس الصور المجانية بدون أن يكون لهذه الصورة الشعرية وظيفة جمالية ولا منطق بنائي أيضاً. الصور المجانية تثقل القصيدة وترهقها ونخرج بلا معنى معها. الصورة يجب أن تكون لها وظيفة يحددها الشاعر أو تخضع لمتطلبات بناء القصيدة وشكلها، وإلا فالصورة السينمائية أرقى. الصورة جزء من مكوّنات عدة في بناء القصيدة وليست مكوّناً أساسياً
الإيقاع والفكر
› هناك أمر أُهمل في القصيدة الحديثة، وأتصور أنه ينبغي أن نفكر بإعادة النظر فيه وهو الموضوع. هناك تصور يقول بأن القصيدة الحديثة بلا موضوع، وبفقدان الموضوع يصبح للقصيدة الحديثة موضوع واحد هو ذاتها، فالقصيدة تقول نفسها، وفي محل آخر تقول اللغة وتعيد قول نفسها
رأيي أن كلامنا السابق عن المعنى مرتبط بالموضوع، فغياب المعنى هو إحدى نتائج غياب الموضوع. أنا لا يهمني موضوع القصيدة، بل تهمني الكيفية التخييلية التي كُتب بها هذا الموضوع، لكن الموضوع هو جسد القصيدة. القصيدة بلا موضوع لا تكون هشة فقط بل مشغولة بالتحديق بنفسها
› هل كمّ التخييل إذن هو الذي يمكن أن يخلق الموضوع؟
لا، بل الكيفية
هناك أيضاً شعر جميل مع أن القصيدة ليس لها موضوع لكن فيها جماليات وإيقاعات تنسيك أنها بلا موضوع، وحينها تكون شبيهة أكثر بالموسيقى التجريدية
› إذا تجاوزنا مسألة الموضوع، هل يمكن للكلام أن يكون متماسكاً إن لم يكن منطلقاً على الأقل من بؤرة واحدة، هناك شعر منتشر، هناك كلام فلكي، ترى أنه لا يملك نقاط ارتكاز أو بؤراً ينطلق منها، ألا يجعلنا ذلك في المكان ذاته؟
نعم يبقينا في الموقع ذاته، وكما قلت فإنه يجعل القصيدة مشغولة بالتحديق بذاتها، بنرجسيتها، والقارئ يطلع منها لا أقول محايداً ولكن كأنه لم يكن فيها ولم يقرأها، لا هي اخترقته ولا اشترك هو في إعادة كتابتها. في الوقت نفسه أنا من التسامح بحيث لا مانع عندي أن يجرب البعض قصيدة لا موضوع لها إلا ذاتها. السؤال هو ما نتيجة هذا الجهد؟ لوحة تجريدية، قطعة موسيقية، هل يملك الشعر مقوّمات تجريدية حتى هذه الدرجة؟ أنا أشك، لأن الشعر يحتاج إلى ماء وتراب وعناصر هي التي تعطيه الحياة، ولا يستطيع أن يكون تجريدياً إلى هذا الحد لأن التجريد قد يوصل إلى حذف اللغة، وقد نصل حينها إلى ما يسمى <<شعر بياض>>. أنا أنحاز إلى موضوع، ومعنى، وبناء، وعناصر، تشكل قوام جسد شعري واضح، لكني لا أستطيع أن أرفض تجارب تسعى في منحى آخر. القصيدة منذ لحظة كتابتها الغامضة ذاهبة إلى مكان ما، وهناك فكر ما يقودها، قد تستقل عن هذا الفكر وتتمرد عليه وتأخذ فكراً آخر، لكن لا بد من أن تكون خاضعة لتصور مسبق عنها، بحيث لا تُترك حرة لتداعيات وثرثرات ومجانيات بلا نهاية لأن القصيدة فيها فكر ما، فكر شعر، يقودها، قد لا تنصاع له إلى حيث يريد، وهي قد تغير اتجاهه، لكن في البداية هناك بؤرة (كما سمّيتَها) يطلع منها إشعاع ما يحدد الاتجاه والتعديلات تحصل أثناء العملية. لا بد من خطة مسبقة، ليست عقلانية، عندي شيء أريد قوله وعندي إحساس أريد التعبير عنه، لست أكتب كتابة آلية، لست سريالياً، مع انه حتى السريالية والكتابة الآلية كانتا تقودان إلى شيء ما وليس إلى عبثية كاملة، والسريالية أثّرت في شعر غيرها أكثر مما أثرت في ذاتها. أما أن أمنح استقلالاً كاملاً للقلم والورقة ليشتغلا بدون تدخل مني، فأشك بأني سأصل بذلك إلى أي مكان
› في كتابتك لقصيدتك، هل تملك قبل الكتابة نقطة ما تنطلق منها؟
يكون لدي تصور ما، حالة ما، فكرة ما، أو موضوع ما، لكن شكل ما سأكتبه لا يكون واضحاً لي. كما قلت لك. لديّ رقابة على حركة القصيدة، وفي كثير من المرات تستقل القصيدة بحركتها، وهذا أفضل. إذ تقودني القصيدة أحيانا إلى معنى لم يكن خاطراً في بالي مسبقاً.
› لكن أليس للذاكرة دور هنا؟
طبعاً للذاكرة واللاوعي دور، فلا شيء يأتي من بياض، والذي يكتب هو جسد وعقل، لكن كيف تأتي الصورة من زمن بعيد جداً، لا نستطيع التحكم بمعرفة هذه الكيفية. حين أكتب يكون عندي تصور إما غامض أو واضح بأني أريد أن أقول شيئاً، قد يفلت من يدي، عندما يكون المعنى واضحاً تماماً وتكون القصيدة مرتبة في ذهني تكون النتيجة أسوأ. اللغة واللاوعي وتداخل الأزمنة تنتج قصيدة أفضل من قصيدة مخطط لها سلفاً. إنما أنا عندي تخطيط، وخاصة في المطوّلات. خطة تخضع طبعاً كما قلنا لتعديلات أثناء العملية لكن لا أشرع مرة في الكتابة وأنا لا أعرف ما سأكتب. أكتب أحياناً استمراراً لحلم ما، عندي دائماً إلى جانب سريري ورقة وقلم، أحياناً أحلم أني أكتب شيئاً أعتبره رائعاً، أحلامي ساذجة جداً، لكني أبدأ بالكتابة عندما يتحول كل هذا الذي أهجس به إلى إيقاع، ولا أكتب قبل أن يصبح إيقاعاً. ليست الفكرة ولا الصورة هما ما يجعلانني أكتب. حين تأخذ الفكرة والصورة إيقاعهما أعرف أنني بت قادراً على أن اكتب
تخريب اللغة
› أوكتافيو باث يقول إن الإيقاع ليس هو النغم فقط، بل هو إذا جاز التعبير الشكل الذي ينتظم القصيدة، ينتظمها لحناً وينتظمها فكرةً وينتظمها لغة
هذا شيء صحيح، كما قلت لك فالفكرة ليست كافية. الفكرة يجب أن تتحول إلى صورة، والصورة إلى إيقاع. صحيح ما يقوله باث، فالإيقاع جزء من التفكير. أعطيك دليلاً على ذلك من نفسي، فأنا لا أعرف أن أكتب قصيدة نثرية لأني لا أعرف أن أجد إيقاعاً نثرياً، لست متدرباً عليه، قد يكون في نثري الذي أعتبره نثراً لا قصيدة نثر شعرية أكثر وإيقاع أعلى، لكني لا أعرف أن أكتب قصيدة خارج الإيقاع والوزن، سأكتب حينها فكرة مجردة أو أضع صورة لذاتها. انه تدريبي النفسي وطريقة تنفسي إيقاعياً.... الإيقاع هنا ليس فقط ضبط الفكرة، إنه طريقة تنفس الشاعر، لذلك أقول دائماً إن الإيقاع ليس وزناً، فأنا أميز بين الوزن والإيقاع. الوزن هو أداة قياس، وإلا لكان الوزن الواحد ذا إيقاع واحد، الوزن الواحد الذي له إيقاع مختلف عند كل شاعر، لأن طريقة تنفس كل شاعر مختلفة عن الآخر. الإيقاع أعمق من أن يكون فقط ضبط وزن، بل إن طريقة تنفس كل شاعر في كل مرة تتغير. الإيقاع مكون ومايسترو للفكرة وطريقة تنفس أيضاً. وأنا لا أعرف أن أتكلم شعرياً إلا إيقاعاً ولا أعرف أن أبدع في الكتابة الشعرية إلا إذا دندنت بها، وأحياناً الإيقاع وحده يجعلني أكتب قصيدة. في كتابي الأخير تجربة لعبة إذ كتبت قصيدة كاملة ليس فيها أي فعل، كلها أسماء، واسمها <<هي جملة اسمية>>، لكني وجدت أن لها موضوعاً أيضاً. تمكني من الإيقاع جعلني أقدر على كتابة قصيدة كلها اسمية. قد أكتب قصيدة كلها أفعال، ربما أجرب كتابة قصيدة كلها حروف جر، وقد تصح. هذه الأمور بحاجة إلى تدريب وحب للغة وإيقاعيتها، ينبغي أن يكون عندك التباس بين اللعب والجد، أن تلعب إلى درجة بالغة الجدية، أو أن تكون جاداً إلى حد العبثية
› أود أن أسأل عما إن كانت اللغة بذاتها فقط استدعتك مرة إلى كتابة قصيدة ما تسميه أنت لعبة وقد يسمى توقيعاً أو تجويداً
لا جمالية شعرية من خارج اللغة. اللغة العربية غنية جداً والكلمة الواحدة تحمل معاني عدة وتكرارها وتغيير حركة واحدة فيها واحدة قد يخلقان معاني مضادة، كأن نقول مثلاً: عزف على البيانو أو عزف عن الشيء، هذه الامكانية تحرض أحيانا على رقص مجاني في القصيدة. جميل أن نرقص قليلاً، لا مشكلة في ذلك. اللغة بذاتها، إيقاعاتها وجماليتها واشتقاقاتها، ثم إننا نحن العرب، أي شاعر عربي أو أستاذ لغة عربية في الجامعة، إذا أجري له امتحان مفاجئ في معنى مفردة من صفحة تفتح عشوائيا من لسان العرب، فسيرسب. كل يوم نكتشف كم لغتنا متعددة وواسعة ولا نعرفها جيداً. فعندما يلم الشاعر بمعرفة لغوية جديدة يستهويه أن يلعب بها، مع أني لا أسرف في اللعب اللغوي
› هل برأيك أن الشعر هو اللغة الأقوى والأفصح؟
هناك رأي لا أعرف لمن هو، ربما لهايدغر، يقول بأن الشعر هو أساس اللغة وهو الذي يحمي اللغة لأنه بدأ شفهياً قبل نشوء اللغة. الشعراء وأصدقاء الشعراء من الفلاسفة يحبون أن يقولوا إن الشعر هو أرقى أشكال التعبير الإنساني. لا أعرف. ربما تكون الموسيقى أرقى
› أقصد في اللغة، هل الشعر أمتن صياغة لغوية؟
المفترض أن يكون كذلك، لكن إذا أردنا أن نحاكم حالتنا الشعرية نجد أن في شعر الشباب وخاصة لأن قصيدة النثر هونت عليهم الإحساس بالمسؤولية نقصاً في المعرفة اللغوية، هناك الكثير من القصائد أضعف من مقال متين. المفروض أن يكون النص الشعري أرقى الأشكال اللغوية. المفروض أن يكون هو ما يحمي اللغة ويجددها. من وظائف الشعر أن يعطي دائماً حياة جديدة للغة، هو الذي يجدد اللغة. لا تتجدد اللغة إلا على أيدي الشعراء، لكن ليس شعراءنا، ليس نحن. ذلك كان في الماضي، أما الآن فلا أعرف، ربما كان الشعراء يخربون اللغة. أنا أفهم التخريب الداخلي الواعي، تخريب النظام اللغوي أو هذا النسق اللغوي، لكن شرط أن يفعل ذلك شاعر كبير ولغوي كبير، أما التخريب الناجم عن جهل بحالة المبتدأ والخبر فهو غير مقبول
› يجذبني دائماً اسم المهلهل الذي هلهل الشعر، والذي أخذ قيمته الشعرية من جعله الشعر ضعيفاً لغوياً. الهلهلة هي شيء من الفوضى والركاكة، ولذلك توحي لي هذه الكلمة أحياناً بأن اللغة القوية هي النثر أحياناً وهي الأدب، الأدب الذي يبتعد عن المصادر الأولى للكلام، الشاعر مضطر لأن يبقى دائماً بمحاذاة هذه المصادر الأولى للكلام، أشعر تالياً بأن الشعر ربما ليس اللغة الأقوى، بل هو يجدد هلهلة اللغة أو ضعفها
لا، إذا كانت الهلهلة توصل إلى إحياء اللغة وتقريبها من الحياة واستيعاب عصرها الجديد فهذه تقوية للغة. نحن نتكلم عن مسألتين، عن اللغة والفصاحة. كان كل كلامك ضد الفصاحة، أبو نواس فعل ذلك، لكنه يتقن اللغة إتقاناً كاملاً ولديه معرفة رائعة بها. أنا أقبل الهلهلة من هؤلاء. إذا كانت الهلهلة تؤدي إلى إعادة الحياة أو إعادة الماء إلى عروق اللغة الجافة، فهذا برأيي تقوية للغة وليس إضعافاً لها. بأي معنى تقوي هذه الهلهلة اللغة؟ تحييها. أنا لا أستطيع أن أتكلم بلغة الجاهليين في القرن العشرين. الشعر الحديث، لذلك، أجرى هذه الهلهلة بمعنى أنه قرّب اللغة الفصيحة من اللغة المحكية أو لغة الحياة اليومية ومن وسائل الحياة المتداولة. مثلاً من ت. اس. إليوت أدخل اللهجات اللندنية الخاصة في نص كبير من روائع شعره. الهلهلة بهذا المعنى إعادة الحياة إلى لغة تصلبت شرايينها. ولذلك نحن لا نقبل الشعر العمودي
› في كتبك الأخيرة لا نجد إلا نادراً نهاية لكل بيت شعر، هناك نص متوالٍ متصل بحيث يمكن اعتبار كل النص بيتاً واحداً، هل انتهى تقسيم البيت. ما دمنا نتكلم عن عناصر الشعر؟
أظن أن البيت الشعري انتهى عندي منذ عشرين سنة، إلا إذا اقتضى قفل القصيدة أن يكون هناك بيت شعري. أنا أحب أن أمزج بين السردية والغنائية، امزج العناصر المشتركة بين الشعر والنثر. أحب أن يبدو نصي بصرياً كأنه نص نثري، ربما لا يصدق أحد إلى أي مدى أنا أحب النثر أكثر من الشعر، ولا أعرف لماذا يخاف الناس من كلمة النثر. النثر أرفع مستوى وأنبل. ثانياً، القصة التي أحكيها، تجربتي الحياتية التي أحكيها، ليست منظمة بحيث تعتمد على أبيات لها بدايات ونهايات. في كتابي الأخير وربما الذي قبله، القصيدة قد تُقرأ من أول كلمة إلى آخر كلمة على أساس أنها سطر واحد. أنا أرى أن هذا يعطي حيوية حركة وتصويراً لارتباك وفوضى ما منظمة في داخل بناء يبدو أنه فوضوي. أنا أرد على الفوضى الخارجية بفوضى بصرية لكن منظمة إيقاعياً. ثم أن نفسي الشعري طويل، أحب السطر الطويل، أحب الكرم في السطر الشعري. أتضايق كثيراً من شعر بلند الحيدري مثلاً لأن السطر عنده لا يتجاوز ثلاث كلمات مع أحرف الجر. لا أحب هذا البخل. قد يوحي مزجي بين السردية والغنائية، إلى حد ما، بنفس ملحمي، والنفس الملحمي يقتضي هذا السطر الطويل لأن القصيدة سطر واحد عملياً. هناك سطر وبيت شعري، لكن حجمه أو محتوياته قصيدة كاملة. هناك بعض قصائد تأخذ شكل الأغنية فيها سطور، لكني لا أحب تسكين آخر السطر الشعري، أحب أن يكون آخر السطر الشعري متحركاً، فإذا كتبت سطراً شعرياً وسكنت ثم كتبت بعده سطراً شعرياً فسيبدو هذا شعرا عموديا. أريد أن أوحي بتداخل الأشكال والمناخات وأحب أن أسترسل، ومع أن القصائد مقتضبة إلا أن السطر نفسه مسترسل وفيه جيشان داخلي
الأنا والآخر
› أثناء قراءتي الديوان الأخير لك فوجئت بأن القارئ، بقليل من الجهد، يستطيع أن يجد كأن هناك موضوعاً أساسياً أو لازمة كتابية متكررة، رأيت أن مرجعها وإن قيل انه أبو تمام، إلا انه قد يكون بورخيس، انه تعدد الأنا والتباس الأنا بالآخر، إلى أي حد يمكن القول أن احد مقومات <<لا أعتذر عما فعلت>> هو هنا، وكأنه يطرح إلى حد كبير سؤالاً دعنا نسمّه فلسفياً مؤقتاً؟
لمَ لا. ليس من عادتي أن أتكلم عن شعري، فلأفعل ذلك الآن على سبيل التجربة، الكتاب هو دفتر زيارة للذات وللمكان، لذلك وحتى لا يعرف القارئ إلى أين هو ذاهب وضعت هذا المفتاح، بيتاً لأبي تمام، توارد خواطر مع لوركا، <<لا أنا ولا البيت بيتي>> على لسان لوركا، بينما أبو تمام خاطب نفسه: <<لا أنت أنتِ ولا الديار ديارُ>>. هذه فعلاً رحلة بحث عن الأنا المنقسمة والموزعة. البحث عن المكان أسهل لأن المكان تغيّر بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى تغير في شكل المكان، هناك صورة بصرية (على الأقل) لا تحتاج إلى استقراء استشرافي ولا إلى بصيرة فالمكان تغيّر عياناً. الصعب هو علاقة تغير المكان بتغير الأنا، أو تغير الأنا وعلاقتها بتغير المكان. من الذي غيّر الآخر؟ هذا إشكال لم أجد له حلاً
سؤالك الثاني إشكالي أكثر من الأول. هناك آخران: الآخر الذي هو أنا، حين أقرأ نفسي من خارجها والآخر الذي هو الغريب، المختلف، الخصم، وهو موجود في مكاني بدلاً مني، التنقيب (اركيولوجيا) عن الذات، يصطدم بواقع، بحاضر، بتاريخ، بحروب، بتراكم ثقافات، بتعددية. إذن لا بد من الدخول في سجال فكري مع الآخر الذي احتل المكان لأنه يحمل نفس الدعوى التي أحملها أنا ويدّعي أن هذا مكانه وأنني أنا الغريب فيه، هو أيضاً في حيرة لأنه لا يجد نفسه. هناك اصطدام بحثين، اصطدام ذاتين تبحث كل منهما عن ذاتها في الآخر، لكن أنا أجرأ من الآخر في البحث عن نفسي فيه، هو لا يملك الجرأة الوجودية على أن يبحث عن نفسه فيّ لأنه ينكر وجودي، وإذا اعترف بأن فيه شيئاً مني يضع وجوده نفسه موضع تساؤل
› ما قلته كان تفسيراً لم يخطر على بالي، لكن بعد كلامك أكتشف شيئاً غريباً هو إلى أي حد قد يصبح الموضوع الفلسطيني قاعدة لما يتعداه، لما هو ميتافيزيقي وأنطولوجي، أثناء قراءتي الكتاب لم أفكر مرة بالفلسطيني بل كنت أفكر في متاهة الكون، في السؤال الأنطولوجي: من أنا ومن الآخر؟ وهل هناك أنا أصلاً؟
قدمت لي الآن أحسن إطراء سمعته في حياتي، بمعنى أنني إذا استطعت أن أنقل هذه الحالة الشخصية التي تبدو صغيرة إلى الفهم الأرقى والإنسان الأشمل فذلك يعني أني نجحت إلى حد ما في الوصول إلى ما تكلمنا عنه أثناء الحديث، أي إعطاء الشعر جماليات تمنحه إمكانية العيش لا في زمن آخر فحسب بل في وعي آخر أيضا. أنا سعيد جداً بقراءتك
› من امتيازك الشعري أن الغربة الفلسطينية تحولت إلى أوذيسة كونية، قدرتك على ملحمة فلسطينية وعلى خلق أسطورة حديثة... هنا السؤال الفلسطيني يتحول إلى سؤال ميتافيزيقي وجودي، وهذا يمنح الشعر ميزة ويجعل قراءته غير مشروطة بمعرفة الظرف الفلسطيني
حتى فلسطين ليست مذكورة في الديوان إلا مرة واحدة وعلى لسان ريتشاردز لا على لساني
› لكن عندي سؤال لا يتعلق بشعرك مباشرة بل بالشعر عامةً، واحد مثل ميشونيك يشكو من سطوة الفلسفة على الشعر الحالي، ويرى أن الفلسفة تؤذي الشعر. هذا رأي وهناك رأي آخر يرى أن إحدى مشاكل الشعر الحالي أن الشعر في الأساس تغنٍّ بالعالم وعندما يتحول إلى نقد للعالم يصبح عقيماً
الشعر الكبير لا بد من أن يخترقه فهم ما أو رؤية ما للكون والوجود، وهو ليس تعبيراً عن هموم شخصية وخاصة. السؤال هو كيف تتجلى المعرفة بكل أبعادها، المعرفة التاريخية والمعرفة الفلسفية... كيف تتجلى في النص الشعري. الخلاف ليس على أن يكون للقصيدة محمول ثقافي. رأيي أن النص الذي لا يحمل تاريخاً وثقافة هو نص هش، السؤال هو كيف تتجلى كل هذه المسائل، هل تتجلى تجلياً واضحاً، تجلّي مقولات، تجلّي اقتباسات، أم هي متغلغلة في النص وتتجلى عبر الحواس؟ في رأيي أن أي معرفة أو فكر لا يتجلى عبر الحواس يعاني مشكلة حقيقية. على الشاعر الذكي أن يكون جسدياً بمعنى حسي، المعرفة يجب أن تتجلى شعريا من خلال الحواس، لا من خلال الذهن والمقولات. الذهن موجود والمقولات موجودة والمعرفة موجودة، كلها موجودة كخلفيات، لكن كيف تدخل في النص وتتغلغل فيه، يجب ألا تكون مرئية وأن تحسن إخفاء مرجعياتها بحيث يطلع النص عند أول اصطدام بالسؤال ولا يبدو بحث البحث. يجب أن نميز بين النص الشعري والنص الفلسفي. قد يستعمل الشاعر جملة فلسفية، لا مشكلة، لكن على النص أن يمتصها. أنا منحاز إلى تجلي الفكر حسياً لا ذهنياً
› إذن ما رأيك بما يسمى <> أو القصيدة الضد لما يسمى القصيدة الموضوعية التي تفترض أن يكون الشعر خارج الغناء وخارج الذات؟
هناك أيضاً دعوة من ناقد ألماني إلى عدم البحث في الشعر عن الجماليات
والبحث عنها في أشكال فنية أخرى، إلى قصر الشعر على الموقف والسياسة. هذه كلها اجتهادات لبحث الشاعر عن حضوره ودوره، والأسئلة التي كان يبدو أنها انتهت منذ زمن تعود من جديد، ما الوظيفة الاجتماعية للشعر والشاعر. مسألة ضدية الشعر هي أيضا جزء من البحث، إلغاء الغنائية وإلغاء الإيقاع الخ... هذه تجارب مفتوحة وجميل أن تكون مفتوحة لكن في آخر الأمر نعود ونقرأ الشعر في الليل فلا نفتح هذه الكتب. ما زلنا نحن، وكل العالم، لا نحب أي شعر لا نسمعه. العين لا تكتفي بالقراءة. صديقك أوكتافيو باث يقول إنه لا شعر مكتوباً، الشعر كله شفهي أي مسموع، والمكتوب كله وهم. حتى العين عندما تقرأ الشعر تستبدل وظيفتها، تصبح مستمعة، فحين تقرأ نصاً شعرياً فإنك تدندن به وتستمع إلى إيقاعه. كل هذه التجارب الجميلة ضرورية بالنتيجة، لكن حين نعود ونقرأ الشعر فإننا نطلب أن نشعر بشيء من الطرب، (هذا الرأي يهزك) نطلب طرباً، نطلب موسيقى. لكن مفهوم الطرب يختلف هنا، حتى حين نتكلم عن الصمت ونستنطقه فإننا نستنطقه صوتياً. لذلك يبقى عندنا حنين دائم لأول الشعر الذي هو الغنائية، الإنشاد، الرقص، وحشة الكون أو هدوؤه، نريد دائماً شيئاً مسموعاً. لذلك لا أفهم حتى الآن الغضب العربي الحديث من الغنائية، لا أفهم تعريف الغنائية في الشعر العربي. في باقي الشعريات العالمية الغنائية هي ما ليس درامياً وما ليس ملحمياً، عندنا ربط ميكانيكي بين الغنائية والرومنطيقية، بين الغنائية والغناء والتطريب، مع ذلك فإنك لدى أكثر الشعراء حداثة في العالم حين تحب مقطعاً شعرياً لأحدهم تقرأه بصوت عال. عيناك لا تكتفيان بملامسة النص. في آخر الأمر أجد أن الموسيقى ثابت في الشعر، كما أصبح أيضاً شبه محرم عندنا هو العواطف، نحن العرب نربط بين الحداثة وإلغاء الإحساس. يقال إن العواطف شيء مائع. طبعاً هناك عواطف كثيرة مائعة، وت. اس. إليوت أحدث معادلاً موضوعياً، أما إلغاء العاطفة كلياً... فلا. قد تدعي القصيدة أنها من دون عواطف وهذا أرقى أشكال العواطف. الحسية والعواطف والإيقاع، هذه عناصر يجري البحث عن تجديد مفهومها لكن ليس إلغاءها. هناك إيقاعية جديدة، غنائية جديدة، وهناك أيضاً حسية جديدة، لكن لا تُلغى هذه العناصر الثلاثة إلغاءً كاملاً. طريقة التعبير عنها تتغير لحمايتها من الإرهاق، فأي شيء يتكرر يصبح مرهقاً، واللغة أيضاً تتعب. فما هو الآن حديث جداً وعظيم جداً يصبح بعد فترة تقليدياً. لذلك يحتاج الشعر دائماً إلى تجديد طريق توسّطه بهذه العناصر، طريقة تعبيره عنها، طريقة توظيفها في القصيدة. أما الاستغناء عنها... فلا أتصور موسيقى بلا نغم
› الموسيقى الحديثة بلا ميلودي... ولم ينصحوني بسماعها حتى في ألمانيا
أنا سمعتها، هناك موسيقي سويسري ألّف سيمفونية كاملة عن حالة حصار بهذه الطريقة، ودعاني إلى سماعها، وأثناء ذلك طلبت من الذي إلى جانبي أن يوقظني إذا نمت، وهو أيضاً طلب مني ذلك. كان هناك جمهور كبير، وأعيدت على المسرح ثلاث مرات. أحترم ذلك. يجب أن نكون ديمقراطيين فنقبل بكل هذه التجارب. لماذا لا نزال نقرأ شكسبير، ونقرأ المتنبي. كلما كان لدينا حنين إلى شيء قرأنا المتنبي أو أنشدنا أبياتاً منه. التمرد الصحي جداً يتم في جيل معين، وحين نبلغ سناً معينة نعود فنسخر من تمردنا، نتسامح مع ماضٍ تمردنا عليه
التصوف
› ألاحظ في شعرك أن احد المراجع المفترضة للقصيدة الحديثة وهو التصوف، لا يحضر في قصيدتك، مباشرة على الأقل، سواء في ذلك النص الصوفي أو النظام الصوفي أو المصطلح والقاموس الصوفيين
أنا شديد الإعجاب بالنثر الصوفي لا بالشعر الصوفي، وليس كل النثر، هناك نثر صوفي تتحقق فيه شعرية لم تتحقق في الشعر العربي، وأنا أعتقد أن بذور الحداثة الحقيقية في الشعر العربي موجودة في نصوص النثر الصوفي، لكن الصوفية منطقة مخاطرة بالنسبة إلي، مخاطرة لأنها تقترن بشيء من الدين، سواء في معانقته أو التمرد عليه، وأنا لا أحب دخول هذه المنطقة. ثانياً، من فرط ما تحولت ملامسة النص الصوفي في الشعر العربي الحديث إلى موضة أصبحت تقليدية، وأصبح التمرد عليها من شروط الحداثة الحقيقية. كتبت نصاً واحداً هو الهدهد على هامش منطق الطير، وطربت وأنا أبحث وأكتب... لكني لاحظت أن ذلك يأخذني إلى منطقة مغلقة، فهناك حلقة مفرغة يدور فيها النص ويصل إلى منطقة لا أحب دخولها، هي المنطقة الميتافيزيقية، أدخلها كاستعارات، كاستطرادات، كتأويلات لكن لا أدخلها كمنطقة عمل، لأني أخاف منها، وهي لا تعنيني كسلوك ولا كخيار فكري
› هل هذا يعني أن شعرك دائماً على الأرض؟
في شعري أرض، هناك شيئان يحملان النص الشعري: أرض وتاريخ. نصي الشعري محمول دائماً على أرض وتاريخ، حتى في الهدهد عدلت في نهاية منطق الطير، بحيث صار الهدهد يحن إلى الأرض التي انطلق منها. حاولت أن أدخل في المراتب المعرفية التي عند الصوفيين، ولكن عندما وصلت إلى أبعدها عدت بالطائر (الهدهد) إلى الأرض ورأى الأرض من فوق. تنتهي تلك القصيدة الطويلة بغناء راقص لجمالية الأرض، لأن اللغة تبدأ من الأرض
› ربما ترفض لشعرك أن يكون ثقافياً بالكامل، إن وجد مجازاً شعر ثقافي؟
بالمعنى الاصطلاحي لا أحب أن يكون الشعر ثقافياً
› في القصيدة الحديثة هناك رأي يستبعد وجود قاموس شعري خاص يرى أن الكلمات ليست شيئاً إلا داخل الجمل والعبارات، وأنه لا وجود لكلمات مستقلة وألفاظ مستقلة، لكننا نرى أحياناً أن هناك كلمات لها سحر خاص وأن هناك قاموساً خاصاً بكل شخص. هل تشعر بأن لك قاموساً خاصاً بك، كلمات تجتذبك أكثر، وكلمات تستدعيها أكثر؟
صحيح، لكني منذ سنوات بت أنتبه وألاحظ أن هناك كلمات ترد كثيراً عندي وحين ترد في النص أستبعدها. أكتبها ثم أحذفها، لأني لا أريد لقاموسي الشعري أن يكون له مفاتيح وكلمات محددة. صرت أتقصد استبعاد مفردات معينة ربما كانت ضرورية، لكني أستبعدها وأبحث عن غيرها حتى لو كانت بديلتها هجينة
الخسارة
› كشاعر فلسطيني، شعرك اقترن على نحو ما بالقضية الفلسطينية أو المسألة الفلسطينية، وكنا نتحدث قبل قليل عن ميزة هذا الشعر بنقله هذه المسألة لتكون أكثر كونية، لكن ما يهمني في الموضوع أنك كشاعر تبدو لي دائماً كشاعر مراثٍ، كشاعر رثاء، وبمعنى من المعاني إذا أردت شاعر تعزية، لا أطلب منك أن توافق على هذا القول، وإذا أردنا أن نستطرد في هذا الكلام، إلى أي حد أنت شاعر الهزيمة الفلسطينية أكثر منك شاعر الانتصار الفلسطيني؟
أتمنى أن يكون هناك شاعر آخر للانتصار الفلسطيني، أتمنى أن نصل إلى انتصار، وكما قلت لك في حديث منذ سنوات، أتمنى أن أكون شاعراً طروادياً. ليس الشاعر هو من يحدد الهزيمة أو النصر. من سوء حظي أنني لست شاعر الانتصار لسبب بسيط هو أننا لم ننتصر، وإذا انتصرنا فلست متأكداً من أنني سأكتب عن النصر، فلفرط ما أدمنت لغتي الشعرية الخسائر، أصبحت غير قادرة على أن تكتب نشيداً وطنياً منتصراً. ثانياً ليس هناك شاعر انتصار، والشعر دائماً حليف الخسائر الصغيرة والخيبات، وهو المتفرج المحايد على الجيوش الإمبراطورية. أعتقد أن صورة طفل يتفرج على جيش الاسكندر فيها شعر أكثر من جيش الاسكندر كله، أو أن العشب الذي ينبت على خوذ الجنود هو الشعر وليست الخوذ هي الشعر
لا أريد أن أفلسف المسألة، لكن لا أظن أني شاعر مراثٍ. أنا شاعر محاصر بالموت. قصة شعبي كلها قصة صراع الحياة مع الموت، وعلى المستوى اليومي كل يوم عندنا شهداء. الموت عندي ليس استعارة، ولست أنا من أذهب إليه كموضوع بل هو يأتيني كحقيقة. عندما كتبت الجدارية التي هي عن موت شخصي كان في نيتي أن أكتب عن الموت، حين قرأت القصيدة بعد كتابتها رأيتها قصيدة مديح للحياة. قد يجد بعض القراء عزاءً في شعري عن خسائر ما، لكن من الظلم أن تسميني شاعر عزاء
› لا تتخيل إطلاقاً أنها كلمة سلبية، المعزي أقرب الأشخاص إليّ
أحاول أن أحمي هذه الصورة بتمجيد أشياء صغيرة، أعشاب وصخور وزهرة لوز الخ... اكتشفت متأخراً أن الشعر لا يستطيع أن يحارب الحرب لا بأسلحتها ولا بلغتها، بل بنقيضها، نقيضها الهش، يحارب الحرب بالهشاشة الإنسانية، بنظرة الضحية في عيون الجلاد، من دون أن يفهم الجلاد ما تقول الضحية، بعشب متروك على الطريق، بأولاد يلعبون بالثلج... بالعناصر الإنسانية الصغيرة تستطيع أن تقدم صورة حياتية نقيضة للحرب لكنك لا تستطيع أن تقاتل الحرب بأسلحتها ولا بلغتها، والشعر أصلاً لا يستطيع أن يفعل ذلك الشعر الحديث لم يعد قادراً على فعل ذلك. هو يحارب بنقيض ذلك، أي بجماليات الحياة البسيطة، الصغيرة، الهادئة، غير المفكرة، البديهية... بالفطرة. ولا يستطيع أن يحارب بخطاب كبير. أظن أن هذا أكثر تأثيراً لأن اللغة الكبيرة انتحار. لغة الملاحم الكبرى والانتصارات الكبرى انتهت
لا أعرف إلى أي حد أنا مهزوم أو منتصر. ربما أنا منتصر باللغة الشعرية، ربما انتصاري هو الشعر، وهذا إن كان صحيحاً فهو تفوق حضاري وثقافي مهم. الإسرائيلي منتصر بالسلاح النووي والطائرات... أنا أعتبر نفسي منتصراً بالقصيدة. الطائرة تسقط أما القصيدة فلا تسقط إن كانت جميلة. الخطر هو أن يكتب شعر جميل لكن الشعراء الذين يكتبون شعرا جميلا ليسوا مع الحرب
الأزمة
› ألا ترى أن القصيدة العربية الآن في مشكلة. بداية لنتكلم عن قصيدة التفعيلة التي لا أرى أي شاعر شاب مهماً فيها، هل ترى مستقبلاً لقصيدة التفعيلة، وهذا الكلام ليس انتصارا لقصيدة النثر بل فقط لتقسيم السؤال
لست متأكداً من ذلك، لكن ما هو السبب هل هو التفعيلة أم الشاعر؟ إذا باشرنا قراءة إحصائية للشعر العربي الذي يُنشر نجد أن عدد القصائد الأجمل فيه هي بالصدفة مكتوبة بالنثر، وهي أكثر من القصائد المكتوبة بالعمودي أو التفعيلة. هذا إحصائياً، لكن كيف نستطيع أن نحول ذلك إلى حكم قيمي، لا أعرف. كيف نستنتج منه استنتاجاً نقدياً، لا أعرف. أعرف شعراء نثر كثيرين جيدين يعترفون بأنهم لا يعرفون الوزن، لكن أيضاً هناك من يكتبون التفعيلة... مثلاً عندنا في الشعر الفلسطيني غسان زقطان، رهاني الشعري كبير عليه، وهو يكتب تفعيلة
› أتكلم عن شبان جدد، عن شعراء في الثلاثينات من العمر
لا أعرف إلى أين سنصل بهذه الملاحظة، قصيدة التفعيلة عمرها ليس أكثر من ستين سنة، ومن الغريب أن تدخل في هذه الفترة الزمنية القصيرة في هذا المأزق.... لكن خصوم قصيدة النثر يقولون أيضا إن عمرها الزمني اقل وهي أيضاً تراجع نفسها... إذا أردنا أن نقيس أطوار الشعر العربي وننتقل من العمودي إلى التفعيلة إلى النثر، فما هو الطور المقبل، هل تعود الدائرة أم ندخل في اللاكتابة؟ كيف نتكهن بمستقبل الكتابة الشعرية؟
لمَ لا تقول إن عندنا أزمة إنجاز إبداعي. هل الأزمة في خيار الشكل هذا أم عند الشاعر نفسه. لا أعرف كيف أشخص
› عندي إحساس بأننا في كل شيء وليس فقط في الشعر، نتجه كلنا نحو نموذج واحد، في الثقافة في الشعر وفي غير الشعر... تجد فجأة أن هناك اتجاهاً نحو التنميط أو نحو نمذجة سريعة جداً لكل شيء، لذلك أرى أن المشكلة مشكلة ثقافة وليست مشكلة إبداع، حتى الشعراء الذين يقعون في التنميط ليست عندهم مشكلة قيمة إبداعية إذا ما وجدوا أنفسهم أمام خيارات شعرية ثقافية أوسع
تتكلم عن نمذجة، لكننا الآن نعيش في الحقبة التاريخية نفسها كل تاريخ الشعر العربي. لا تزال هناك الآن قصيدة عمودية يكتبها مئات الشعراء، وهناك قصيدة تفعيلة يكتبها آلاف الشعراء، وهناك قصيدة نثر يكتبها عشرات آلاف الشعراء... هذه النماذج كلها تعيش في حقبة تاريخية واحدة. حتى ثقافياً كل واحد ينتمي إلى تاريخ مختلف. ليس عندنا مرجعية واحدة
› لا أتكلم عن مرجعية، نجد أنفسنا في كل نوع أمام قصيدتين أو ثلاث ويجري اللعب والشغل عليها بعد ذلك، والأمر نفسه قد يصح في قصيدة النثر. كثرة الشعراء لا تعني كثرة القصائد
كلما كثر الشعراء قلّ الشعر. في رأيي لكن من المبكر الجزم بأننا في مأزق. إذا قرأت في السنة عشر قصائد جميلة في شتى الخيارات، فإن الشعر بخير. خذ تاريخ الشعر العربي كله من الجاهليين حتى العموديين اليوم، كم شاعراً كبيراً تجد، عشرين شاعراً؟ لكن عشرات الآلاف كتبوا. حكمنا ينبغي ألا يكون كمياً. لكي يطلع شاعر كبير يجب أن يتوافر شعراء كثر
تجربتنا لم تصبح تراثا، ولم تدخل في حالة كلاسيكية بالمعنى النسبي حتى نحكم عليها. نحن لا نزال في خضم معركة التجديد. لا أريد أن أتسرع في إصدار أحكام
لا نجد أحدا من الشبان يملك بوضوح قصيدة أخرى
أتفق معك في ذلك، لأنهم دخلوا في نموذج محدد اسمه قصيدة النثر باعتباره آخر إنجاز شعري. أيضا هناك مشكلة ثقافية. المثال ليس أصليا، فأنا اسمع وأقرأ كثيرا في الصحافة العربية الأدبية تنظيرات من شعراء صغار، لا تعرف أصادرة هي من باريس أم من غزة أم من أسيوط، وكلها تتكلم عن الأوزان والإيقاعات في الشعر الفرنسي والشعر الإنكليزي بناءً على مقالات ونماذج مترجمة. حين يقرأون الشعر مترجماً والشعر يُترجم إلى العربية نثرا يظنون أن الأصل هو هكذا. هذه مشكلة تربوية
› لماذا لم تستمر قصيدة التفعيلة؟ لماذا لا نجد لها شعراء مستقبليين مثلا؟
لأنكم أرهبتموهم. لأنهم نشأوا على هذا النموذج السائد. هناك من الشعراء الجدد من لم يكن خيارهم ثقافياً، بل كان خياراً استسلامياً. لم يريدوا الدخول في متاهات العروض والأوزان الخ... هذه هي الموجة السائدة وهي المثال الذي يُحتذى، فقد تكون السهولة هي التي جعلت العدد الأكبر من الشباب يختارون هذا الشكل، لكن لو سألت ابن ال24 سنة لماذا تكتب يقول لك إن الوزن يضيق بي
يبقى السؤال الذي ليس لي جواب عنه، هو هل المأزق عميق وحقيقي، هل الخيار المقبل سيكون بمعالجة الأزمة من خلال تطوير الشكل نفسه، أم اختيار شكل آخر (وليس عندنا غير القديم). لا أرى خيارا رابعا لأنه ماذا بعد النثر؟ ماذا بعد العمودي والتفعيلي والنثري؟
› المفروض أن النثري والتفعيلي يستطيعان أن يعيشا مئات السنين لا العشرات فقط
إذا كان الأمر كذلك فالأزمة إذاً ليست أزمة الشكل بل أزمة الشعراء
طبعاً هي أزمة شعراء
الشكل ليس اداة انتهى استخدامها
› أسألك سؤالاً أخيراً. تقول في الجدارية: هزمتْك يا موتُ الفنونُ جميعها. إلى أي درجة هذا الكلام تبشيري؟ إلى أي درجة هو حقيقي بالنسبة إليك؟
هو ليس حقيقياً، بل خلق مبرر لاستمرار تناسي الموت، لاستمرار الإنسان في أن يعيش متجاوراً مع الموت لكن ناسياً إياه. لأنك إذا ذكرت الموت تتعطل الحياة وتتعطل حركتك وتطورك. هناك بحث عن مبرر للوجود هو الفن. فبالفن يسجل الإنسان حضوره ووهم خلوده. الخلود وهم طبعا، لكن الإنسان لا يستطيع أن يعيش بدون وهم، ولا يستطيع أن يتصور أنه يمر هذا المرور السريع وتنتهي حياته. أمامه حلان: إما حل فني، أن يترك أثرا يعتقد أنه هزم به الموت، وهو فعلا هزم به موته الشخصي، وإما خيار ديني، مفاده أنه سيجد الحياة في العالم الآخر. لا خيار ثالثاً. إما أن تنتصر بترك أثر في الحياة تعتقد أنه هزم موتك الشخصي أو موتك البشري، أو أن تقبل وتنتظر الحياة الأبدية في الآخرة. أسأل نفسي: أيهما أقسى، الموت أم الأبدية؟
جريدة (السفير) 2003/11/21
حاوره عباس بيضون