لما تنته الطريق بعد كي أعلن عن بداية الرحلة
كل طريق توصلني إلى بداية أخرى، والخروج مثل الدخول مشرّع على المجهول
كنت في السادسة من عمري عندما رحلت نحو ما لم أكن أعرف. في ذلك اليوم، إنتصر جيش عصري على طفولة لم تكن تعرف من الغرب بعد إلا عطر البحر المالح وذهب الغروب فوق حقول القمح. دافعنا وقتها عن العلاقة الهادئة السرمدية التي تربط الفلاحين الطيبين بالأرض الوحيدة التي عرفوها، الأرض التي ولدوا عليها
لم تتحول السكك والمحاريث إلى سيوف إلا في قصص الأنبياء. أما سككنا نحن فتكسّرت أمام طائرات ودبابات الغرباء الذين شرّعوا بهذه الطريقة حكاية حنينهم الطويل إلى "أرض الميعاد". لقد تغذّى الكتاب على القوة وكانت القوة بحاجة إلى كتاب
منذ اليوم الأول رافق الصراع من أجل الأرض غزو للماضي وللرموز. ولبست صورة داود درع جليات، وأمسكت صورة جليات بنقّيفة (مقلاع) داود. ولكن الطفل الذي كنته لم يكن بحاجة إلى من يقص عليه التاريخ كي يعرف طريق الأقدار المجهولة التي دشنت هذه الليلة الرحبة الممتدة بين قرية جليلية وشمال مضاء بقمر بدوي معلق فوق الجبال.
في هذا اليوم، اقتُلع شعب من حاضره الحميم، وفُصل بينه وبين خبزه الطازج كي يتردّى في ماضٍ آت. هناك، في جنوب لبنان، نُصبت لنا خيم هشّة وتغيرت أسماؤنا. ختمونا بنفس الختم فأضعنا تمايزنا وأصبحنا كلنا "لاجئين"
- ما هو اللاجيء يا أبي؟
- لا شيء، لا شيء، لن تفهم ...
- ماذا يعني أن تكون لاجئاً يا جدي؟ أريد أن أعرف ...
- أن تكون لاجئاً يعني أن لا تكون طفلاً من الآن فصاعداً ...
لم أعد طفلاً منذ قليل. منذ أن استطعت تمييز الحقيقة من الحلم، ومنذ أن قدرت على التفريق بين ما يحدث وبين ما حدث منذ سويعات. هل يتحطم الوقت مثل الزجاج ؟
لم أعد طفلاً منذ أن عرفت بأن مخيمات اللاجئين في لبنان هي الحقيقة وأن فلسطين، من الآن فصاعداً، سوف تسكن الحلم.
لم أعد طفلاً منذ أن جرحني ناي الحنين، منذ أن كان القمر يكبر فوق أغصان الشجر وأنا تسكنني رسائل العتمة؛ رسائل إلى البيت المربع وشجرة التوت العالية والحصان العصبي والحمام البري والآبار ... رسائل إلى خلايا النحل التي كان عسلها يجرحني إلى دربي العشب اللذين يقودان إلى المدرسة وإلى الكنيسة...
- هل وضعنا هذا سوف يطول يا جدي ؟
لم أتعلم كلمة "منفى" إلا عندما صارت مرادفاتي أكثر ثراء، فكلمة العودة هي الخبز اليومي للغتنا؛ عودة إلى المكان، عودة إلى الزمان، عودة من المتنقل المتحرك إلى الثابت، وعودة من الحاضر إلى الماضي والمستقبل في آن. عودة من الاستثناء إلى القاعدة، من خلية في سجن إلى بيت من حجر. هكذا أصبحت فلسطين كل ما لم تكن؛ فردوساً مفتوحاً حتى ذلك اليوم الذي تسللنا فيه إلى داخلها من جديد.
يومذاك وجدنا بأن البلدوزارات الإسرائيلية كانت قد محت آثارنا فلم نعثر على أي شيء من ماضينا. حضورنا أصبح منذها جزءاً من آثار الرومان. حرمت علينا الزيارة واكتشف الطفل "أدوات الغياب العتيدة" وطريقاً مشرعاً نحو الجحيم، فهذا كل ما بقي من فردوسه المفقود.
............................
لم تكن بي حاجة لأن يقصّوا علي تاريخي.
لقد عادت المخرجة "سيمون بيطون" إلى مسقط رأسي بعد 50 سنة كي تصوّر بئري الأولى وأول روافد لغتي، فاصطدمت برفض القاطنين الجدد للمكان وسجلت هذا الحوار مع المسؤول عن المستعمرة الإسرائيلية:
- هنا ولد الشاعر ...
- وأنا أيضاً ولدت هنا ... عندما جاء أبي إلى هنا لم يجد إلا الأنقاض. أقمنا أولاً في الخيام ثم في بيوت حقيرة. لقد عملت طيلة عشرين سنة قبل أن أستطيع بناء هذا المنزل. فهل تريدينني أن أعطيه له؟
- أريد أن أصوّر الأنقاض فقط، ما تبقى من بيته. إنه بعمر أبيك، أولا تخجل من أن ترد هكذا ؟
- لا تكوني ساذجة. إنه يطالب بحق العودة.
- هل تخاف من أن يحصل على حق العودة ؟
- نعم ...
- ويطردك كما طردته؟
- أنا لم أطرد أحداً ... لقد أتو بنا في سيارات نقل كبيرة ثم أنزلونا هنا وتركونا لأنفسنا.
- ولكن من هو هذا "الدرويش"؟
- رجل يكتب حول هذا المكان... حول التينات البرية هذه ... حول هذه الأشجار وهذه البئر.
- أي بئر؟
- هناك 8 آبار في البلدة ... كم كان عمره ؟
- 6 سنوات ...
- والكنيسة، هل كتب عن الكنيسة ؟ .... كان هنا كنيسة ولكنها دمرت. وحدها المدرسة تركوها كي تأوي إليها الأبقار والعجول.
- حولتم المدرسة إسطبلاً ؟
- ولم لا؟
- صحيح، بعد كل ما جرى، لم لا ؟!!! ... كان لديهم حصان أيضاً ، ولكن ... هل أشجار الفاكهة ما زالت هنا؟
- طبعاً ... عندما كنا صغاراً كنا نأكل من ثمارها ... تيناً وتوتاً وكل ما خلق الله .. هذه الأشجار هي طفولتي!!!
- وطفولته هو أيضاً ...
هذه الأرض لم تكن صحراء إذاًَ، ولم تكن خالية من السكان. هناك طفل يولد في مهد طفل آخر. يشرب حليبه، يأكل توته وتينه، ويعيش مكانه مرتعداً من عودته دون ندم يذكر، ثم يقول لنفسه بأن هذه الجرائم التي ارتكبها الآخرون هي أيضاً من صنع القضاء والقدر. هل يستطيع مكان واحد أن يتسع لحياة مشتركة؟ هل يستطيع حلمان أن يتحركا بحرية تحت نفس السماء؟ هل يستطيعان ذلك دون أن يكون على الطفل الأول أن يكبر بعيداً وحيداً محروماً من الوطن والمنفى لأنه عندما لا يكون هنا فهو ليس هناك أيضاً ؟
مات جدي كمداً وهو يرى الآخرين يعيشون حياته. مات وهو يتأمل الأرض التي سقاها يوماً دموع جسده وهو ينتوي أن يخلفها لأولاده من بعده. رائحة الجغرافيا المهشمة فوق حطام الزمان قتلته، فحق العودة من رصيف على شارع إلى رصيف على شارع آخر يقتضي ألفي سنة من الغياب؛ هذا هو الشرط كي تنتسب الأسطورة إلى الحداثة.
بالنسبة لي، سعيت نحو التآخي بين الشعوب، عبر حوار مفتوح في غرفة السجن مع سجّان لا يتخلى عن قناعته بغيابي.
- من تحرس إذاً ؟
- نفسي القلقة.
- ما الذي يقلقك أيها السيد الطيب ؟
- شبح يطاردني ويصبح أكثر حضوراً في كل مرة أنتصر بها عليه.
- لا شك بأن الشبح هو آثار الضحية على الأرض.
- ليس هناك من ضحايا غيري، أنا هو الضحية.
- ولكنك القوي القادر والسجّان. لماذا إذاً تنازع الضحية المكان؟
- كي أبرّر أفعالي ... كي أكون على حق دائماً. كي أصل مرتبة القداسة وكي أفرّ من النوم.
- لماذا تسجنني إذاً ؟ هل تظن بانني الشبح ؟
- ليس بالضبط، ولكنك تحمل اسمه ...
لعل الشعر مثل الحلم، لا يكذب ولكنه لا يقول الحقيقة. لعل الشعر، هذا الجنون الذي يشير إلى العناصر الأولية، ليس إلا ذاكرة الأسماء. لعله ليس لعبة بريئة إلا للذي يضع وجوده في المتراس خلف المكان المصادر والذاكرة المصادرة والتاريخ والأسطورة. لا، الشعر ليس لعبة بريئة لأنه يدل على كائن يجب ألا يكون موجوداً، ولكن المنفى يكبر أيضاً مثل الأعشاب البرية في ظل أشجار الزيتون. على العصفور إذاً أن يحقق اللقاء بين السماء البعيدة وأرض طردت منها فضائلها السماوية. نادرة هي البقاع التي تتمتع بوفر في الجمال كذلك الذي تبوح به أرضنا، أرضنا غير القادرة على إحداث القطيعة الضرورية بين الحقيقة والأسطورة. ليس من حجر هنا، ليس من شجرة لا تحكي تاريخ المواجهة بين المكان والزمن، وإحساسي بعدم رسوخ قدم الغريب يتزايد كلما تزايد الجمال ورسخت قدمه وكنت أنا الحاضر والغائب؛ نصف مواطن ولاجيء كامل.
أبذر شوارع حيفا على خاصرة الكرمل بين الأرض والبحر وأتشوق لحرية لا تتيحها لي سوى القصيدة التي سوف يسجنوني من أجلها.
عشر سنوات ... عشر سنوات لا أستطيع بها الخروج من حيفا. ومنذ سنة 1967، منذ أن اتسعت رقعة الاحتلال الاسرائيلي أكثر، فرضوا علي عدم مبارحة غرفتي من غروب الشمس حتى مشرقها، وتسجيل حضوري في قسم الشرطة كل يوم في الساعة الرابعة بعد الظهر.
صادروا ليالي ولم يبقوا بها من خصوصية. كانت الشرطة تقرع بابي في أي وقت تريد كي تتأكد من تواجدي في البيت. لكني لم أكن حاضراً، لقد كنت مجبراً حقاً أن أمضي تدريجياً إلى المنفى منذ أن تداخلت حدود الوطن والغياب في ضباب الشعور. كنت أعلم بأن اللغة قادرة على أن تبني ما تهدم وأن تجمع ما تفرق. وليس من شك بأن "هنا" الشعر، في مرحلة نضجها بين الأفق والسلاسل، كانت بحاجة لتوسيع البعيد.
المسافة بين المنفى الداخلي والمنفى الخارجي لم تكن مرئية. كانت جزءاً من الصورة عندما كان معنى الوطن أصغر من حجمه. وفي المنفى الخارجي استوعبت كم كنت قريباً من البعيد، كم كان "هناك" "هنا".
لم يعد ثمة شيء فردي، فكل شيء يشير إلى المجموع وليس هناك من مجموع، فكل شيء ينحو نحو الحميمية. امتدت رحلتي على طرقات متعددة حملتها على أكتافي مراراً، وهويتي الممنوعة التي تمردت على أي تقليص "للمنفى والعودة" ،كانت في أزمة. لم نعد نعلم من منا الذي هاجر، نحن أم الوطن. والوطن الذي اختار مسكنه فينا رأى صورته تتطور مع نضوج عكسه الذي يخاصمه. كل شيء يُفسّر بعكسه، والنرجس المجروح سوف ينبت بكثرة وعفوية فوق جوانب الطريق.
أخذت اللغة مكان الحقيقة، ورحلت القصيدة في البحث عن أسطورتها عبر تراث الإنسانية، واندمج "المنفى" في أدب التيه، لا ليعطي نار المأساة الشخصية مشروعية ولكن كي يلحق بالإنساني. وهنا لاحقنا الإسرائيليون بزعمهم أنهم وحدهم المنفيون العائدون بينما الفلسطينيون الذين لاقوا مزابل الأرض العربية لا يعانون من منفى. هكذا حُرمت الضحية مرة أخرى من اسمها.
كانت الضحية الوحيدة تمتلك حق خلق ضحيتها الخاصة وأوجد المنفىّ الوحيد منفيّه الخاص.
سوف أجد الفرصة بعد ربع قرن كي أشاهد جزءاً من وطني. غزّة التي لا أعرفها إلا من خلال قصائد "معين بسيسو" الذي صنع منها جنته.
الطريق التي توصل إلى غزّة عبر الصحراء تُغرق المسافر في وحدة لا يقطعها بين الفينة والفينة إلا بعض النباتات الصحراوية، وشجر النخيل الملتهب، ونصب تذكاري مصنوع من هيكل دبّابة، والبحر عن يسارك.
أحاسيسي في ذلك اليوم تنقلت بين البرود العقلاني والارتباك الذي يدرك الفرق بين الطريق وبين هدف الطريق. في العريش أصبح النخل بستاناً على حين غرة، فعرفت بأنني أقترب من هذا المجهول الذي تمنيت أن يبقى مجهولاً. حينها بدأ قلبي يفلت من عقلي وقلت: لنسارع، لنسارع كي نصل قبل المغيب.
- صبراً، صبراً ... أجابني وزير الثقافة ورفيقي في الرحلة. صبراً، الوطن على قاب قوسين أو أدنى، والوطن ليس شيئاً غير خفق فؤادك وتوجساتك.
قلت: لعله ليس إلا هذه الليلة التي يحضّر فيها الحلم نفسه كي يتحقق .
لا أحلم بشيء. هنا تبدأ فلسطين الجديدة. حاجز إسرائيلي، سيارة "جيب" عسكرية، علم وجندي يسأل السائق بعربية رخوة: من تقلّ؟
- وزير وشاعر.
أحاذر أن أنظر إلى كاميرات المصورين الباحثة عن فرحة العائدين. كشافات المستوطنات الضوئية واستحكامات الجنود على جانبي الطريق تحرقني، وعندما أعلن عن دهشتي للبتر الجغرافي والخلط الذي يعتور صورة المكان، ينتظر تساؤلاتي جواب حاضر جاهز يقول: غزة وأريحا أولاً، نحن ما زلنا في أول الطريق، في بداية الأمل.
لم يكن مسموحاً لي أن أذهب إلى أريحا، فهل كان لي أن أحلم برؤية الجليل، هويتي الشخصية، من جديد ؟
- "يشترط الإسرائيليون عليك لزيارة الجليل شروطاً أخجل من أن أذكرها لك"
هذا ما قاله لي صديقي الكاتب " إميل حبيبي " الذي لم يكن يعلم بأنه سوف يقضي بعد سنتين، وبأن دفنه سوف يعطيني فرصة حزينة لفرحة قصيرة في ربوع فلسطين. يومها أعطوني تصريحاً بالإقامة ثلاثة أيام كي أؤبن صديقي الراحل وألاقي بيت أمي. يومها أكلتني نار العودة وقلت: من هنا خرجت وإلى هنا أعود. ثم رأيت كيف يستطيع الإنسان أن يولد مرة ثانية، وكان المكان قصيدتي.
لم يكن ينقصني شيئاً في نوبة هذه الولادة الجديدة كي أحقق موتي الموعود. ولكني كنت أعلم بأن الحقيقة التي تعرّت من الأسطورة ما تزال بحاجة للماضي وبأن التحرر من الأسطورة ما يزال بحاجة للمستقبل. أما الحاضر فلم يكن إلا زيارة قصيرة يعود بعدها الزائر كي يرحل نحو توازنه الصعب بين منفى مكره عليه ووطن بأمس الحاجة إليه. هنا لا يعارض المنفى الوطن، ولا يكون الوطن عكس المنفى.
لم أعد بعد، والطريق لما تنته بعد كي أعلن عن بداية الرحلة ....
________________________
- المصدر: مقال كتبه الشاعر الفلسطيني "محمود درويش" لمجلة
GEO الفرنسية. عدد 243 أيارمايو
2006-06-17
عن الوطن والمنفى
أم محمود درويش تتحدث لـ الشرق الاوسط عن ابنها الأغلى وتغنيه شعراً
تحولت قصيدة «أحنّ إلى خبز أمي» التي كتبها محمود درويش من وراء قضبان سجنه الإسرائيلي عام 1965 إلى واحدة من أشهر القصائد العربية الحديثة، بعد أن غناها مارسيل خليفة ورددها ملايين العرب من المحيط إلى الخليج. وبسبب شهرة هذه القصيدة بات الجميع يسأل عن والدة محمود درويش وأخبارها، في ما يكتفي الشاعر الخفر بطمأنة قرائه على حال ملهمته، بكلمات مقتضبة. «الشرق الأوسط» زارت هذه الوالدة التسعينية في بيتها، وحاورتها بعد أربعين سنة من الصمت.
قطعت والدة محمود درويش، على نفسها وعداً بالصمت دام أربعين سنة، رفضت خلالها اجراء أي حديث صحافي. لكنها وافقت بعد محاولات، على التحدث الينا، شارحة: «شو بدي احكيلك. ما ضل عندي نِفْس للحكي. طلعة محمود مش هوينة عليّ؟ الله بيعلم، بشكي أمري لله. نصيبه انه يعيش بهديك البلاد. 37 سنة في الغربة»، تقول بصوتها الهادئ تارة والغاضب تارة أخرى.
بلغت التسعين من العمر. الزمن بأحداثه الدراماتيكية حفر أخاديد على وجنتيها وترك اثره بعض الشيء على صحتها. لكنها مثل الصبايا تصر بعناد على استقلاليتها والاعتماد على نفسها، ترفض بشدة اية مساعدة قد يعرضها ابناؤها او بناتها. تعيش في بيت مستقل، بناءً على رغبتها، في قرية «جديدة الجليلية» الى جانب بيوت اولادها. عندما وصلنا للقائها كانت «مشمرة» ثيابها، وقد انهت للتو أعمالها المنزلية، في يوم شتائي مشمس. أردنا مقابلتها لنتعرف على الجانب الانساني من شخصية ابنها محمود، أو لنتعرف عليها كأم لشاعر كبير، لا بد كان لها دور كبير في بناء شخصيته، فوجدنا أنفسنا إزاء أم صبور، شاعرة ومربية لجيل من المبدعين. ما زالت تتمتع بذاكرة خصيبة، وتسهب في الحديث عن «محمود الغالي»، هكذا تصفه، «كل عمره يحب الحرية. الدنيا ما كانت واسعته. ترك البيت وهو في الثأمنة عشرة من العمر ليسكن في حيفا. اسرائيل منعته من مغادرة حيفا من مغيب الشمس حتى شروقها، لكنه ما قاطعني. كان يصل إلي في النهار، يقول لي: يما جاي بس أشوفك. دقائق معدودة ويرجع لحيفا. بعدين ما تحمل العيشة هون. ترك من دون ما يخبرنا انه رايح ومش راجع. عرفنا بعدين من الاذاعة ان جمال عبد الناصر استقبله في مصر».
تكلمت بألم شديد، كما لو ان محمود غادرها للتو. فالحديث عن هذا الغياب يحرك فيها جرحا نازفا. فنضطر الى الانتقال لموضوع آخر، عنها هي. ونكتشف انها تجيد الغناء الفلكلوري وتؤلف الكثير منه. سنوات طويلة رددت الأغاني في الأفراح العائلية، وفي كل عرس كانت هناك أبيات، تخصصها لمحمود. تروي لنا انه في حفل زفاف حفيدها البكر اتصل محمود ليهنئهم، وصادف ذلك وقت الزفة، فتركت خط الهاتف مفتوحاً، لتغني له على مسمعه ومسمع الحاضرين:
«محمود الدرويش يا سيفين يوم الحرب
يا شمع مكّة يا قمر ضاوي ع الدرب
اطلع ع الخطاب يا قوي القلب
أضرب بسيفك وعليّ مشانق ع الدرب».
«في كل عرس بغني له وفي كل مناسبة نبكي لأنه مش معنا» تضيف. ولكي تنقشع غيمة الحزن، تغير ابنتها وكنتاها اللواتي حضرن اللقاء، الموضوع قائلات: «هل عرفت الآن من أين موهبة الشعر التي يمتلكها محمود؟ انها من والدته. وعندما نسألها من أين تعرف كل هذا فتجيب مازحة: «من حليب أمي».
محمود هو الثاني بين ثمانية أشقاء. اخوه البكر أحمد، يكتب القصة والشعر، والأصغر منه زكي يكتب القصة. الاثنان يحظيان باحترام كبير في الساحة الأدبية المحلية. والشقيق الأصغر، نصوحي، نشر عدة خواطر ونظم عدة قصائد. عائلة حميمية، لكن غياب محمود عنها يترك آلاما شديدة لديها خاصة وانه يحتاج في كل مرة الى تصريح من اسرائيل لزيارتها. فالشاعر الذي يستطيع ان يلف العالم، لا يمكنه عبور الحاجز العسكري من رام الله، ليصل الى والدته وأشقائه في الجليل.
زيارته الاولى الى عائلته جاءت بعد 28 عاماً من قراره مغادرة الوطن والانضمام الى صفوف منظمة التحرير الفلسطينية. حضوره جاء بعد اتفاقيات اوسلو، وكان بمثابة عرس حضره آلاف من فلسطيني 48. بعدها كل المحاولات للحصول على تصريح لمحمود فشلت، لكن الموافقة جاءت أخيرا بعد ست سنوات من زيارته الاولى بسبب مرض شقيقه، وقد اضطرت العائلة الى ارفاق تقارير طبية من المستشفى الذي يعالج فيه ابنهم مع طلب التصريح بالزيارة.
لكن كيف تعيش العائلة شهرة ابنها؟ الشقيق الأكبر أحمد يجيبنا: «نحن اناس عاديون. اسم محمود يؤثر علينا، لكن ليس بالشكل الذي يتوقعه الناس. نحن عائلة طبيعتها الخجل والتواضع. فأنا وشقيقي زكي نكتب الأدب لكننا لا نبحث عن الأضواء. كنت مدير المدرسة الثانوية في جديدة لسنوات طويلة، اصدرت كتابين، وقريباً سيصدر لي ثالث عن خروجنا من «البروة»، لكن عندما أعّرف بنفسي أكتفي بلقب المربي. هكذا ايضاً اخي زكي».
لم توجه والدة محمود درويش كلمة عتاب واحدة له، فهي مؤمنة ان هذه مشيئة الله: «الذي يعلم بحالي.. ع العيد والله بسكر قلبي، بصير مثل الفحمة. لأنه شو هالعيد اللي ما منشوف فيه ولادنا؟ فمحمود لم يكن معنا 70 عيداً». عندما تطلق سجيتها للحديث عنه لا تذكره إلا بالخير، تتكلم عن جرأته وحبه لوطنه ورفضه للظلم، عن اعتزازها به: «أنا لمن بشوف قديش ناس بتحبو برفع راسي فيه». وتخبرنا الأم أن بذور الشعر عند محمود ظهرت وهو في العاشرة. فعندما حضر الى قرية دير الأسد، وفد من ضباط الجيش الاسرائيلي، وفي مقدمتهم الحاكم العسكري «يتفقدون أمر الرعية»، ويتفحصون مدى اخلاصها للدولة العبرية، كالعادة، استقبلهم المختار بالترحاب والنفاق ومعه مجموعة من شعراء الزجل الذين رحبوا بحضرة القائمقام قائلين: «احنا بحضرة القائمقام زدنا عدالة».
الفتى محمود كان واقفاً يراقب الحدث، لكنه لم يسكت ورد على الزجال من بين الجموع، بكلمات على نفس البحر والقافية قائلاً: «احنا بحضرة القائم مقام زدنا همالة». وقعت هذه الكلمات كالصاعقة، وبدا المختار محرجاً أمام الحضور، مبرراً لهم: «هذا الفتى ليس من قريتنا انما هو لاجئ»، وأمر بجلبه حتى يعتذر. لكن الحاكم العسكري استخدم ذكاءه واعترض، فيما كان الصغير محمود يفر من المكان، وقد غمره الأهل بالحب والإعجاب، واصبح أشهر فتى في المنطقة. لكن ما فعله محمود، كلف والده الفصل من عمله، في وقت كان ايجاد عمل فرصة نادرة.
عندما يحدثنا الابن البكر للعائلة أحمد درويش عن والدته، يذكر بأن لها شخصية قوية جداً «لكنها اصبحت تحترف الحزن منذ أن هجرنا قريتنا «البروة ». فهناك العائلة كانت ميسورة. التشرد والخروج لم يكن سهلاً عليها، وقد ترك في نفسها جرحا عميقا. اضافة الى ذلك فان اثنين من ابنائها يعيشان في الغربة وهي بشوق دائم لهما. اما هي فعندما تحدثنا عن «البروة»، تتحدث بغضب، ملقية باللوم على القيادات التي كانت السبب. عندما سالناها هل تزورين «البروة»؟ أجابت بنفس الحدة: «ولا بدي ازورها. اللي قدنا ميت مرة نسيوها. راحت البيوت وراحت الأرض وما حدا طلع بايده اشي. ناس بقيت وناس تشردت وماتت غريبة بلاد. حدا بغدر يفوت ينقب بيت عشب من ارضه هناك؟ واليهود بيعمروا فيها بيوت. لو انا بقينا مش كان أحسن؟ كان بعدنا قاعدين ببيوتنا وباراضينا».
أم أحمد ما زالت مشردة عن قريتها، تعيش مع أولادها في قرية جديدة القريبة. بيتها يقع على طرف البلدة، بمحاذاة الشارع الرئيسي، وكأنا بها تقف على قارعة الطريق تنتظر العودة الى البروة. بيت متواضع وأنيق. حوله قطعة أرض مرعية بعناية شديدة. رغم مسحة الحزن التي لا تفارق أم أحمد، كانت آثار الفرحة التي غمرتها في عيد الأضحى الأخير، بادية على محياها. فقد زارها محمود، بعد غياب زاد عن خمس سنوات. السلطات الاسرائيلية سمحت له بذلك.
«محمود انهى المدرسة الثانوية في دير الأسد وراح سكن بحيفا «تقول والدته. «هاي رغبته، وما بيطلع بايدي اشي». في حيفا مارس نشاطه الوطني والسياسي الذي كلفه السجن والتعذيب عدة مرات، وفرض الاقامة الاجبارية وزيارات الشرطة الليلية، التي انجبت المزيد من القصائد التي طبعت في أذهان الكثيرين وكانت انطلاقته كأحد أبرز شعراء المقاومة. عندما تلتقي والدته، من السهل عليك ان تعرف، لماذا كتب لها محمود قصيدته الشهيرة «أحنّ الى خبز أمي» من داخل جدران سجنه سنة 1965. وهنا تروي لنا ام احمد كيف تصرف محمود في احدى المرات، حين حضر رجال الشرطة لاعتقاله في ساعات الصباح الباكر. عندما طلبوا منه مرافقتهم قال لهم: لا استطيع قبل ان اشرب القهوة واستحم فعليكم الانتظار. وهكذا كان.
ولد محمود درويش وثلاثة من اخوته في قرية «البروة». ويوم اقترب الجيش الاسرائيلي من القرية طلبت القيادة العربية من السكان المغادرة لفترة قصيرة، بينما تقضي على الكيان اليهودي الغريب. وبدأت رحلة العذاب والتشرد. توجهت العائلة مع اولادها، أكبرهم ست سنوات واصغرهم 4 أشهر، بينهم محمود، لتعبر الحدود وتصل الى قرية «رميش» في لبنان وواصلوا الطريق مشياً الى «بنت جبيل» حتى حطت العائلة في «جزين». بعد سنة من المحاولات نجحت العائلة في العودة الى فلسطين، فوجدوا بلدتهم وقد افرغت من سكانها. الأمر الذي اضطرهم للعيش في دير الأسد 15 عاماً. بعدها استقرت العائلة في قرية «جديدة» على بعد كيلومترات من القرية الأم التي بني فوق اراضيها كيبوتس «احيهود» ليمحي اسم «البروة» عن الخريطة.
الأخ أحمد يحدثنا ان محمود نظم الشعر والقاه وهو في الابتدائية، احدى قصائدة كانت عن معلمه للغة العربية، الشاعر المرحوم شكيب جهشان. أحمد يعزو ذلك الى اهتمام عائلة والديه قبل 48 بما يدور في المنطقة. «جدي لوالدي كان عنده مضافة في «البروة» يحضر اليها الكثير من الناس، يتحدثون في السياسة والصراع اليهودي ـ العربي. وجدي لأمي كان زعيماً في الدامون له مكانته. لقد نشأنا في بيئة مختلفة. كل الوقت كان جدي يحثنا على قراءة الصحف والمطالعة، ربما هذا احد أسباب ميولنا الثقافية».
* قصيدة درويش عن أمه
أحنُّ إلى خبز أُمي
وقهوة أُمي
ولمسة أُمي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشَقُ عمرِي لأني
إذا مُتُّ،
أخجل من دمع أُمي!
خذيني، إذا عدتُ يومًا
وشاحًا لهُدْبِكْ
وغطّي عظامي بعشب
تعمَّد من طهر كعبكْ
وشُدّي وثاقي .. بخصلة شَعر ..
بخيطٍ يلوِّح في ذيل ثوبكْ ..
عساني أصيرُ إلهًا
إلهًا أصيرُ ..
إذا ما لمستُ قرارة قلبك !
ضعيني، إذا ما رجعتُ
وقودًا بتنور ناركْ ..
وحبل غسيل على سطح دارك
لأني فقدتُ الوقوفََ
بدون صلاة نهارك
هَرِمْتُ، فردّي نجوم الطفولة
حتى أُشارك
صغار العصافير
درب الرجوع .. لعُش انتظارِك !
نقلا عن موقع جريدة الشرق الاوسط
نقلا عن موقع جريدة الشرق الاوسط
Subscribe to:
Posts (Atom)