2007-05-27

في حضرة الغياب

سطراً سطراً أنثرك أمامي بكفاءة لم أوتها إلا في المطالع/وكما أوصيتني، أقف الآن باسمك كي أشكر مشيعيك إلى
هذا السفر الأخير، وأدعوهم إلى اختصار الوداع والانصراف إلى عشاء احتفالي يليق بذكراك/
فلتأذن لي بأن أراك وقد خرجت مني وخرجت منك، سالماً كالنثر المصفى على حجر يخضر أو يصفر في غيابك.
ولتأذن لي بأن ألمك، واسمك، كما يلم السابلة ما نسي قاطفو الزيتون من حبات خبأها الحصى.
ولنذهبن معاً أنا وأنت في مسارين: أنت، إلى حياة ثانية، وعدتك بها اللغة، في قاريء قد ينجو من سقوط نيزك على الأرض.

وأنا، إلى موعد أرجأته أكثر من مرة، مع موت وعدته بكأس نبيذ أحمر في إحدى القصائد.فليس على الشاعر من حرج إن كذب.وهو لا يكذب إلا في الحب، لأن أقاليم القلب مفتوحة للغزو الفاتن.

أما الموت، فلا شيء يهينه كالغدر:اختصاصه المجرب.فلأذهب إلى موعدي ، فور عثوري على قبر لا ينازعني عليه أحد من غير أسلافي، بشاهدة من رخام لا يعنيني إن سقط عنها حرف من حروف اسمي، كما سقط حرف الياء من اسم جدي سهواً.
ولأذهبن، بلا عكاز وقافية، على طريق سلكناه، على غير هدى، بلا رغبة في الوصول، من فرط ما قرأنا من كتب أنذرتنا بخلو الذرى مما بعدها، فآثرنا الوقوف على سفوح لا تخلو من لهفة الترقب لما توحي الثنائيات من امتنان غير معلن بين الضد والضد.
لو عرفتك لأمتلكتك، ولو عرفتني لامتلكتني، فلا أكون ولا تكون.
هكذا سمينا، بتواطؤ إيقاعي، ما كان بيننا من هاوية سفحاً.ونسبنا إلى كتب قرأناها عجزنا عن الوصول إلى ذروة تطل على عدم ضروري لاختبار الوجود يا صاحبي!
يا((أنا))ي النائم على بزوغ البياض من أبدية، وعلى تلويح الأبدية ببياض لا لون بعده.
فبأي معنى من معانيك أقيم الشكل اللائق بعبث أبيض؟وبأي شكل أحمي معناك من الهباء...ما دامت رحلتنا، أقصر من خطبة الكاهن في كنيسة مهجورة، في يوم أحد، لم يسلم فيه أحد من غضب الآلهة؟
لكنك مسجى أمام، أعني في كلامي الخالي من عثور الاستعارات على مصادرها، وعلى رابط خفي بين أرض متدينة، وسماء وثنية.
من هناك إلى هناك يرحل الغيم برفقة قمر لم يحرمنا افتضاح سره الصخري من تذكر حب سابق.
ولم يمنعنا جفاف القلب من مداواة أوجاع المفاصل بذكرى التمدد على العشب، تماماًً كما أنت مسجى أمامي في كلامي الذي لن يخذله غد شخصي كف عن الخداع، لا لأنه تأدب وتهذب، بل لأنه يحتضر الآن ويصير إلى خبر، لا عدو له ولا صديق...خبر عن مسافرين اثنين، أنت وأنا، لم يفترقا في مرآة أو طريق... لم يفترقا إلا لساعات يتأكدان خلالها من سطوة الأنثى على الذكر/حيث يرى المرء نفسه في حرائق البرق، كما هي، معافاة مصفاة من شوائب التشبيه بما ليس موتا يحي...وحياة تحيا على حصة العاشق من سخاء المودة بين المخلوق والخالق.
فلا جنة معلنة بالحواس وبالحدس سوى العاشقة،ولا جحيم إلا خيبة العاشق.
فلتأذن لي، إذاً، ونحن نفترق على هذا البرزخ، بأن أفسخ العقد المبرم بين عبث وعبث، فلا نعلم من انتصر منا ومن انكسر، أنا أم أنت أم الموت، لأننا لم نعترف من قبل، لننتصر، بأن العدو أذكى منا وأدهى، فلا شيء يغوي الهزيمة أكثر من مجافاة هذا الاعتراف، يا صاحبي المترف بالأوصاف النقيضة، المسرف في البحث عن عبث لا بد منه لتدريب النفس على التسامح، ولتحظى بنعمة التأمل في ماء يضحك في الغمازات، ويطير فراشات فراشات تخلق الشعر من كل شيء حي.
فالخفة، كالندى، قاهرة المعدن، وعذراء الزمن، هي التي تدرب الوحش على النفخ في النايات/
فلا تصالح شيئاً إلا هذا السبب المبهم، ولا تندم على حرب أنضجتك كما ينضج آب أكواز الرمان على منحدرات الجبال المنهوبة، فلا جهنم أخرى في انتظارك.
ما كان لك صار عليك/
وعليك أن تدافع عن حروف اسمك المفككة، كما تدافع القطة عن جرائها.
وعليك ما عليك:أن تدافع عن حق النافذة في النظر إلى العابرين، فلا تسخر من نفسك إن كنت عاجزاً عن البرهان، الهواء هو الهواء ولا يحتاج إلى وثيقة دم.
ولا تندم..لا تندم على ما فاتك، حين غفوت، من تدوين لأسماء الغزاة في كتاب الرمل، النمل يروي والمطر يمحو، وحين تصحو لا تندم لأنك كنت تحلم، ولم تسأل أحداً:هل أنت من القراصنة؟لكن أحداً ما سيسألك:هل أنت من القراصنة؟ فكيف تزود البديهة بالوثائق والبنادق، وفيها ما يكفيها من محاريث خشبية، وجرار من فخار، وفيها زيت يضيء وإن لم تمسسه نار، وقرآن، وجدائل من فلفل وبامية، وحصان لا يحارب/
فلا تعاتب أسلافك على ما أورثوك من براءة النظر إلى التلال بلا استعداد لتلقي الوحي من سماء خفيضة، بل لعد النجوم على أصابع يديك العشر.
فأنى لك أن تثبت البديهة بالبرهان، والبرهان متعطش لنهب البديهة تعطش القرصان إلى سفينة ضالة؟
البديهة عزلاء كظبي مطعون بالأمان، مثلك مثلك، في هذا الحقل المفتوح لعلماء الآثار المسلحين الذين لم يكفوا عن استجوابك:من أنت؟ فتحسست أعضاءك كلها، وقلت:أنا أنا.

قالوا:ما البرهان؟فقلت:أنا البرهان.فقالوا:هذا لا يكفي، نحتاج إلى نقصان.فقلت:أنا الكمال والنقصان.فقالوا:قل إنك حجر كي ننهي أعمال التنقيب، فقلت لهم:ليت الفتى حجر، فلم يفهموك/
وأخرجوك من الحقل.أما ظلك، فلم يتبعك ولم يخدعك، فقد تسمر هناك وتحجر، ثم أخضر كنبتة سمسم خضراء في النهار، وفي الليل زرقاء/
مهما نأيت ستدنو/ومهما قتلت ستحيا/فلا تظنن أنك ميت هناك/وأنك حي هنا/فلا شيء يثبت هذا وذلك إلا المجاز/المجاز الذي درب الكائنات على لعبة الكلمات/المجاز الذي يجعل الظل جغرافيا/والمجاز الذي سيلمك واسمك/فاصعد وقومك/أعلى وأبعد مما يعد تراث الأساطير لي ولك/اكتب بنفسك تاريخ قلبك/منذ إصابة آدم بالحب/حتى قيامة شعبك/واكتب بنفسك تاريخ جنسك/منذ اقتبست من البحر إيقاعه ونظام التنفس/حتى رجوعك حيا إلي/فأنت مسجى أمامي/كقافية غير كافية لاندفاع كلامي إليك/أنا المرثي والراثي/فكني كي أكونك/قم لأحملك/اقترب مني لأعرفك/ابتعد عني لأعرفك!

عندما يبتعد

للعدوِّ الذي يَشربُ الشَّاي في كوخِنا
فَرسٌ في الدُّخانِ.وبنْتٌ لها
حاجبانِ كَثيفانِ.عَينانِ بنِّيتان.وشَعرٌ
طَويلٌ كَليلِ الأغاني عَلى الكَتفينِ.وصُورَتها
لا تُفارقهُ كُلَّما جَاءنا يَطلبُ الشَّاي.لَكنَّه
لا يحدثُنا عَن مَشاغلها في المساء، وعَن
فَرسٍ تَركتهُ الأغَاني عَلى قِمَّة التلِّ.../

...في كُوخنا يَستريحُ العدوُّ من البُندقية،
يَتركها فَوق كُرسيِّ جدِّي.ويَأكل مِن خُبزنا
مِثلما يفعل الضَّيفُ.يغفو قليلاً عَلى
مِقعد الخيزرانِ.ويحنو على فَروِ
قطَّتنا.ويقول لنا دائماً:
لا تَلوموا الضحيَّة!
نَسأله: مَن هيَ؟
فيقول: دمٌ لا يجفِّفه الليلُ.../

... تلمَع أزرارُ سُترتهِ عِندما يَبتعدْ
عِمْ مَساءً! وسلِّم على بِئرنا
وعلى جهة التين.وامْش الهُوينى على
ظلِّنا في حُقول الشَّعير.وسلِّم على سَروِنا
في الأعالي. ولا تنسَ بوَّابة البيتِ مفتوحةً
في الليالي. ولا تَنْسَ خوفَ
الحصان منَ الطَّائرات،
وسلِّم علينا، هُناك، إذا اتَّسع الوقتُ.../

هذا الكَلامُ الذي كَان في ودِّنا
أن نقولَ على الباب...يسمعه جيَّداً
جيَّداً، ويخبِّئه في السُّعال السَّريع
ويلقي بهِ جانباً.
فلماذا يَزور الضَّحيةَ كلَّ مساءٍ؟
ويحفظ أمثالنا مِثْلنا،
ويعيد أناشيدنا ذاتها،
عن مواعيدنا ذاتها في المكان المقدَّس؟
لولا المسدسُ
لاختلط النايُ في النايِ.../

...لن تنتهي الحربُ ما دامتِ الأرض
فينا تدورُ على نفسها!
فلنكن طيِّبين إذاً. كان يسألنا
أن نكون هنا طيِّبين. ويقرأ شعراً
لطيَّار((ييتس)): أنا لا أحبُّ الذينَ
أدافعُ عنهم، كما أنني لا أُعادي
الذينَ أحاربهم...
ثم يخرج من كوخنا الخشبيِّ،
ويمشي ثمانينَ متراً إلى
بيتنا الحجريِّ هناك على طرفِ السَّهل.../

سلِّم على بَيتنا يا غَريب.
فَناجين ُ
قَهوتِنا لا تزال على حالها. هل تشمُّ
أَصابعنا فوقها؟ هل تقول لبنتكَ ذات
الجديلةِ والحاجبين الكثيفين إنَّ لها
صَاحباً غائباً،
يتمنَّى زيارتها، لا لشيءٍ...
ولكن ليدخلَ مرآتها ويرى سرَّه:
كيف كانت تتابع من بعدهِ عمره
بدلاً منه؟ سلِّم عليها
إذا اتَّسع الوقت.../
هذا الكلام الذي كانَ في وِدِّنا أن نقولَ له، كان يسمعهُ جيداً
جيداً،
ويخبِّئه في سُعالٍ سريعٍ،
ويُلقي به جانباً، ثم تلمعُ
أزرار سترتهِ عندما يبتعدْ...

حوار معه

يشبه نفسه بشكل مدهش: في الحياة كما في القصيدة. تسأله عن ذاته فيحيلك إلى الجماعة. تضعه في مواجهة الجماهير، فيستلّ ذاتيّته جسراً أكيداً للتواصل، خارج راهنيّة القصيدة التي «تعاند الزمن»...
محمود درويش الذي يدعو معاصريه إلى التغلّب على هوس الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد، خصّ «الأخبار» بحديث مسهب في شؤون القصيدة وشجون صاحبها الواقف «في حضرة الغياب»
«يا أهل لبنان الوداعا» هذا ما قاله محمود درويش، قبل 25 سنة، في قصيدته الشهيرة «مديح الظل العالي». لكنه عاد أكثر من مرة إلى بيروت ليلتقي جمهوره وأصدقاءه. سلك طرقاً مختلفة وغيّر وجهة سير قصيدته أكثر من مرة. انخفض الصوت العالي في نبرته. تخفّف شعره من حمولات رمزية ونضالية مباشرة. صاحب «أحمد العربي» و«جواز سفر» صار يكتب «بقايا كلام على مقعدين» و«ورد أقل». «الأخبار» التقت درويش بعد الأمسية التي أحياها في «معرض بيروت العربي الدولي للكتاب» قبل أسبوعين

* تقديمك في الأمسيات الشعريّة قد يخلق بعد التشوّش لدى الجمهور... ما يلزمك بمهمّة رفع سوء التفاهم

يفترض بالمقدم أن يمهّد للعلاقة الحميمة التي سيخلقها الشاعر مع جمهوره. بعض المقدّمين ينجح في هذا، وأحياناً أشعر بأنه قال كلاماً مهماً في شعري. لكن ما يسيء إليّ هو أن يحدد المقدم صورة مسبقة، أو قراءة نمطية للشاعر. أقدم أحياناً كشاعر قضية، وأنا أقوم بقراءة شعر مخالف لهذه الصورة. أعتقد أن الجمهور لم يعد يكترث بالمقدمات. بوسع الشاعر بسرعة أن يزيل سوء التفاهم الذي قد تخلقه المداخلات السابقة لاعتلاء المنبر. لكنني ممتن دائماً لمن يقدمني، سواء أفرط في
التأويل السياسي أو أفرط في التأويل الجمالي، وفي اعتقاده أنه يحسن فعلا .

* يتعامل معك كثيرون كشخصية اعتبارية، لا كشاعر أو كإنسان عادي... هل تعاني من هذا الأمر ؟

نعم، أعترف بذلك. غالباً ما أُقَدَّم محاطاً بعوامل تاريخية وخارجية وسياسية مرهقة. كأني ممثل أخلاقي أو سياسي لقضية اتفقنا على تسميتها بالمقدسة. هنا الشاعر الذي في داخلي يشعر بالقلق. فأنا ليس لدي أجوبة ولا أحمل مشروعاً سياسياً، ولا أنطق ــــ شعرياً على الأقل ــــ باسم جماعة، وإن كان هذا المستوى موجوداً في الخلفية الشعريّة. لذا أحاول التخفيف من ضغط تلك الحمولة الرمزية: لا بدّ من تناول شعري بشروطه الجمالية العامة، لا بخصوصية انتماء صاحبه. أطالب بأن أعامل كشاعر لا كمواطن فلسطيني يكتب الشعر. تعبت من القول إن الهويّة الفلسطينية ليست مهنة. قد يتكلم الشعر عن قضايا كبرى، لكن علينا أن نحاكمه بخصائصه الشعرية، وليس بالموضوع الذي يتكلم عنه. الشعر يُعرّف جمالياً لا بمضمونه، وإذا تطابق الاثنان فإن ذلك جيد.

* في أعمالك الجديدة نلحظ خفوتاً في النبرة. كأن القصيدة مكتوبة بحميمية ولأشخاص قليلين. هل تحس بأن تلك النبرة لم تعد مناسبة لجمهور كبير؟

أبداً، لأن هؤلاء الآلاف مكونون من ذوات صغيرة. ليس من حقنا أن نعامل الجالسين في القاعة على أنهم كتلة مجرّدة من الخصائص الفردية. عندما أكتب عن ذاتي، أحس بقدرة مخاطبة أقوى مما لو كنت ألقي قصيدة حماسية أفترض فيها أن الكل يجتمع في واحد. عندما أكشف ذاتي الشعرية، أشعر براحة أكبر، وأحس بأني أقترب أكثر من مفهوم الشعر، وأقترب أكثر من مزاجي الشخصي أمام هؤلاء الآلاف، كل على حدة، ومجتمعين معاً. أعتقد أن الشاعر هو الذي يضبط إيقاع القاعة. أنا لا أذهب إلى هموم شخصية أو تفاصيل لا تعني الآخرين. تبدو القصيدة مجرد لعبة تقوم على تقشف بلاغي ماكر، لكن هناك دائماً معنى متخفٍّ وراء هذا اللعب. ما يبدو أحياناً مجانياً في النص ليس كذلك. العلاقات بين عناصر القصيدة محكومة بذكاء الشاعر في البحث عن معنى للوجود والحياة.

* هل عطّل حضورك الاعتباري أي قراءة نقديّة لشعرك؟

بصراحة، أنا أشكو من الإفراط في التأويل السياسي لشعري، على حساب الانتباه إلى المسألة الجمالية التي ينبغي للنقد أن ينشغل بها أكثر من خطاب القصيدة. لا يغضبني ناقد يشير إلى عناصر سلبية في شعري، بقدر ما يغضبني غضّ الطرف عما ينبغي أن يُقرأ في شعري: ماذا أضاف؟ وما هي مكانته في الشعر العربي الحديث؟ وغيرها من الأسئلة التي أرجو أن يساعدني النقد على معرفة نفسي من خلالها. أشكو أيضاً من تصنيفي وطنياً لا شعرياً. إذا كنت «شاعراً فلسطينياً»، فإنك لا تكتب سوى موضوع واحد هو فلسطين، ونصك مقروء مسبقاً حتى قبل أن تكتبه. لا يطلب الناقد شيئاً محدداً من الشاعر السوري أو العراقي أو المصري، أما عندما يصل إلى الشاعر الفلسطيني فيقرر ما ينبغي عليه أن يكتبه

* حين قدّمك أدونيس في فرانكفورت، قلت إنها المرة الأولى التي تسمع فيها رأيه في شعرك... أليس هذا غريباً؟

أدونيس وأنا قضينا سنوات طويلة معاً. وكانت صداقتنا يومية، ولياقة كل واحد منا كانت تمنعه من إبداء رأيه في الآخر، وهو رأي إيجابي على أي حال. عندما قدمني أمام جمهور ألماني، حيّاني، فرددت له التحية. لكن بشكل عام هناك حزبية في الحياة الشعريّة العربية. يعني إذا كنت تحب نتاج شاعر معين، فعليك أن ترفض نتاج شاعر آخر! أنا لا أحب الشعر الذي يشبه شعري. هناك شعراء يشجعون من يقلدهم ويؤسسون أحزاباً. أعتقد أن المسألة أخلاقية، وتتعلق بقدرة كل واحد منا على الاعتراف بحرية الاختيار، وتعدد الخيارات الموجودة. علينا أن نتخلص من مفهوم الشاعر الأول، أو الشاعر الأوحد. ويجب أن نفعل ذلك في السياسة أيضاً. لا يستطيع طائر واحد أن يحتكر السماء. المشهد الشعري العربي يتسع للتعدد والتجاور والتعايش. هذا ما يصنع تنوعه وغناه. من العبث فرض تيار شعري. لكن العلاقات بين الشعراء العرب ليست صحية للأسف. النميمة أصبحت سمة الثقافة السائدة.

* هل تحس بأن الجملة التي بدأت بها لم تتغير في الجوهر، وأن مكونها الإيقاعي أو الوجداني واللغوي بقي على حاله؟

هذا سؤال صعب. على الشاعر أن يراقب نفسه. أن يكون حذراً من هيمنة مفردات وجمل على تجربته الشعرية. عليه أن ينظف، إذا جاز التعبير، نصه الشعري من تكرار نمطي لا يشكل بالضرورة ملامح قوية في شعره. في لاوعيه اللغوي والبلاغي والاستعاري، قد تكون تسيطر جملة إيقاعية على مسيرة الشاعر. عندما ألاحظ أن هذه الجملة موجودة، أجري عليها تعديلات أو ألغيها. لكن قد لا ألاحظ ذلك، فتبقى تلك الجملة ملازمة لي .

* جملة الشاعر الأولى بمثابة جلد له. وهذا البيان الشخصي يبقى، مهما طرأ على نصّه من تطورات وانعطافات...

إذا نظرنا من هذه الزاوية، هذه ملامح لا تُحذف ولا يجب أن تُحذف. هذا وجهك الشعري أو بصمتك، ومن المستحيل أن تغير سمات البصمة. أعتقد أن الشاعر الذي تُعرف قصيدته من دون أن يوقعها يكون قد كوّن ملامح هوية شعرية خاصة، من دون أن يكرر نفسه. أتحدث هنا عن نَفَس الشاعر وإيقاعه. لكنني لا أعرف إذا كان أمراً جيداً أن يتعرف القارئ إلى قصيدة من دون أن يعرف اسم كاتبها، لكن عكس ذلك يقودنا إلى استخدام أقنعة. أنا أفضل وجهي على القناع، لكن هذا الوجه، أو هذه الأنا، تجري عليها تحولات دائمة من دون أن تصبح عكس ما هي

* قلت مرة إنك تحاول كتابة قصيدة نثر بالوزن. هل تظن أن الفرق بين القصيدتين هو الإيقاع والوزن فقط؟ هل كتابة قصيدة نثر ممكنة بمواد ومكونات إيقاعية؟

الشعر طبعاً يصعب تعريفه. لكن هناك ثوابت في تعريفه مثل الإيقاع. الإيقاع ليس الوزن، بل هو طريقة تنفس الشاعر وموسيقاه الداخلية. الإيقاع ليس حكراً على الوزن. وقد يتأتى من العلاقات بين الحروف والكلمات والدلالات حتى في نص نثري. لذلك لا نستطيع كتابة قصيدة نثر موزونة. خلافي ليس مع قصيدة النثر التي أحبها كثيراً، خلافي هو مع الادعاءات النظرية التي تقول إنه لا شعر ولا حداثة خارج قصيدة النثر. يُقال إن قصيدة النثر مشغولة بالتفصيلي والهامشي واليومي. هذا لا يكفي لتعريف قصيدة النثر، لأن هذا قد يُكتب إيقاعياً وبالوزن التقليدي أيضاً. هذا ما قصدته حين قلت إني أستطيع أن أستوعب خطاب قصيدة النثر في قصيدتي الموزونة. وبالمناسبة هناك سوء فهم لموقفي من قصيدة النثر. أنا من أكثر المعجبين بها، وإن كنت أختلف على المصطلح. أنا أفضِّل أن أقول «القصيدة النثرية» كما أرفض مصطلح «قصيدة التفعيلة» وأفضل عليه تسمية «القصيدة الحرة». للأسف تكرست هذه المصطلحات. تعريف الشعر بات أكثر صعوبة اليوم. فالشعر قد يتسع للسردي والنثري والموسيقي. بعض الشعراء وجد كتابي الأخير «في حضرة الغياب» قصيدة نثر طويلة. هذا يفرحني

* ردّدت مراراً أنك تتمنّى حذف جزء كبير من قصائدك القديمة. ماذا يمكن أن تقول عن أعمالك الحالية بعد عشرين سنة؟ أين منطقة الرضا إذاً؟

هناك شيء واضح بالنسبة إليّ، وهو أني لن أبلغ منطقة الرضا. أنا شديد التطلب وملول من المنجز. وأشعر، صادقاً، بأني لم أصل إلى حدود ما يسمى الشعر الصافي. الشعر الصافي مستحيل، لكن علينا أن نغذي أنفسنا بوهم وجوده. الشعر الصافي متحرر من تاريخيته ومن ضغط الراهن، أي إنه يعاند الزمن. لكنّنا ما زلنا نقرأ، بكامل المتعة، الكثير من الشعر العظيم الذي كُتب في لحظة زمنية عن واقع معين. التاريخ والواقع ليسا، على ما أظن، عبئاً على صفاء الشعر الذي يأتي من طين الحياة، لا من أزهار الفل. الشعر الجيّد يعيش خارج شروطه الزمنية. حين نقرأ هوميروس هل نقرأه في حرب محددة وزمن محدد؟

*... في نصوصك الأخيرة هناك حضور شديد للموت والغياب

أنا أتقدم في السن. لكن من حقي أن أقول إن الحديث عن التقدم في السن يتم بلغة فتية. هناك شعرية فتية في اقترابي من الموت. أليس كذلك؟

*. أظن أن جزءاً من عافيتك الشعرية يعود إلى تحديك المتواصل لنبرتك وعبارتك

أي شاعر يجلس إلى نفسه، ولا يشعر أنه تافه... لن يكتب شعراً مهمّاً. أن تحس بأنك لم تكتب شيئاً ولم تحقق شيئاً هو الحافز الدائم للكتابة. هذه هي ورطة الشعر. أنا أشعر بأني لم أكتب شيئاً. أحاول أن أصحّح ما فعله الزمن بي، وما لم أفعله في الشعر.

... تقول «في بيت ريتسوس»: «ما الشعر في آخر الأمر؟». أريد أن أعرف الجواب منك

الجواب كما جاء في القصيدة ذاتها: «هو الحدث الغامض الذي يجعل الشيء طيفاً / ويجعل الطيف شيئاً / ولكنه قد يفسّر حاجتنا لاقتسام الجمال العمومي». ريتسوس قال «الحدث الغامض»، الباقي من تأليفي.

***

«ديناصورات» التفعيلة؟

يتحدث معظم النقاد عن أزمة في قصيدة النثر، أما التفعيلة فتكاد تكون خارج هذا النقاش. لكن هل هذا يعني أنها بلا أزمة؟ الواقع أن أزمة قصيدة التفعيلة مختلفة، فهي تعاني من مشكلة بقاء في ظل تقدم ممثليها الكبار في السن، وقلة المواليد الجدد فيها.

رغم أن محمود درويش لم يكفّ عن تطوير قصيدته، ورغم أنه يعترض على اعتبار قصيدة النثر خياراً مستقبلياً وحيداًً للشعر، إلا أنه يعترف بأن ما يصدر من النثر -إحصائياً - هو أكثر من التفعيلة، كما أنه يقرّ بأن هذا يشمل جودة ما يُنشر أيضاً. بحسب درويش، الشعر الجيد اليوم أكثره ينتمي إلى قصيدة النثر.

لعل درويش -مع شعراء آخرين كأدونيس وسعدي يوسف -يحمل عبء إطالة عمر قصيدة التفعيلة، وإبقائها على قيد الحياة. كما أن تضاؤل عدد الشعراء الجدد الذين يلتحقون بهذه القصيدة يجعل من هؤلاء الثلاثة آخر ديناصورات قصيدة التفعيلة.

كان يقال إنّ محمد مهدي الجواهري هو آخر الكلاسيكيين الكبار، وإنّ رحيله سيكون إيذاناً بدفن القصيدة العمودية. بهذا المعنى، يمكن القول إنّ درويش وأدونيس وسعدي هم آخر التفعيليين الكبار.

الأخبار
٢٨ نيسان 2007